مدخل: في 8 أيلول 2005 كتبت هذه المقالة في بغداد واليوم لا يتذكر أحد جياد تركي ولا سواه من ضحايا الاحتلال لأن الموت مستمر في بلادنا والسكين مازالت تجز الرقاب في محنة لم يشهدها شعب من الشعوب طوال تاريخ البشرية المديد.. كم جياد تركي فقدنا، وكم زهرة ذبلت في العراق لتظهر محلها الطحالب الطائفية؟ لكن العراق عصي على الموت وهو سينهض نهوضاً عاماً ليقتص من أعدائه وخونته ومهما بعد ذلك اليوم أو قرب فإنه آت لا ريب فيه. المقال ها سنحتفل بأربعينية الزميل جياد تركي (أبو وثبة)، الذي أعطى للصحافة روحه ودمه وشبابه ولم تعطه في شيخوخته إلا التشرد والنسيان والإهمال والعقوق. حتى أنا عققته، وهو صديق قديم، وذكرني به، أمس، صديقنا المشترك عبد البطاط، وهو يروي، كيف قضى جياد تركي على تخت في مقهى مخلفاً ولداً هو عند أخواله في مصر، بعد موت أمه، وبنات صغيرات هن عند أعمامهن في البصرة ومجموعة كتابات صحفية لا تغني من فقر ولا تسمن من جوع. وجياد تركي، الذي قضى أيامه الأخيرة معنا في (الحقائق) ضحية من ضحايا الاحتلال، الذي حل وزارة الإعلام السابقة فقاوم الوضع الجديد من قاوم من الصحفيين، وانهار أمامه من انهار وكان من هؤلاء جياد تركي. كان جياد عضواً متقدما في حزب من الأحزاب، وعندما جاءت هذه الأحزاب حاملة دبابات المحتل على ظهورها وقف جياد، كما روى لي، أمام مقر ذلك الحزب وتعلقت عيناه بشعار ذلك الحزب الذي ضحى جياد من اجله طويلاً وكان يقدسه كل التقديس فتقدم حارس المقر وبيده بندقية وصرخ بجياد: لماذا توقفت هنا؟.. يقول جياد: تذكرت الدبابات التي احتلت بلدي واستهانة جنود الاحتلال بأبناء شعبي فاعترتني مشاعر الغضب ولكني كظمتها وسألت هذا الحارس: أية دائرة هذه عمو؟.. وعندما أجابني انه مقر الحزب الـ (...)، بصقت على المقر والشعار الذي كنت أقدسه كل التقديس ومضيت في طريقي وسط استغراب الحارس وذهوله. تكرم احد المحسنين على جياد تركي بغرفة مساحتها متراً في مترين ليسكن فيها، بعد أن أخرجوه من بيته الذي عجز عن دفع إيجاره الشهري. أذكر أن جياد تركي تعرض مرات إلى دهس بالسيارات وكان ينجو من الموت بأعجوبة كل مرة، ومرة واحدة تعرض لحادث تسليب بعد أن ضربه احد اللصوص على عينه بلكمة جعلتها تتورم وسرقوا منه الدولارات القليلة التي كان قد حصل عليها من عمله في إحدى الصحف. المهم، قضى جياد تركي حياته مشرداً فقيراً جائعاً على تخت مقهى في بغداد التي أحبها، وهو البصري العتيد، ومسؤوليته في رقبة الاحتلال الذي حل دائرته وشرد منتسبيها ثم لم يسأل عنه احد ولم تتذكره الحكومة ولم تحتف به نقابة الصحفيين أو تمد إليه يد المساعدة في حياته وتذكر به بعد موته وهو أحد قادة الرأي العام من عقود طويلة. نم قرير العين يا أبا وثبة فنحن مثلك على شفا حفرة من الفقر والجوع والتشرد ولكننا (يقولون) سنتسلم رواتبنا عما قريب ومستحقاتنا التي حجبها عنا الاحتلال وأنت تسلمك الموت وأودعك النسيان، فلعل روحك ستأنس بهذه الكلمات وتذكر بك الوسط الصحفي العاق الذي عشت فيه وله ونساك وكأنك لم تك شيئاً مذكورا.