( صموداً أيها الناس الذين أحبهم صبراً على النوب ضعوا بين العيـون الشمـس والفولاذ في العصب مواقفكم تجسد قمـة الإقـدام تفجر صاعق الغضب ) توفيق زياد أيها الرئيس الحبيب.. استعيد اليوم ما سبق أن قلته لك ذات يوم في أحد لقاءاتنا تعبيراً عن حبي واحترامي لك. فقد رويت لك حينها فحوى قصيدة صديقنا الشاعر والكاتب السوفييتي ( الداغستاني ) الكبير رسول حمزاتوف التي يقول فيها مخاطباً محبوبته: عندما يكون عدد محبيك ألف رجل، فاعلمي أن رسول حمزاتوف هو واحد من الألف. وعندما يقل عددهم إلى مائة، فأنا أيضاً واحد منهم. وعندما يصبحون عشرة، فرسول هو أحد هؤلاء العشرة. وعندما يبقى واحد فقط هو من يحبك، فتأكدي أنه أنا. أما حين لا يبقى أحد، فاعلمي أن رسول حمزاتوف قد مات... وأعيد أيضاً، ما سبق أن ذكرته لك من قول المتنبي في إحدى قصائده، تعبيراً عن تميزه في حب قائده وصديقه سيف الدولة الحمداني، مقارنة مع محبي سيف الدولة الآخرين: إن كان يجمعنا حب لغرته / فليت أنا بقدر الحب نقتسم لا أدعي بذلك أنني الأوحد أو الأول بين محبيك، فهم كثر، وبالملايين، وهم لا يتناقصون، بل يزدادون عدداً وحباً، أناس طيبون، صادقون يملأون الأرض العربية، متواجدون في كل البلدان الإسلامية، وحتى في أعماق إفريقيا ـ وقد رأيتهم بعيني وسمعتهم بأذني وهم يهتفون لك، ويسألون عنك ـ رأوا فيك عنوانا لتحدي المظلومين للظالمين، ومدافعاً عن الضعفاء في وجه الأقوياء، وقارنوك بحكامهم الخونة أو الجبناء. لم يلتفتوا لسفسطات السياسيين والكذابين، ولم تصرفهم عنك أحقاد الحاقدين. هدتهم قلوبهم إليك فآمنوا بك، وأحسوا بك فصدقوك. ورأوا ما جرى للعراق وللأمة وللعالم بعدك، فازدادوا تعلقاً بك. ولو أتيحت لهم فرص التعبير وأدواته، لقالوا فيك أبلغ الكلام. ورب نظرة شغوفة من طفل منهم لصورتك، أو دعاء امرأة من قلب محزون إليك، أو حسرة شيخ على زمن الرجولة والشهامة العربية الذي مثلته، أو تطلع أجيال الشباب إليك كقائد جسّد طموحاتهم نحو المستقبل... فيها من الصدق، ومن عمق المعاني والدلالات، مالا يرقى إليه شعر الشعراء، أو إبداعات الأدباء. ما دفعني إلى تكرار ما قلته لك بيننا، ونشره، والجهر به للناس، هو تذكير أولئك الذين صمتوا أو اختفوا، جبنا، أو أداروا الدفة مع الريح الأمريكية، طمعاً أو نفاقاً، بعد أن كانت أصواتهم وأقلامهم لا تكف عن المدائح لك والثناء عليك، وأنت في سدة الحكم. فلهؤلاء أقول: إن الوفاء لا يختبر إلا في زمن الشدائد، وهذا زمانه. وإن قيمة الرجال لا تقاس بمواقعها، وإنما بمواقفها، والحكم على القادة يتم من خلال القيم والمثل التي زرعوها في شعوبهم، والأهداف العظيمة التي ندبوا أنفسهم لها، وبهذه المقاييس فإن صدام حسين مازال موجوداً في كل شبر من أرض العراق، وأرض العرب، ومازالت مبادئه وتعليماته ورجاله، هي من يحكم العراق الآن ، وتزعزع الأرض تحت أقدام المحتلين وعملائهم. ويكفيه فخراً أن معركة العراق قد أيقظت شعوب العالم ودوله أجمع، بما فيها الدول الغربية، على مخاطر الهيمنة الأمريكية وأهدافها. وقد تكون هذه المعركة محركاً للتمرد العالمي ضد النفوذ الأمريكي، ومقدمة لتغييرات واسعة في الواقع الدولي تبدو ليس بعيده. فلك المجد يا صانع المجد..... ولأعدائك العار. * بصيرتك النافذة، ورؤيتك المبكرة لحقيقة الموقف الإيراني ( الفارسي ) من العراق كان لقائي