يقينا لو كان الذلُ رجلاً لقتلناه لشدة تغوله علينا نحن العراقيين، حتى بات على هيئة قطعة قماش أو صحيفة قديمة، تضعه أمهاتنا أمامهن في ساحات دمشق وعمان واليمن والقاهرة وغيرها من بلاد الله الواسعة، التي ضاقت بهمومنا، كي يلقي عليها بعض المارة بضعة قروش لا تكفي سعر رغيف خبز أو حفنة رز . كما بات وشما في جباه شيوخنا وأطفالنا وهم يصطفون طوابير لساعات طويلة أمام منظمات الصليب الاحمر والهلال الاحمر، فتصلبهم المهانةُ الف مرة كي يحصلوا على علبة حليب أو سكر أو بضعة شرائط أدوية لأمراض مزمنة، بينما يقضون الليل يجوبون مراقد الائمة والمساجد كي تغفو عيونهم قليلا حتى يوفروا أجرة المبيت في شقة أو فندق من الدرجة العاشرة، وهو الذل نفسه الذي يعانيه أهلنا المسيحيون الذين تكدسوا في كنائس عمان ودمشق ولبنان مؤخرا، من دون مأوى بعد حملات القتل والتهجير التي طالتهم، يحيون أعياد الميلاد المجيد وهم يفترشون الارض على فرش بالية، بعد أن تركوا كنائسهم وبيوتهم في بغداد والموصل والبصرة وغيرها من مدن العراق، وتاريخهم الناصع بالوطنية. ولو كانت الديمقراطية التي ولدت في التاسع من نيسان/ابريل 2003 أنثى، لتمنينا أن يكون يوم ولادتها أحد أيام عصر الجاهلية الاولى، كي نشترك نحن العراقيين جميعا بوأدها هي وأخواتها، الشفافية والحرية والمصالحة والشراكة والفيدرالية، لكثرة ما ارتكب بحقنا من جرائم ومن نهب وسلب باسمها، حتى بات اسمها مقززا لنا ويقض مضاجعنا ليل نهار، ونحن نرى عراقنا وقد أصبح عراقات متناحرة بين كل شبر وشبر فيه مناطق متنازع عليها يسميها الكرد والشيعة والسنة قدس أقداسهم، وشماله يهدد وسطه وجنوبه بالانفصال ان لم يستول على حقه وغير حقه أضعافا مضاعفة. وبصرته تطلب الفيدرالية لانها تأبى بعد اليوم أن تبقى بقرة حلوبا يستدر نفطها الى بقية أنحاء الوطن وتفتح ثغرها الباسم على الخليج من دون مقابل، بينما هي البصرة ذاتها التي قدمت للعراق وللامة والانسانية تراثا ثرا من الشعر والادب والفلسفة من دون منة. وذي قار تقطع مياه الروافد المارة فيها وكذلك تمنع القدرة الكهربائية المنتجة من محطتها من المرور الى بقية المحافظات، لان شعبها هو الاولى بالاستفادة دون غيره من شعوب المحافظات الاخرى، كما يقول مجلس محافظتها (المنتخب ديمقراطيا). والانبار يقرر بعض شيوخها الذين مافتئوا يؤكدون أن عشائر العراق جميعها من أم واحدة وأب واحد وأن لا فرق بين أهل شماله ووسطه وجنوبه، يقررون أن مصلحة المحافظة تقتضي الانفصال عن أشقائها من محافظات العراق الاخرى بصيغة فيدرالية، كي يستفيدوا وحدهم من ثروات أرضهم ومن الضرائب التي سيفرضونها على وارادات العراق القادمة من سورية والاردن، لانها ستكون حدودا لهم، وكذلك من الرسوم التي سيأخذونها عن أنابيب النفط العراقي المارة عبر أراضيهم كما يقولون. كما يقرر المسؤولون في محافطة ديالى (المنتخبون ديمقراطيا) أن أفضل حل للتخلص من المشاكل التي تعانيها المحافظة هو تشكيل أقليم فيدرالي لهم، كما نسمع تصريحات بعض المسؤولين بأن أفضل حل لحماية مسيحيي العراق هو تشكيل أقليم خاص بهم، أو انشاء محافظة لهم تتبع الشمال الكردي كي يحميهم. لقد قدم العراق عبر تاريخه الطويل الذي امتد الاف السنين أقباس نور للحضارة الانسانية، ممثلة بأعظم شريعة قانونية لتنظيم حياة البشر في زمن حمورابي، وأول خط مسماري لتدوين تاريخ الخليقة وغيرها من العلوم والفنون والفلسفة التي أنتجتها العصور اللاحقة، لكن (قادته) اليوم يفاخرون بديمقراطيتهم التي أنتجت كل هذه المأساة، لانهم ولدوا من زوايا التاريخ المظلمة وأعلنوا بشكل واضح انتسابهم الى حملات المغول، وأن تراثهم هو نفس التراث الذي جعل نهر دجلة يكتسي باللون الازرق من كثرة الكتب التي رميت فيه، لذلك نجد رئيس الوزراء لا يتورع عن وصف ما فعلوه بالعراق بأنه قمة الديمقراطية فيقول بأن (الديمقراطية عندنا فريدة في المنطقة، وتواجه تحديات من المحيط الاقليمي الذي لا يحسن التعامل مع هذه