الأمة التي بلا ذات ولا هوية تتحول إلى كيان مهمل قليلا ما يحترم وكثيرا ما يذل ويهان. الكيان والهوية تتشكل وتترصن من انتماء حقيقي إلى صيرورة ذات هوية لغوية وثقافية وتأريخية وجغرافية. لسنا استثناءا من كل أقوام الدنيا لنخاف ونرهب بوقع صراخ الشوفينية والشعوبية ما دمنا لا شوفينيين ولا شعوبيين، بل بشر يبحثون عن كيان انساني يصبون فيه قدراتهم المختلفة كما يصب الألمان الآريين والهنود والصينيين واليابانيين والفرس نتاجهم وترف علمهم وخبرتهم في إعلاء شأن انتماءهم الإنساني والارتقاء بمستوى مستلزمات الحياة. تحصل الثورة عندما تختل الموازنة وتضيع البوصلة بين القدر والقيمة الحقيقية للأمة وبين ما يصدر عنها من أفعال وحركة تصدي لمعطيات الإدخال والإخراج الحياتية حيث تتدنى في مستوياتها لتصبح عنوانا للبؤس والفقر والدونية. تحصل الثورة عندما تفقد الأمة معاني وجودها الأصيلة وتتحول إلى مستهلك لا يقوى على إشباع أبسط حاجاته الإنسانية. الفكر القومي العروبي عبّر باستمرار وبقوة فكرية وعملية عن الإيمان بأن ثورة العرب قائمة ولن تموت حتى لو بدا عليها مظاهر الضمور والوهن. وقد سجلت الأمة أعلى زخم حضور انساني في العصر الحديث لها يوم تفاعلت مصر الناصرية القومية مع حزب البعث العربي الاشتراكي لتنتج مدا قوميا فرض واقعا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا عبّر بقوة عن الصيرورة التي نتحدث عنها. صيرورة فتحت أمام العرب ممكنات إقامة الفضاء السياسي الذي يؤطر فضاءهم الجغرافي الكائن أصلا وفضاءهم الاجتماعي المتوارث من آلاف السنين. تفاعل مصر القومية مع البعث القومي التحرري بسط نموذج العبور فوق ضفتي البحر الأحمر لأول مرة في تأريخ التطلع العربي بعد أن تمكنت الصهيونية والاستعمار ومصالح متعددة الأطراف والأوجه من قطع تلك الهمزة من الوصل العزيزة على نفس كل عربي والتي أنجزتها نهضة العرب بالإسلام صدرا وخلافة وفتوحات, والتي استخدمها اللقاء الناصري البعثي التأريخي مهمازا وبوصلة لإضفاء الارتكاز المطلوب بين التأريخ وجدلية الترابط الحي والعضوي بين ملاحمه وبين التطلع العربي لتأسيس الكيان العربي الذي يحول الذات القومية من شتات متناثر منهك ومستلب إلى دوائر الاعتداد بالنفس والاقتدار على الولوج في عصر التكوين الحضاري الجديد بعد أن أفقدت أدوات العدوان على الأمة مذاق العسل الذي أنتجه الإسلام على اللسان العربي. فالوحدة العربية هي التعبير الأرقى عن تكوين وصيرورة العرب. قانون الشعب انه يمسك بتلابيب الثورة عندما تنحدر كينونته بكل مكوناتها إلى حضيض الضياع والتيه والسقوط تحت خط الكينونة الأدنى. والخطأ الأكبر الذي ارتكبه سياسيو ومثقفو ومنظرو زمن الانبطاح والاستسلام والخنوع والبيع في أسواق النخاسة، إنهم أوصلوا شعبنا العربي في كل مكان إلى هذا المستوى من الإحساس بالخسارة التاريخية لكل مقومات الوجود ولكل مضامين الكينونة البشرية. لقد أوغلوا في تطبيع الأمة على الجبن وهي