التالي بك عام 1981، أثناء انعقاد مؤتمر وزراء الثقافة العرب في بغداد. وكنت قد أصبحت في موقع رئيس جمهورية العراق. وكانت الحرب الإيرانية العراقية قد قامت منذ أيلول ( سبتمبر ) 1980. أثناء استقبالك للوزراء ورؤساء الوفود، انصب حديثك على مفاهيم الأمة والعروبة ومقومات الوحدة الثقافية والتاريخية، ودور الأمة الحضاري في تاريخ الإنسانية ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وأن الضعف الذي تعاني منه الأمة هو بسبب تغليب المصالح القطرية على المصلحة القومية، وأن هذا الوضع هو من صنع العوامل والتدخلات الأجنبية، التي وجدت في المفاهيم القطرية لدى بعض الحكام ما أغراها في الاستمرار في هذه السياسات، مما أدى بنا إلى هذه الحال في فلسطين وغيرها من المناطق. كان إيمانك بالأمة وثقتك فيها وفي مستقبلها لا يتزعزع. لدرجة أنه عندما حاول أحد الوزراء أن يشير إلى تقصير الأمة في موقفها من العراق وهو يخوض معركة الدفاع عن حدودها الشرقية، لم يلق تجاوباً منك، أو انسياقاً مع آرائه، بل على العكس، رحت تدافع عن الأمة، وتفسر أسباب موقف بعض أطرافها، وتتفهمه، ملقيا المسؤولية على العوامل الخارجية، وارتباط مصالح بعضنا بالمصالح الخارجية، وعدم قيام مثقفينا القوميين بدورهم التوعوي والتعبوي اللازم في نشر ثقافة الوحدة ومفاهيمها وأبعادها. وأشهد أن موقفك هذا في الدفاع عن الأمة، وتفهمك لأسباب قصورها، وعدم لومها على ذلك، ورهانك الدائم عليها وعلى نهوضها المستقبلي، قد تكرر أكثر من مرة في مواقف لاحقة، وفي لحظات صعبة كان يمر بها العراق. فسرت تركيزك على موضوع الأمة، ومفاهيم العروبة والوحدة على أساس أنك كنت تستقبل وزراء الثقافة العرب، باعتبار أن دورهم أساسي في تربية وتثقيف الأجيال العربية على هذه المفاهيم ، لكنني بعد حديثك الخاص معي لاحقاً، فهمت مغزى إضافياً لحديثك العام مع الوزراء. طلبت لقاءَك، وفي ذهني الكثير من التساؤلات حول الحرب مع إيران، وأسبابها، والموقف من الثورة الإيرانية التي أسقطت الشاه، وأنهت النفوذ الغربي في إيران. وأعترف مرة أخرى أن نظرتي وأنا أحمل هذه التساؤلات كانت أحادية الفهم. فقد أحدث قيام الثورة الإيرانية صدى واسعاً في العالم عموماً، وفي الوطن العربي خصوصاً. وحظيت شعاراتها المعادية للاستعمار والصهيونية، وقضاؤها على نظام الشاه الذي كان ركنا أساسياً للاستعمار الغربي في المنطقة، وحديثها عن تحرير فلسطين ومقدساتها الإسلامية، بترحيب واسع في الوطن العربي، ولدى الشعوب الإسلامية وساهمت هويتها الإسلامية في رصيدها الشعبي لدى العرب والمسلمين نظراً لما للعقيدة من تأثير في حياتنا العربية. ولم يتوقف أحد ـ وبالذات من القوميين والتقدميين ، والمثقفين عموماً ـ عند نوعية المذهب الديني الذي تنتمي إليه الثورة. ذلك أن المذهبية الدينية لم تكن تحتل في حياتنا العربية الثقافية والسياسية والاجتماعية، في ذلك الوقت، ما تحتله هذه الأيام من تفسيرات وأبعاد. خاصة وأن فهمنا العام للإسلام يقوم على ألا مذهبية سياسية أو قومية في الإسلام، وأن المذاهب جميعها هي ذات أبعاد فقهية تتعلق بتفسير الدين، وجوانبه العقيدية، وكيفية أدائها، مع اجتهادات تقوم على القياس، صارمة لدى هذا المذهب، أو أقل صرامة لدى ذاك. ولكنها كلها محصورة في إطار تفسير الفروض والواجبات الدينية. وعموماً فقد كانت النظرة