الديمقراطية)، بل انه يحسب كل هذا التشتت الذي أصاب الوطن وبروز النزعات المصلحية الضيقة فيه التي تشجع على الانتفاع على حساب المجموع، انما هي منجزات تاريخية حققتها سواعد المشاركين في العملية السياسية الامريكية، وهي العلاج الناجع لكل المجتمعات التي تتشكل من تعدديات طائفية أو أثنية، لذلك هو يقول (الديمقراطية هي الحل الناجع لكل مجتمع تتعدد فيه الطوائف والاثنيات، ولان كل دول المنطقة تتعدد فيها الاثنيات والطوائف، ولكن لم تصل الى المرحلة التي يتمتع بها العراق والتي تمنع التمايز بين الناس)، متناسيا أن الديمقراطية لا يمكن لها أن تعيش في مجتمع الرذيلة الذي يصوّر فيه الوطن على أنه مجرد اطار وهمي لمجموعات بشرية متصارعة يجب أن تحصل على ما تريد ثم تنزوي عن بعضها البعض. ان أوهام الديمقراطية والشفافية والنزاهة والفيدرالية هي التي تعشش اليوم في العراق، بعد أن أنتجتها العقول المحنطة للسياسيين الطائفيين الذين آمنوا بأنها الطريق الوحيد لاستمرارهم على كراسي الحكم، من خلال تقسيم المجتمع الى وحدات صغيرة تدغدغ العواطف الطائفية والاثنية للبعض على حساب المجموع، كما أنها أيضا تلائم الاهداف والتوجهات الاستعمارية للمحتل الذي أصبح من مصلحته اليوم استمرار هذا التشرذم والتوزيع المصلحي للوطن، كي تبقى كل هذه الوحدات الصغيرة بحاجة ماسة الى جهوده في رأب الصدع الذي ينشأ بينها، واعادة توزيع التركة بين فترة وأخرى عندما تتغول شهوة النهب والسلب عند هذا الطرف أو ذاك، أو لكي يكافأ المحتل هذا الطرف أو ذاك تبعا لما يقدمه من خدمات، ولذلك فقد بات واضحا جدا أن الذي يجري اليوم في العراق هو تطبيق فعلي لنظرية بريجنسكي مستشار الامن القومي الامريكي السابق، التي تدعو الى ضرب كل البنى التحتية للمجتمعات في الشرق الاوسط، واثارة النعرات الطائفية والقومية فيها تمهيدا لتحويلها الى كانتونات صغيرة، ابعادا لتركز الثروة النفطية بيدها التي قد تهدد الامن القومي الاوروبي عامة والامريكي خاصة، في حالة بروز قيادات وطنية في هذه المجتمعات قد تجرؤ على استخدام هذه الثروة في احقاق حقوق شعوبها، وبالتالي قلب المعادلة السياسية والامنية العالمية الحالية، التي تحرص الولايات المتحدة الامريكية على استمرارها. ان من أولى المهمام الملقاة على عاتق الدولة في أي مجتمع من المجتمعات، هي ضبط حركة المجتمع بما يؤمن تحقيق المصالح العليا للامة، والارتفاع بادراك المواطن ووعيه الى حد ايجاد قاسم وطني مشترك بين الجميع على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم القومية والدينية، بما يجعل حركة الفرد مربوطة بحركة المجتمع، وبذلك تصبح الهوية الوطنية هي العنوان الاسمى والاقدس للفرد، فتذوب الهويات الاخرى حتى تكاد تقتصر على مجرد شعائر وطقوس يمارسها الافراد على نطاق محدود وفي مناسبات معينة، لكن الذي يجري في العراق هو أبعد ما يكون عن ذلك، فتعزيز الهويات الاخرى على حساب الهوية الوطنية هو الذي أصبح سائدا في ظل وجود أحزاب سياسية تتخذ من الهوية الدينية والمذهبية والاثنية منهجا فكريا لها، وتسعى علنا الى تحقيق حاكمية من تدعي تمثيلهم سواء باحتكار المناصب العليا في الدولة أو انشاء مناصب حكومية وفق مقاسات محددة لارضاء الطائفيين الاخرين، كما هو جار اليوم من خلال رفع عدد الوزارات ونواب الرئاسات كي تمثل أكبر عدد ممكن من الاحزاب والحركات السياسية الطائفية. ان كشف الواقع المأساوي الذي يعانية الوطن والمواطن لا يشكل انتهاكا لضرورة تمسكنا بالامل الذي يجب أن نتحلى به في مواجهة التحديات ونحن مقبلون على عام جديد، بل ان كشف الواقع هو ضرورة قصوى لقطع الطريق على أبواق السلطة والاحتلال اللذين يحاولان تجميل المأساة وتغليفها بالوان وردية، وان أمل العراقيين سيبقى معقودا على فصائل المقاومة الوطنية في ايقاف الكارثة وتحرير الوطن، بعد أن أفشلت مشروع الشرق الاوسط الكبير. فهل ستنتقل فصائل المقاومة الوطنية الى أطار يوحد فصائلها ونحن في بداية عام جديد؟