أمة ليست جبانة وتمادوا في تجهيلها وهي أمة اقرأ و أمة حضارات شهقت في سماء الدنيا يوم كان العالم كله يسير لاهثا بلا صروح ولا نتاج عالي المقام, أمة بنت مكونات الحضارة في الزراعة والري وأنتجت الحرف والكتب وعممتها على الخليقة وأنتجت العربة والصحن الفخاري، وكانت صلتها بالله سبحانه وتعالى أعظم علامات بروزها حيث وهبها من بين أهلها رسلا وأنبياء يأتون من ذاته المقدسة جلّ في علاه كل قوانين التمدن عبر إنزاله الكتب والديانات واعتماد الأمة بالأعم الأغلب أو حصرا وتحديدا لبثها ونشرها وحفظها فوق صفحات سفر التاريخ الإنساني. أمة أجبرت الدنيا على أن يكون لها تأريخان احدهما روحي والآخر مادي. لقد كان لفرصة الوحدة العربية الأهم في التاريخ الحديث بين مغرب الأمة المصري ومشرقها العراقي السوري مردودين هامين وخطيرين : الأول : إن الوحدة هي الجزء الأهم في الصيرورة التاريخية التي لامناص ولا طريق سواها أمام العرب للدخول في عالم الحداثة وعصر القمم الاقتصادية العلمية والتكنولوجية والصناعية، وإنها حاضرة وممكنة التحقق وليست حلما كما أراد الناتج الاستعماري الامبريالي أن يكرسه كواقع وضيع بعد الحرب العالمية الثانية. الثاني : ÅíÛÇá ÇáÇÓÊÚãÇÑ æÇáÕåíæäíÉ æÇáÇãÈÑíÇáíÉ æÇáãÕÇáÍ ÇáÞÐÑÉ Ýí ÇáÊÕÏí ááÍáã ÇáÚÑÈí æáãÝÑÏÇÊ ÊÍÞÞå ÇáÊí ÈÇäÊ Ýí æÍÏÉ ÇáÚÑÇÞ – ÓæÑíÇ – ãÕÑ ææÖÚ ÈÑÇãÌ ÂäíÉ æÈÚíÏÉ ÇáãÏì áÅÑÛÇã ÇáÚÑÈ Úáì ÇáíÃÓ æãÛÇÏÑÉ Íáã ÇáæÍÏÉ æÇáÑÖæÎ áÞÏÑ ÃÍãÞ ÇÓãå ÇáÞØÑíÉ¡ Èá æÇáÊåíÄ áÞÈæá ÇáãÒíÏ ãä ÇÍÊãÇáÇÊ ÇáÔÑÐãÉ.. ãä Ãíä ÌÇÁÊ ãÕÇÏÑ ÇáÑÏ Úáì æÍÏÉ ÇáÚÑÈ ¿: الصهيونية وكيانها المسخ: حيث استثمرت كل مقومات الاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والخطط الإستراتيجية المولودة في مراكز البحث المتخصصة لتكون تحت تصرف الحركة الصهيونية لكي تضمن بقاءا وديمومة وأمنا لكيانها المزروع عدوانا وظلما في قلب وطننا. النظرية والتطبيق الصهيوني هنا يغفل تماما قانون الثورة ويتجاهل إرادة الشعب ويؤسس على قناعة قاصرة هي إن القوة الغاشمة كفيلة بإلغاء إرادة الشعب بسطوة القوة وبتغييب إقحامي وافتراضي لقوانين الثورة. ثورة الشعب المصري العظيمة تبرهن الآن إن كل القدرات التي وظفت لإنجاح برنامج الصهيونية في الإفقار والتجهيل والاستضعاف لم تكن كافية لإنهاء جدل الثورة وديالكتيك الصيرورة التاريخية العربية التي قد تمرض لكنها قابلة للارتقاء فوق عوامل السقم وقلب كل الموازنات رأسا على عقب في اللحظة التاريخية التي تتعانق بها الإرادة الحرة مع كل ممكنات وكل عوامل الثورة. وجدل الثورة أيضا يقدم لنا نموذجا فريدا في النسغ المتبادل بين إرادة العرب في مختلف أقطارهم فثورة تونس لم تلبث أن سرت وكأنها نسغ حياة متجانسة كتلك التي يبعثها الماء بعد أن يسري في جسد الأرض الماحلة. الدين السياسي والطائفية السياسية: كانت مؤامرة تسييس الدين اخطر من زرع الصهيونية ليس لأنها أرغمت الأمة على التقهقر في عوالم