للثورة الإيرانية على أنها ثورة تحررية معادية للاستعمار والصهيونية، ومناصرة للحقوق العربية في فلسطين. وعلى هذا الأساس لقيت ذلك التأييد الواسع على الصعيد الشعبي العربي. وكان الاستقبال الفلسطيني لها ذا تميز خاص. ذلك أن علاقات نضالية ربطت بين الثورة الفلسطينية وكثير من قيادات وكوادر الثورة الإيرانية الذين تدربوا في معسكرات الثورة الفلسطينية في لبنان وغيرها. بهذه المفاهيم عن الثورة الإيرانية التي كانت سائدة في الوسطين العربي والفلسطيني عن الثورة الإيرانية، والتي بني عليها موقف من الحرب الإيرانية العراقية يحمل العراق مسؤوليتها، وفي ظل الحملات التي كانت تشنها القوى والأطراف السياسية اليسارية والمذهبية الدينية، والقومية غير العربية، المعادية للنظام القومي في العراق، والمنتشرة في دمشق وبيروت. وفي ظل الموقف الرسمي السوري المنحاز لإيران في هذه الحرب، وفي غياب أي دور للإعلام العراقي يطرح وجهة النظر العراقية ويفسرها، ويحاول دحض الاتهامات الموجهة إليه..... في ظل هذه الرؤية السائدة وقتها في المحيط الذي كنت متواجداً فيه، والتي لا أنكر أنني كنت أحملها.... ذهبت إلى لقائك. بدأتني بالقول: كأني أعرف ما تود السؤال عنه، فأنا أعرف الجو الذي تعيشون فيه في دمشق وبيروت، وما يجري تداوله في أوساطكم. أنت تريد أن تسأل عن الحرب بيننا وبين إيران، وعن موقفنا من التغير السياسي الذي جرى في إيران، وحمل مسمى الثورة. قلت: هذا هو بالضبط ما أريد الاستفسار عنه. فالجو الإعلامي والسياسي السائد يحملكم مسؤولية الحرب، ويتهمكم بمعاداة الثورة الإيرانية. فقلت لي: يبدو أنكم لا تقرأون التاريخ، ولا تعرفونه، وهؤلاء الذين يتحاملون علينا ليسوا أمناء في نقل الحقائق، وهم من أصحاب المواقف المعادية للنظام القومي في العراق قبل الثورة الإيرانية وبعدها، وقبل الحرب وبعدها. ومن يستمع إليهم ويبني موقفه على أساس ذلك يعتبر قصير النظر لأنه يحدد موقفه بناء على اللحظة الراهنة، دون أن يأخذ الأبعاد الأخرى المحيطة بالحدث سواء الجانب التاريخي أو السياسي أو الاقتصادي والجغرافي، أو النوازع المذهبية والعرقية. وأكملت: لا ننكر أننا في العراق وفي منطقة الخليج عموماً، وليس الآن فقط، وإنما منذ زمن بعيد، نتوجس دوماً من مواقف النظام الإيراني أو الفارسي تجاه العراق، والمنطقة عموماً ـ أيا كانت طبيعة هذا النظام أو هويته ـ. فمطامع الفرس في أرض العرب لم تتوقف منذ عهد الأكاسرة حتى اليوم، وأحقادهم على الفتح العربي الإسلامي الذي حرر المنطقة من احتلالهم، وأسقط دولتهم، لم تنته، حتى مع دخول بلادهم في إطار الدولة الإسلامية، ولا أريد أن أذهب بعيداً في السرد التاريخي لأتحدث عما فعله الشاه إسماعيل الصفوي عندما فرض المذهب الشيعي بالقوة على الشعوب الإيرانية كسياسة يتقرب بها إلى شيعة العراق العرب تمهيداً للسيطرة عليهم وعلى مقدساتهم، وعلى الأرض العراقية، ولضرب الدولة العثمانية وهزيمتها والاستيلاء على المزيد من الأراضي العربية في المشرق العربي. لكني أشير فقط إلى موقف الدولة الإيرانية من العراق في العصر الحديث، وخاصة التهديدات والاعتداءات التي قام بها النظام الإيراني السابق عندما اعتمد الغرب الاستعماري شاه إيران كشرطي في منطقة الخليج العربي لحماية المصالح الغربية. وكان هم هذا النظام زعزعة استقرار العراق وتحريض بعض قومياته