ظهرت في الآونة الأخيرة فكرة جديدة هي فكرة تقسيم العراق ، ولم نسمع أحدا من العراقيين يدعو له ، إنما جاءت الدعوة بناء على قرار قالوا انه غير ملزم من الكونجرس أصدره ليحل به مشاكل العراق. يدعو هذا القرار إلى تقسيم العراق إلى كيانات ثلاثة إستنادا إلى ألتعدد ألطائفي والعنصري ، مما قوبل برفض شديد عند كافة فئات العراقيين في الداخل والخارج. إن العراق من ناحية جغرافية يشكل وحدة طبيعية متكاملة بين البحر والسهول والجبال ، وبحكم هذا الموقع الجغرافي ، وطبيعة أراضيه ، تميز العراق عبر التاريخ بميزات إجتماعية أسبغت عليه صفة التعددية في المذاهب والديانات والإتجاهات الفكرية ، والمجموعات البشرية. وكان أهل العراق يقيمون دولة واحدة على أراضيه في آن واحد ، ولم يفكر أهله ولا الغزاة بتقسيمه أو بإنكار وحدته. ففي العصور القديمة قامت دول كبرى كالأكدية والبابلية والآشورية ، ولم يجد المؤرخ اليوناني تسمية لها غير بلاد ما بين النهرين. وتعرض العراق للغزاة من الشرق والشمال الغربي ، ولم تتأثر وحدته. وجاءت الفتوح ألإسلامية العربية فأكدت هويته ، فكان موحدا في صدر الإسلام ، حتى أن إدارته وشؤون الجبهة الشرقية (إيران وأواسط آسيا) التابعة له ، كانت تعهد إلى أمير واحد. وصار العراق بعد ذلك مركزا للخلافة لدولة موحدة لعدة قرون ، ومركزا للثقافة والحضارة. ولما ضعفت الدولة بقيام الحركات الإنفصالية ، بقي العراق دارا للخلافة ومحورها. ولما غزا المغول البلاد ألإسلامية ، واجتاحوا العراق ، لم يسعوا إلى تقسيمه ، بل بقي موحدا بكيانه الإجتماعي والثقافي لأنه كيان غير قابل للتجزئة. وتوالت الأحداث ، واستولى العثمانيون على العراق ، وبقي ساحة صراع بين جارتيه ألدولتين من الشرق والغرب ، ولكنه بقي موحد ، ونظم إداريا ولكنه يعتبر كيانا خاصا واحدا. وتتحدث الدراسات الرئيسية الحديثة (أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) و(ألعراق بين احتلالين) أي العثماني والبريطاني. تقول هذه ألدراسات بأن العراق وحدة رغم كونه أصبح جزء من ممتلكات الدولة العثمانية. ومما يؤكد وحدة العراق وكيانه ، دوره ألتاريخي والحضاري. فقد قامت على أراضيه حضارة من أقدم الحضارات البشرية. ووضع أهله أقدم الشرائع والقوانين ، بخاصة شريعة حمورابي وهي أشهر من أن تعرف. وفي الدولة الإسلامية ، كان دور العراق رائدا في بناء الثقافة والحضارة العربية الإسلامية ، ليصبح في العصر العباسي مركزا رئيسيا لهذه الثقافة والحضارة ، وملتقى ألعلماء والباحثين والفقهاء والأدباء. وهذا يؤكد أهمية الموقع ، والبيئة الإجتماعية المفتوحة ، والنشاط الفكري لمتكامل ، إضافة إلى المجالات ألوافرة للكسب والتقدم ، والجو الآمن ألذي كان يشجع ذلك ، مما بقي سمة بارزة من سمات العراق ، وكون نسيجا إجتماعيا متكامل ، متماسكا يتعذر تفكيكه ، بل كان سببا في إغناء الثقافة وفي إزدهار لحضارة. أريد أن أقول أن هذه التعددية كانت مصدر قوة واستقرار ، وليس مصدر ضعف وانقسام ، وكانت مصدر غنى في الثقافة والبناء ، ولم نسمع عن صراعات مذهبية أو عرقية ، أو حروب دينية ، أو تهجير فئات وإبقاء أخرى بل كان التعاون والتآلف والوحدة رائد ألجميع. بعد الحرب العالمية الأولى ، وضعت إتفاقية سايكس بيكو التي إقتطعت قسما من العراق ولكن ذلك لم يطبق لأنه يناقض ألواقع والإرث التاريخي. ولكننا نواجه الآن بقرار من الكونجرس بتقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات تحت راية الطائفية والعنصرية ، وبحجة تحقيق الإستقرار وحل المشاكل ، متجاهلين بذلك التاريخ ألطويل ، وهو يناقض الإرث التاريخي لهذا ألبلد ، وينقض أبسط الحقوق العامة لأبنائه. ومن الطبيعي أن تعلن جل الفئات في العراق رفض هذا القرار لأكثر من إعتبار ، منها : اولا: لأنه يقضي على دور دولة مهمة في المنطقة لها إمكاناتها. ثانيا: يؤدي إلى تمزيق هذا النسيج المتماثل ، ويخلق كيانات هزيلة ، لا تستطيع تدبير أموره ، بل قد تكون هدفا لأطماع آخرين وسببا للمشاكل في المنطقة. ثالثا: لا يحل المشاكل الداخلية ، بل سيكون سببا في مقاومة داخلية شديدة وفي صراعات لا نهاية له ، بل لا يمكن في العراق أن يكون معزولا عن المنطقة ، بل قد يكون بداية لمشروع تجزيئي أوسع. * القيت بالنيابة عنه في المهرجان الذي اقيم في 8/10/2007 في مجمع النقابات في عمان بالأردن تأكيدا لوحدة العراق و قد قدم للكلمة بالقول: هذه كلمة التاريخ ، و حين يتحدث التاريخ لا يبقى مجال لقول انتهازي او تلفيق أو تزوير.