الفرقة اللئيمة والصراع المرير بين مصالح كهنوتية وبين تطلع الشعب المؤمن فقط، بل لأنها فتحت أبواب التدخل الأجنبي للغزو والاحتلالات الجديدة كما حصل في تحالف الدين السياسي أو الطائفية السياسية مع غزو أميركا للعراق لكي يحقق الإسلام السياسي طموحه في استلام السلطة ولو تحت حراب الغزاة ويسيطر على الثروة الوطنية والقومية ولو بالجزء الذي تجود به يد المحتل. إن العداء بين الدين السياسي وبين القومية العربية ووحدة الأمة القومية مولود من بين ثنايا الرغبة الصهيونية في إنهاك الأمة وتمزيق كيانها وتوزيع إرادتها إلى جزئيات حقيرة بائسة. غير إن ثورة العرب الراهنة تؤشر بوضوح إن الظلم الذي مارسه سياسيوا الدين قد اضعف دورهم الجماهيري بل وأحرجهم أمام حقيقة إن حضورهم لم يرتقي إلى مستوى الإسناد الذي توفر لهم عبر سنوات صراعهم المؤسف ضد الإرادة القومية وفكرها الإنساني التحرري المؤمن. التعدد العرقي: استخدمت الورقة العرقية بشكل خاص بعد أن تمكن عبد الناصر والبعث تحقيق حلم الوحدة في مؤامرة وضيعة مضمونها إن الوحدة الجغرافية واللغوية والثقافية العربية ليست متحققة بالمعنى الذي تطرحه حركة البعث إجمالا، وتتبناه بعض أطراف الحركة القومية ومنها الناصرية. الدخول العرقي هنا وضع الأكراد وهم قومية عاشت متآخية مع العرب وانصهرت ثقافيا وفكريا بأسمى معاني التفاعل الإنساني الخلاّق معهم في موضع التضاد والتناقض بعد اصطناع هوية ديمقراطية مزورة ومتعفنة تعنى بفرض الفرقة الاجتماعية كبديل للوئام والألفة والتسامح بحيث تحولت الديمقراطية من مصدر قوة للفرد والمجتمع كما يقول القائد العربي صدام حسين إلى بؤرة للتشرذم. لم يدرك المتآمرون إن قانون الثورة الشعبية هو انها لا يمكن أن تغرق أو تتقزم إلى الحد الذي يمرر عليها هذا الهراء وان إرادة الأغلبية الوطنية والقومية ستكون هي الحكم الديمقراطي إن طبقت الديمقراطية بمعانيها ومضامينها السليمة. اغفل الشوفينيون والشعوبيون إن اتهام العرب بهذه الصفات ستكون منطلقا لانتفاض القومية العربية بوجه هذا الازدواج المهين وهذا الكيل بمكيالين الوقح الذي يرمي إلى تمزيق وحدة العرب والأقليات المتآخية معهم فوق أرضهم ليس حبا بهذه الأقليات، بل لتوطين الشرذمة. نفس القول ينطبق على الأقليات الأخرى في المغرب العربي. نحن نعيش أخس أنواع الازدواج هنا فالامبريالية والصهيونية تسند كيانها العرقي المسخ وتسند أيضا حركة العرق الفارسي الآري وحركة الشرذمة الكردية في حين تصفنا الشوفينية والشعوبية وتستكثر علينا الانتماء لهويتنا العربية. هنا أيضا نحن نمسك بزمام ثورة الشعب العربي بوجه الاستهانة والاضطهاد والتغييب القهري. المواد الأولية والموارد من نفط ومعادن وغيرها: النظرية الامبريالية والصهيونية ارتكزت هنا على سلب الثروة العربية بحيث يتحول العرب في غالبيتهم المطلقة إلى فقراء وتنعدم في كياناتهم القطرية أبسط مقومات الحياة العصرية. الفقر سيجعل العرب يتبعون الفتات