ومذاهبه ضد نظامنا القومي ومشروعنا النهضوي. قلت: لكن عهد الشاه قد مضى إلى غير رجعة، والآن يقوم في إيران نظام إسلامي معاد للغرب الاستعماري والصهيونية،..... فمضيت في حديثك: لقد تفاءَلنا بهذا التغيير، وأمَّلنا أن يسود الاحترام المتبادل والحرص على حسن الجوار والمصالح المشتركة في علاقاتنا مع إيران، خاصة وأن أرض العراق استضافت لأكثر من عشرين سنة السيد الخميني، ووفرنا له كل أسباب الأمان والحماية من نظام الشاه، وساعدناه في دعوته، حتى أن الأحاديث التي وجهها للشعوب الإيرانية كانت أشرطتها المسجلة تنطلق من العراق. ولتأكيد نوايانا الطيبة بادرت منذ الأيام الأولى لعودة الخميني بتهنئته في رسالة رسمية بعثتها إليه. لكن يبدو أن النظام الجديد جاء حاملاً نفس المشروع ونفس النوايا الشاهنشاهية، ولكن بلبوس دينية وشعارات ثورية، عنوانها تصدير الثورة، وتكريس مفهوم جديد وغريب على المذهب الشيعي/ الجعفري هو ولاية الفقيه، بما يعني تنصيب نفسه مسؤولاً دينياً ودنوياً عن أصحاب المذهب داخل وخارج إيران، وقام بممارسات تدخلية في الشؤون العراقية تؤكد هذا التوجه. ومع ذلك واصلنا مساعينا لتطبيع علاقاتنا مع إيران، ووجهت دعوة رسمية لرئيس الوزراء الإيراني الجديد مهدي بازركان لزيارة العراق لتسوية الخلافات، وأرسلنا مبعوثين رسميين إلى إيران للغرض نفسه، ووجهنا مذكرات للحكومة الإيرانية تشرح الانتهاكات الإيرانية لحدودنا ومياهنا وأجوائنا، مطالبين بوقفها. ولكن كل مساعينا قوبلت بعدم التجاوب والرفض والتحدي. بل صعد النظام الإيراني من مواقفه العدائية والاستفزازية ضد العراق، وأعلن صراحة، وعلى لسان أكثر من مسؤول، أن هدفهم هو إسقاط النظام القومي في العراق. وعندما حاول السيد ياسر عرفات ( ويفترض أنك تعرف ذلك ) التوسط بيننا لحل الخلافات بناء على طلب من رئيس الوزراء التركي رفضت إيران هذه الوساطة، وعندما طالبناهم بتنفيذ بنود اتفاقية الجزائر ( لعام 1975 ) التي ترسم العلاقة والحدود بين البلدين، والانسحاب من أراض أقرت الاتفاقية بأنها أراض عراقية وكانت إيران ما تزال تحتلها، رفضوا ذلك وأعلنوا أنهم لا يعترفون بهذه الاتفاقية. وكانوا كلما أظهرنا نوايانا السلمية ورغبتنا في حل المشاكل ودياً، يصعدون من مواقفهم العدائية حتى وصلت هذه المواقف إلى القيام بتفجيرات في مختلف المدن العراقية، ومحاولة اغتيال أكثر من مسؤول عراقي. ويبدو أنهم فهموا نوايانا السلمية على أنها ضعف، في حين أن هدفنا كان هو توفير الاستقرار لنا ولهم، بحيث نتفرغ للمضي في بناء مشروعنا النهضوي على المستويين الوطني والقومي. لكن على ما أعتقد أن مشروعنا هذا هو ما كان يؤرقهم لأن عملية النهوض والبناء التي كانت قائمة في العراق، والتي جعلته واحداً من أقوى دول المنطقة، وأعطت مؤشرات على أنه سيكون قلعة للأمة العربية بأسرها ستضعها في المكان الذي يليق بتاريخها بين أمم العصر، وسيجعل منها قوة قادرة على استثمار قدراتها الهائلة، ومواجهة قوى الاستعمار والصهيونية في المنطقة، واستعادة حقوقها وأراضيها المغتصبة في فلسطين وغيرها. لذلك، فهم لا يريدون للعراق أن يستقر وأن يمضي في مشروعه. فواصلوا سياساتهم الاستفزازية ضده. مما اضطرنا إلى إعلان إلغاء اتفاقية الجزائر بعد أن رفضوا الاعتراف بها، وهي التي كنا قبلناها على مضض، نظراً لحاجتنا للاستقرار من أجل عملية