بقطع النظر عن المواقف المتباينة من الوثائق التي نشرها موقع ويكيليكس، بل من الموقع ذاته فإنّنا نتّفق على أنّ المعلومات التي ظهرت إلى العلن تُعدّ ذخيرة حقيقيّة يُفترض أن نحسن جمعها والمحافظة عليها ومزيد دعمها وتثبيتها تحسّبا ليوم حساب سيأتي بكلّ تأكيد، يوم سيقف فيه المجرمون أمام محكمة الشعوب ليجيبوا عن أسئلة المحقّقين والقضاة وليعترفوا بما أقدموا عليه من جرائم في حقّ الشعوب والدول، وفي حقّ الإنسانيّة قاطبة. وأوّل درس يقدّمه موقع ويكيليكس هو أنّ التاريخ لم يعد يكتبه "المنتصرون"، وأنّه ما عاد بإمكان الذين ينتصرون في أيّة حرب أن يضلّلوا الناس وينتقوا من المعلومات والمعطيات ما يوافق أهواءهم ويجمّل قبحهم ويقبّح جميل أعدائهم "المنهزمين". لقد ولّى ذلك العصر الذي كان فيه بمقدور الجيش "المنتصر" أن يطمس معالم جريمته ويخادع المؤرّخين ويكتب التاريخ على هواه، فلا نرى إلاّ بالعين التي يرى ولا نهتدي إلى الحقيقة إلاّ وفق ما يصوّر، فننخرط في حفلة وهم جماعيّة نسوّق الأوهام ونروّج الأكاذيب ونضلّل الأجيال التي ترد مناهلنا متعطّشة إلى الحقيقة. ولأنّ الموقع يثبّت وقائع/حقائق جديدة على الأرض فإنّ المتضرّرين يسعوْن إلى خلق هالة من التشكيك في صدق الوثائق أوّلا، فإذا أعيتهم الحيل فإنّهم يلجأون إلى ما أمكن من وسائل لتشويه صورة المسؤولين عن الموقع. وعلى هذا النحو يطلقون الاتّهامات والتحذيرات والتهديدات أملا في إيقاف نشر الوثائق التي تدينهم. وهكذا نستطيع أن نفهم لماذا اتُّهم مؤسّس موقع ويكيليكس جوليان اسانج قبل أشهر بالاغتصاب. ورغم أنّ الاتّهام وجّهته له السلطات القضائيّة السويديّة فإنّه ليس مستبعدا مثلما ذكر أسانج نفسه أن تقف وراءه وزارة الدفاع الأمريكيّة. إنّه لسان وجب قطعه.. ودون ذلك فإنّه سيظلّ تهديدا غير مسبوق لمصالح الولايات المتّحدة. نحن في هذه الحالة أمام تحوّل بالغ الأهمّيّة في علاقة السلطة السياسيّة بوسائل الإعلام والجهات القادرة على كشف الحقائق.. وهو تحوّل يجعل من هذه الوسائل "تسونامي" سيكون بالضرورة في خدمة الشعوب وفي خدمة الحقيقة التاريخيّة حتّى وإن طال استثمار المعطيات وتوظيفها ومعاقبة المجرمين وإعادة الحقوق إلى أصحابها. بالتأكيد لسنا نتّفق تماما مع المنهج الذي سلكه موقع ويكيليكس في نشر الوثائق الخاصة بالعراق، لا من حيث التوقيت ولا من جهة الانتقاء الدقيق الذي طال عمليّة اختيار المعطيات المصوّرة والمكتوبة.. ولكنّنا في مطلق الأحوال لا نملك إلاّ أن ننظر إلى هذه الوثائق على أنّها كنز حقيقيّ من الناحيتين التاريخيّة والقانونيّة. ووفق هذه الرؤية يجب علينا أن نحسن التعامل مع هذا الكنز فلا نبدّده، ولا نستهين به. ونحن نعتقد أنّ المادّة التي وفّرها موقع ويكيليكس تصلح أن تكون قاعدة أساسيّة في لائحة الاتّهام التي ستصدر دون شكّ في يوم ما وتوجّه الاتّهام الصريح إلى أعداء العراق الذين شنّوا عليه حصارا ظالما وغزوا همجيّا جائرا، فأسقطوا قيادته الشرعيّة الوطنيّة وأهلكوا النسل والحرث، فيتّموا ورمّلوا.. وارتكبوا المجازر بما يفوق الوصف.. لم نعد الآن في حاجة إلى وصف إنشائيّ يعتمد العبارة البليغة المؤثّرة، وربّما أصبح بالإمكان الاستغناء عن تقارير صحافيّة اتُّهم أصحابها بالانحياز إلى المقاومة العراقيّة. لقد أصبح بين أيدينا سيل من الوثائق هو طوفان حقيقيّ يذكر بالأسماء والأماكن والتواريخ كثيرا من الذين تآمروا على العراق وعلى قيادته الشرعيّة.. بعضهم كان معروفا لأنّه مكشوف يجاهر بعدائه للعراق ولشعب العراق.. وبعضهم الآخر كان يتستّر، فيُظهر خلاف ما يبطن.. إنّ القوى الوطنيّة العراقيّة وقوى الممانعة والرفض ستكون مضطرّة لخوض معركة طويلة وشاقّة قد تستغرق أجيالا بهدف جمع المعلومات المتوافرة وتوثيقها وتبويبها وتوظيفها في أيّة محاكمة قادمة وأكيدة لكلّ الذين تواطؤوا على عروبة العراق ووحدته وسيادته. ولأنّ هذه المهمّة ستكون من أنبل المهمّات وأشقّها مستقبلا، فإنّ المطلوب هو تحصينها بشبكة من الخبراء القانونيّين والمحامين والناشطين الحقوقيّين والمؤرّخين من العرب ومن الأصدقاء ومن شرفاء العالم وأحراره مشرقا ومغربا حتّى يكون لهذه الوثائق بعدها الإنسانيّ الذي يمنع ارتكاب حماقات ومجازر كتلك التي ارتكبها المحتلّ الأمريكيّ والبريطانيّ على أرض العراق. ولا شكّ أنّ فضح ممارسات الاحتلال الأمريكيّ سيصطدم بصلف القوّة ووهم العظمة، وسيسعى الأمريكيّون وأعوانهم في كلّ مكان إلى محاربة هذه الوثائق والتشكيك في مصداقيّتها. وذلك من شانه أن يحفّزنا على مزيد البحث ومزيد التوثيق ومزيد الإيمان بأنّنا نكتب الوقائع التاريخيّة كما حدثت فعلا، وهي الوقائع التي خطّها شهداؤنا في سفر الزمان بدمائهم، ودوّنها الأرامل والأيتام بدموعهم. وفي انتظار أن يكون للعراقيّين عراق ليكس، وأن يكون للعرب عرب ليكس ينفض الغبار عن الحقائق التي أراد الأعداء أن يُخفوها، فإنّ استثمار وثائق ويكيليكس يصبح من أوكد المهامّ وأخطرها. akarimbenhmida@yahoo.com