الذي يقدمه لهم حكام العمالة والخيانة طبقا لنظرية تعتدي على إنسانيتنا وكرامتنا . هنا أيضا تناسى المتآمرون إن قانون الثورة ينص بوضوح على إنها تنطلق من حيث مواطن الفاقة والحرمان. تمكن نظام البعث من هضم وتمثل تجربة الوحدة وكل معطيات حركة الثورة العربية المعاصرة فأنتج دولته ونظامه على أسس رصينة وركائز حماية شعبية متفردة. لذلك تمكن من الصمود والمطاولة والاقتدار على جبهتي البناء والدفاع حتى أدركت الصهيونية والامبريالية بأن عليها أن تتحرك عبر ترسانتها العسكرية لتسقط التجربة. كان الاحتلال الأمريكي للعراق وجها آخر لاغتيال عبد الناصر والانتهاء من نظامه القومي بالاتجاه فورا إلى فجيعة الأمة في كامب ديفيد. وتتالي الحدثين مع الفارق الزمني المعروف أطلق العنان لخيال المتخيلين إن الأمة قد طمرت والى الأبد تحت ركام التسوية المذلة ونتاج الاحتلال المجرم للعراق. وخيل لأرباب السلطة الخانعة الجبانة إن التاريخ قد توقف عند أعتاب الشرذمة والشعب المقهور .. وبقدر انتهاكهم لقانون الشعوب الحيّة الأصيلة بقدر ماجاء الرد مدويا ... مقاومة عراقية خارج الحسابات وثورة في تونس تتحول فورا وبشكل متزامن إلى بيان أول للشعب العربي في كل مكان يعلن إن زمن الاستلاب قد استنفذ وثقافة الأمركة والعبودية لآلتها المتوحشة قد صار وسادة لموتى ما عاد أحد يذكر أسماءهم. شعبنا يثور في العراق ويقاوم والبعث الذي اقنع عبد الناصر بالوحدة هو أهم فصائل المقاومة ... شعبنا يثور في تونس والبعث القومي التحرري المناضل أحد فصائل الثورة ... شعبنا في مصر يغير وجه التاريخ وصوته القومي العروبي يعلن عن حياة غير قابلة للفناء رغم كل ما فعلوا .. أي إن كامب ديفيد وكل ما أدخلته من سموم في جسد الأمة قد قُبرت والصهيونية اليوم تحاول أن تلتقط أنفاسها اللاهثة من الركض لتفهم فقط ما يجري. الحروب التي استهدفت تجربة العراق القومية التحررية المجيدة وصولا إلى إسقاط نظامها التأريخي العظيم تتحول إلى لعنة على من والاها وبايعها وتتحول أيضا إلى رصاصة مرتدة في جمجمة كل الأدوات التي أهانت العرب وأفقرتهم وجهلتهم وشرذمت موقفهم وارضهم. نحن إزاء تنفيذ خلاّق لقانون الشعب والثورة الذي يحكم رد الفعل في زمن وبقوة لا ترتبط بذات القدر المستند عليه الفعل.. مخالفة لقانون الفعل ورد الفعل لم ينتبه لها الطغاة والمستهينين بقوميتنا والضالعين في العداء لها سواءا ممن يحسب منتميا لها بالهوية أو من هم أعداء تقليديين لحقوقها وتطلعاتها المشروعة. اليقين إن البعث والقوى القومية وحلفاءهم من الوطنيين والإسلاميين الأحرار هي من يمسك الآن بمفاتيح التغيير والعودة للامساك بصفحات التاريخ على غير ما أرادت الامبريالية والصهيونية والفارسية وعبيد الأمركة والدولار والسلطة العميلة. والتحية ختام معطر بمسك الدنيا والآخرة لثورة تونس ومصر ولشهدائها الجنة والخلود ولمقاومة العراق التي أحييت الأموات بإذن الله سلاما سلاما سلام. aarabnation@yahoo.com