البناء، بعد أن حاول نظام الشاه إشغالنا بمعارك في شمال العراق من خلال تحريض مجموعات كردية على التمرد، ودعمها بالمال والسلاح، وبتدخل قوات إيرانية أحيانا لإسناد هؤلاء المتمردين. وختمت حديثك في هذا الموضوع بالقول: إن نظام الملالي في إيران لم يترك لنا خياراً غير أن نهب للدفاع عن أنفسنا، عن عروبتنا وعروبة منطقة الخليج، وأن نواجهه بخيار القوة الذي اختاره. ( طلبت مني أن أتصل بوزير الإعلام أو وزير الخارجية لتزويدي بالوثائق الثبوتية لكل ما جاء في حديثك من استشهادات ) وبالفعل، حين اطلعت على تلك الوثائق، اكتشفت كم من الحقائق كانت غائبة عني، وعن كل الذين وقعوا في وهم الثورة الإيرانية. ومع أن الكثير من قناعاتي قد تغيرت بعد استماعي لشروحك وتوضيحاتك، إلا أنني لم أكف عن طرح أسئلتي عليك طامحاً في المزيد من المعرفة. سألتك مستغرباً: ولكن هذه اللغة، والتعابير التي تستخدمونها في إعلامكم، وفي خطابكم السياسي، في وصف الجانب الإيراني، مثل كلمات الفرس والمجوس، وحتى الاسم الذي أطلقتموه على الحرب ( القادسية الثانية ) هي لغة وأوصاف قديمة أكل الدهر عليها وشرب، ولم تعد تستخدم في قواميس اللغة العصرية، وهي مثار استغراب ودهشة في أوساط الإعلاميين والسياسيين العرب؟ أجبتني: يبدو أن هذا الجانب الخفي في حديثي لم يصل إليك، وإلا لكنت أعفيتني من الجواب. إن الطرف الآخر يخوض المعركة ضدنا على أساس قومي، وإن كان يغلفها بشعارات دينية مذهبية. ولو كان العهد الجديد في إيران قد تحرر من هذه المفاهيم لأمكن حل كل المشاكل بيننا بطرق ودية وأخوية باعتبارنا وإياهم ننتمي لدين واحد، وإلهنا واحد، ورسولنا واحد. لكن أطماعهم في أرض العراق ومياهه وفي بلدان الخليج العربي عموما هي أطماع فارسية لا تختلف عن أطماع الماضي ولا تنسى ثاراته، وقد ظلت موجودة عبر التاريخ الإسلامي كله منذ عهد الرسول عليه السلام. ولا أظن أن الخميني أكثر إسلاما وتسامحا مع العرب من سلمان الفارسي صاحب رسول الله ( صلعم ) حينما خاطبة الرسول: لا تشتمني يا سلمان: فأجابه كيف أشتمك يا رسول الله وأنا صاحبك ومن أوفى الناس لك، فقال له الرسول ( صلعم ) إنك تشتم العرب، ومن شتم العرب فقد شتمني. فقد شرف الله العرب بالإسلام، وأعز الإسلام بالعرب. فإذا عز العرب، عز الإسلام، وإذا ذل العرب، ذل الإسلام. وكلنا نتذكر من هو قاتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الخليفة العادل. ألم يكن أبو لؤلؤة المجوسي. وهم يشتمون عمر حتى اليوم، ويشتمون صاحب رسول الله وخليفته الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويحرمون تسمية أي من أبنائهم باسمي عمر أو أبو بكر. هنا: تذكرت قصة رواها لي أحد القادة الفلسطينيين البارزين الذين زاروا إيران بعد الثورة أكثر من مرة، فاستئذنتك أن أرويها لك. فقد قال لي هذا القائد ( ولا أريد أن أذكر اسمه حتى لا أحرجه أو أسبب له المزيد من المشاكل ) إنه في إحدى زياراته لإيران، وأثناء انتقاله بالسيارات من مدينة إلى أخرى، وكان يرافقه أحد وزراء الثورة الإيرانية، مروا بأحد المقامات أو المزارات، فسأل مرافقيه لمن هذا المزار؟ فأجابوه: إنه لأبي لؤلؤة ( المجوسي ) . لم تعلق على الحكاية بأكثر من قولك: هذا برهان آخر على ما نقوله. ثم مضيت في القول: إنهم يرون في قيام عراق عربي قومي قوي ما يبدد أحلامهم، وما يحمي عروبة منطقة الخليج من أطماعهم ( وقد رأينا موقفهم من احتلال إيران للجزر العربية الثلاث أبو موسى، وطنب الكبرى والصغرى ) . وبهذا تلتقي أهدافهم مع أهداف الحركة الصهيونية والإمبريالية الأمريكية اللتين تحاربان المشروع النهضوي القومي العربي الذي يقوده العراق. وإذا كانت أسباب الولايات المتحدة الأمريكية، والصهيونية العالمية من مقاومة هذا المشروع معروفة ومفهومة، فما هي دوافع إيران إن لم تكن دوافع قومية!! ( تعليق مني لم أذكره أثناء المقابلة لأن وقائعه لم تكن قد حدثت ) : "في عام 1982، وأثناء الغزو "الإسرائيلي" للبنان، ومحاصرة الثورة الفلسطينية، طرح الرئيس عرفات مشروعاً لوقف الحرب بين إيران والعراق، على أن يفتح العراق أراضيه لمرور الجيش الإيراني، ويتوجه الجيشان لفك الحصار عن بيروت. قبل العراق، ورفضت إيران." ..... إنهم حتى عندما يطرحون دوافعهم المذهبية الكاذبة، يطرحونها من زاوية، وبخلفيات قومية. فهم عندما يفكرون ويسعون للسيطرة على مدينتي النجف وكربلاء، حيث مراقد الأئمة الكرام، فهي إما سيطرة بالاحتلال المباشر، أو عبر تنصيب المرجعيات الدينية فيهما من ذوي الأصول الفارسية، أو غير العربية عموماً، وهم يستكثرون على أتباع المذهب الجعفري من العرب أن يرتقوا إلى هذه المواقع، وكأن الله سبحانه وتعالى لم يكرم العرب بأن بعث نبي الإسلام من بينهم، وحملهم أمانة نشر الإسلام في أصقاع الأرض، أو كأن علياً كرم الله وجهه، والحسين رضي الله عنه ( اللذين يتبجحون بالتشيع لهم ) ليسا من نسل العرب!! ومن الأدلة الدامغة على أن تشيعهم ذو طابع قومي فارسي وليس إسلامياً، هو سعيهم ـ عندما رأوا أن النجف عصية عليهم ـ لنقل مقر المرجعية إلى مدينة قم في بلاد فارس. أمام رؤيتنا لهذه الأبعاد والتوجهات القومية الفارسية في معاداة العراق العربي، لم يكن أمامنا غير استنفار واستنخاء المشاعر العربية لمواجهة المطامع الفارسية، واعتماد الخطاب القومي في تعبئة الجماهير العربية العراقية، بالإضافة إلى استنفار الوطنية العراقية لدى قوميات العراق الأخرى للدفاع عن وطنهم الأزلي العراق. وقد رأينا في اعتماد الخطاب القومي والوطني في تعبئة جماهيرنا ما يحصنها ويحصن جيشنا من الأكاذيب الدينية والمذهبية التي يغلف بها المعتدون أهدافهم القومية. فهم يتوهمون أنهم قد يستطيعون بشعاراتهم الدينية المذهبية الكذابة، خداع أبناء شعبنا وجيشنا من شيعة العراق العرب الأقحاح. وهم لا يدرون أن المسلم العربي العراقي يتمسك بانتمائه العربي، ويفخر به، كما يتمسك بإسلامه ويفخر به، وليس هناك عشيرة في أرض العراق إلا وتحرص على نسبها العربي وترى في ذلك شرفا لها. وكلنا نذكر كيف انضمت عشائر العراق العربية النصرانية إلى أشقائهم العرب المسلمين عندما دخلوا العراق إبان الفتح العربي الإسلامي، وحرروه من الاحتلال الفارسي. فالانتماء للوطن، وللأمة، وللدين في أصوله الأساسية، مقدم عند العربي العراقي على أي انتماء مذهبي أو طائفي. هنا قاطعتك أيها الأخ الرئيس، وتساءَلت: هل كان هذا الفهم لطبيعة المعركة، وهذا التخوف من اختراقات قومية في الجبهة الداخلية، وراء الإجراءات التي اتخذتموها بترحيل عائلات عراقية قلتم إنها من أصول إيرانية؟ وهذه القضية أيضاً من بين القضايا التي تؤخذ عليكم في الخارج، وتندرج ضمن الحملات الإعلامية التي تشن ضدكم؟!! فأجبتم: نعم. وأنا أعلم أننا نتعرض للوم شديد بسببها، وليس خارج العراق فحسب، بل داخل العراق أيضاً، وداخل الحزب، وربما داخل القيادة. وقد يكون هذا اللوم معلنا أو مخفيا. وأنا لا ألوم هؤلاء على انتقادهم لنا، بل وأتفهمه لأننا بشر تحركنا، وأحيانا تتحكم فينا عواطفنا، وحتى أنا نفسي كثيراً ما تساءَلت: هل كانت هذه الخطوة ضرورية؟ ألم يكن من الممكن غض النظر عنها؟ ولو استجبت لعواطفي لتراجعت عنها، بل ربما لم أقدم عليها. لكن المسؤولية التي تقتضي الحذر، والحرص على سد كل الثغرات التي قد ينفذ منها العدو، وخاصة في ظل الأوضاع الصعبة التي نعيشها، تقتضي منا أن نكبح جماح عواطفنا، وأن نحكم العقل ـ على قسوة أحكامه ـ في التعامل مع الكثير من الأمور التي قد يتضرر منها الناس. ولا أعتقد أننا الوحيدون الذين لجأوا أو يلجأون لمثل هذه الإجراءات. فكل الدول التي تتعرض للعدوان، سواء في التاريخ الحديث أو القديم، تتحوط باتخاذ مثل هذه الإجراءات، سواء كانت أقل أو أكثر قسوة. وأنا أعلم أنه قد يتضرر بعض الناس، وقد يظلم بعضهم، ولكن ذلك أهون من أن يتضرر الوطن، أو الأمة بأسرها، فالخشية أن يلعب المعتدون على أصول هذه العائلات وانتماءاتها القومية، ويغروها بخيانة وطنها العراقي. فكان لا بد أن نسعى إلى سد هذا الباب، ونحن نعرف أن هناك من سيقع عليه ظلم ، ولكن الوقت لم يكن يسمح لنا بالكثير من التدقيق. ها قد مضى على حديثك المستفيض هذا أيها الأخ الحبيب، أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً. ربما لم أدقق جيداً في معانيه في ذلك الوقت، وربما رأيت في بعض جوانبه تبريراً للموقف العراقي من الحرب، وربما لم يقتنع به البعض ممن نقلته لهم، ولكن من يرى صورة ما جرى ويجري في العراق الآن، يدرك كم كنت أيها الكبير بعيد النظر، ثاقب البصر، وعميق الفكر. فلم يطل الوقت كثيراً حتى تكشفت حقيقة الموقف الإيراني من العراق. إذ بعد مضي سنتين فقط على نهاية الحرب، وأثناء أزمة الخليج، والتحضير للعدوان الثلاثيني على العراق منتصف يناير عام 1991، كشفت إيران عن تأييدها للعدوان على العراق، ورفضت تقديم أي مساعدة له، ولم تستجب لكل دعواته للصلح، وخانت الأمانة عندما استأمنها العراق على طائراته المدنية والحربية فاستولت عليها، ثم دفعت بعملائها وجواسيسها لضرب الجيش العراقي أثناء انسحابه من الكويت، وأشعلت نار الفتنة في الجنوب، وعملت على إكمال مهمة العدوان بمحاولتها في ذلك الوقت إسقاط النظام القومي في العراق، وواصلت موقفها العدائي طيلة سنوات الحصار الثلاث عشرة، فأحكمت الحصار، ووضعت نفسها في خدمة السياسة الأمريكية المعادية للعراق، واستضافت ومولت ودربت مجموعات الخيانة والعمالة ممن ينتمون إلى "حزب الدعوة"، أو ما يسمى "قوات بدر"، أو بعض الأطراف الكردية في الشمال، لتضعهم في النهاية تحت تصرف الإدارة الأمريكية ليعملوا جواسيس وأدلاء لقواتها في غزو العراق، ثم ليمارسوا عمليات التخريب والقتل بعد استكمال عملية الغزو. وعلى رغم مظاهر الخلاف العلني بين الولايات المتحدة وإيران، إلا أن هناك توافقاً ضمنيا تم بينهما على إسقاط النظام القومي في العراق، وهو ما أعلن عنه صراحة السيد أبطحي نائب رئيس الجمهورية الإيرانية حين قال: لولانا لم نجحت الإدارة الأمريكية في إسقاط حكومة طالبان في أفغانستان، أو صدام حسين في العراق. وانصب هذا التوافق على