ركيزتان أساسيتان ارتفعت بهما خيمة الوجود هما الموت والحياة، فكما تلازمتا في عالم الانسان، تلازمتا أيضا في عالم السياسة، فجرى استخدام مضمونهما المادي والمعنوي الى أبعد الحدود على صعيد العالم عامة وعلى صعيد عالمنا العربي خاصة، ففي أوطاننا العربية تم تطبيق المعنى المادي للموت الى أقصى الحدود بحق سياسيين كثر، حتى اصطبغت أجزاء من خارطتنا العربية باللون القاني لكثرة ما أريق من دماء سياسييها، وتدحرجت رؤوس كثيرة بالحق ومن دونه وسط شكوك كبيرة بالهيئات القانونية التي قررت، والجهات التي نفذت تلك الاحكام. أما الغرب فقد جنح الى استخدام المعنى المعنوي للموت بعزل من يثبت تورطه في الفساد ومنعه من ممارسة السياسة، وغالبا ما كان السياسي المفسد هو الذي يعلن عن موته السياسي واعتزاله الحياة العامة حال افتضاح أمره، فيذهب مسيرا كي يواجه العدالة أو للجلوس في بيته وقضاء ما بقي من عمره بعيدا عن مجال الخدمة العامة، وكان الفضل في ذلك الى رصانة الجهات التي تتولى تنفيذ القانون والى المستوى العالي من الابتعاد عن الحقد والضغينة. نسوق هذه المقدمة للحديث عن ذكرى رحيل الرئيس صدام حسين التي مرت قبل أيام قلائل، وقد سبق أن قيل الكثير في تلك المحاكمة الصورية باتجاه عدم قانويتها، وفي هزالة التهم التي وجهت فيها، وفي عدم شرعية تقديم الرئيس اليها باعتباره أسير حرب، لكن في المقابل تحدث البعض من رجال القانون الرافضين لتلك المهزلة، معربين عن أن أملهم كان معقودا على مقاطعة الرئيس للمحكمة من خلال اعلانه الصمت المطبق وعدم الاجابة على الاسئلة الموجهة اليه، وبذلك يكون موقفا صريحا منه بعدم الاعتراف بهيئة المحكمة، حتى أن البعض راح يصور أن أجاباته على الاسئلة والرد على التهم الموجهة اليه هي اعتراف صريح بها، وكان من واجب هيئة الدفاع عنه أن تطلب منه الامتناع عن ذلك. فهل الحق كان معقودا في هذا الموقف أم أن الصواب كان في موقف الرئيس؟ يقينا أن صدام حسين لم يكن رجلا عاديا، بل كان استثنائيا في حياته ورحيله أيضا، وقد شكل هو بنفسه تلك الاستثنائية لنفسه من خلال قراءة التاريخ الذي كان مولعا به، ومن خلال فراسته البدوية ونظرته الى الحياة والموت على أنهما صفحتان متلازمتان في تاريخ الانسان، فكان أن قرر مع نفسه أن يظهر كل بطولته على المسرحين، مسرح الحياة ومسرح الموت حتى قبل أن يكون مسؤولا في الحزب والدولة، فتصدى في وقت مبكر من حياته الى رئيس الوزراء العراقي عبدالكريم قاسم، وهو يعرف جيدا ماذا يعنيه ذلك التصدي، فكان أن صدر عليه الحكم بالاعدام، ثم عاد في وقت آخر ليتصدى لمهمة توحيد صفوف حزبه تمهيدا للعودة الى السلطة في السابع عشر من تموز/يوليو، التي تصدى من خلال وجوده فيها للكثير من المصاعب والمهمات بنفس الهمة والروحية التي بدأ فيها مشوار حياته، فكان متعبا لحماياته وأجهزة الامن المسؤولة عن سلامته وهو يتنقل بين جبهات القتال عندما يشتد وطيس المعارك، ثم يعود يتنقل بين حارات وأحياء بغداد ليدخل بيوت أهلها مفتشا بنفسه عن أحوالهم ونوعية غذائهم ومستفسرا عن صحة أطفالهم وشيوخهم، في