ضرب وتغييب الهوية العربية للعراق. فقد لاحظنا أنه لا تتم الإشارة إلى القوميات في العراق إلا عندما يجري الحديث عن الأكراد أو التركمان أو الآشوريين. أما عرب العراق وهم الأغلبية الساحقة فقد غيبت قوميتهم تحت تقسيمات ومسميات طائفية ومذهبية. ومقاومة الاحتلال أيضاً ألغوا هويتها الوطنية والقومية، فسموها سنية في الشمال والغرب والوسط، وشيعية في الجنوب. وحتى عندما يجري الحديث عن تراث العراق وحضارته، لا يشار إلى الحضارة العربية الإسلامية التي أنارت أوروبا في عصور الظلام، وإنما تحصر حضارة العراق في تراثه البابلي والآشوري والسومري. وبدا التواطؤ الأمريكي الإيراني على ضرب الهوية القومية العربية للعراق في تشكيلات الحكم التي أقامها حاكم العراق الأمريكي "السيد" بريمر حين عين أكثر من نصف أعضاء مجلس الحكم في العراق من شخصيات شيعية من أصول إيرانية ممن قدموا مع قواته من الخارج سواء كانوا مقيمين في لندن أو واشنطن أو طهران. وكذلك أكثر من نصف أعضاء مجلس الوزراء ( وبعضهم لا يتقن العربية أو حتى اللهجة العراقية ) ، وحرص أطراف التواطؤ الأمريكي الإيراني الكردي على أن يكون وجه العراق المطل على العالم، ورمز سيادته على الصعيد الخارجي وجها واسما غير عربي، حينما اختاروا لوزارة الخارجية وزيرا غير عربي، ليحتل مقعد العراق في جامعة الدول العربية. كما حرصوا على حذف صفة "العربية" عن الدولة العراقية عندما أعلنوا دستور العراق المؤقت. ويبدو أن إيران لا تكتفي بهذه المكاسب التي حققتها في العراق نتيجة تحالفها غير المعلن مع الإدارة الأمريكية في احتلال العراق، وترتيب أوضاعه وفق ما يخدم مصلحة الطرفين. فهي ترى أن الخدمة التي قدمتها للمحتلين الأمريكيين، من خلال إيحائها للمرجعيات الدينية في النجف من آيات الله الصغرى أو العظمى وأغلبهم من أصول إيرانية وبعضهم أفغاني أو باكستاني ( ولكن ليس بينهم أي عربي ) بعدم الإفتاء بمشروعية مقاومة الاحتلال، أو عدم اعتبارها فرضا جهاديا، مما قلص من دور المقاومة في بعض مناطق العراق، وخلق تعارضاً بين الموقف من الدين والموقف من الوطن.... ترى إيران أنها لم تجن بعد ما يعادل هذه الخدمات الجليلة التي قدمتها للاحتلال الأمريكي، ولذلك فهي تريد أن تضمن هذه النتائج التي حققتها على المدى البعيد، فهي تسرب مئات الألوف من مواطنيها ( ويقال أن أعدادهم فاقت المليون ) إلى مناطق الجنوب، وتجنيسهم عراقيا، من خلال عملائها، لتضمن الأرجحية لأتباعها في أية انتخابات عراقية قادمة. هذا فضلا عن الدور الاستخباراتي الإجرامي الذي تلعبه هذه العناصر في ملاحقة رجال المقاومة ، وكل الرموز القومية العربية. آه يا أبا عدي كم كانت مقولاتك ورؤياك صحيحة، وما أشبه حالك بحال أمير المؤمنين عليّ حين كان ـ كلما لم يفهمه، أو يأخذ برأيه أهله وأصحابه ـ يردد قول دريد بن الصمه: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى / فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد ترى هل يستبين النصح قومك من عرب العراق الذين غطت عيونهم وعقولهم غشاوات الطائفية والمذهبية، أو يستبينه أولئك العرب من خارج العراق الذين صرخت فيهم كما صرخ صلاح الدين من قبل ( أريد سيوفكم لا دعاءَكم ) ولكنهم لم يسمعوك، بل تعاون معظمهم مع العدو ضدك، وضد العراق ، وضد أمتهم. ترى هل يستفيق هؤلاء جميعاً..... فينهضون.