وقت كانت فيه الكثير من أجهزة المخابرات تبحث عنه في كل مكان لاستهدافه، وتدفع الكثير من عناصرها لتتبع خطواته، لكن يقينية البدوي بحتمية الموت كانت تدفعه دفعا متواصلا لملء مسرح الحياة بمزيد من الحركة حتى وأن كانت نتائجها تشكل خطورة جمة عليه. وقد واصل الرجل نفس المنهج حتى عندما تحول التهديد عليه من النطاق الاستخباري الى النطاق العسكري الصرف، ففي ذروة القصف الجوي العنيف على عموم العراق وبغداد خاصة، في أواخر أيام شهر اذار/مارس من العام 2003 كان يتجول في شوارع بغداد ليستطلع الاماكن التي تم قصفها من قبل الطيران المعادي، بل ركن سيارته الى جانب جامع بلال الحبشي في جانب الكرخ من بغداد وطلب من بعض مفارز الحزب والاجهزة الامنية مرافقته لمقاتلة قوات العدو الذي أنزل دبابتين بالقرب من جامع أم الطبول فحدثت معركة شرسة بين قوات العدو وقوات الحرس الخاص، الذي كان يتحكم بتلك المنطقة، وهو يعلم جيدا أن سماء العراق كانت تعج بالاقمار وطائرات التجسس التي تبحث عنه، ثم واصل باصرار عجيب نفس المنهج حتى بعد التاسع من نيسان/ابريل 2003 حتى يوم أسره، حـــــيث كان دائم الحركة والتــنقل بين القبائل العراقية يحث شيوخها على القتال، ويلتقي برفاقه في الحزب ليوجه ويدير الامور ويرفع المعنويات. لقد قرأ صدام حسين تاريخ حزبه في العراق جيدا حتى انطبعت في ذهنه صورة رفاقه الذين واجهوا محكمة المهداوي في العام 1959 بالهتاف باسم الحزب والاستهزاء بأحكام الاعدام التي صدرت بحقهم بتهمة محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم، وهم شباب يافعون لا تتجاوز أعمارهم بضع سنين بعد العشرين، في فترة مد شعوبي حاقد على العروبة، فقرر أن يسلك نفس الطريق الذي سلكه رفاقه وهو الشيخ المسن في مواجهة محكمة المحتلين وأعوانهم، لانه يتذكر جيدا كيف أن ذلك الموقف رسم دور البطولة للبعث حتى تدفق الاف من الشباب للانتماء الى الحزب أعجابا بشجاعة أعضائه ووقوفهم ضد الظلم ومصادرة هوية العراق العربية، فكان موقفه الشجاع في مواجهة الطغاة المدعومين من أعظم دولة بكلام بليغ ملقيا على عاتق نفسه فقط مسؤولية كل الذي جرى في خمس وثلاثين عاما من السلطة، مدافعا عن كل رفاقه ومبرئهم من كل مسؤولية، لانه يعرف جيدا بأن المحاكمة كان الهدف الرئيس منها هو اسقاط هيبته واظهاره بمظهر الضعيف المتوسل بما يمثله من عنوان سيادي عراقي، وبما يشكله مركزه في قمة هرم الحزب، فكان أن انتصر عليهم بعد أن أخذ زمام المبادرة منهم، لانه يعرف جيدا سيكولوجية المواطن العراقي الذي يحب أن يبقى زعيمه قوي الشكيمة شجاعا حتى لو اختلف معه، لذلك يتقزز العراقيون حتى اليوم عندما يقرأون في التاريخ السياسي العراقي الحديث كيف أن أحد قادتهم السياسيين في العهد الملكي هرب من القصر متلفعا بعباءة نسائية. لقد اتخذ صدام حسين قرارا مع نفسه أن لا يكون أبا عبدالله الصغير حاكم غرناطة، وأن لا يكرر تجربته فيقبل المساومة على الوطن كي يبقى مجرد دمية على كرسي لو دام لغيره ما وصل اليه كي يلومه بعد حين حتى أقرب المقربين اليه، ثم يجد المستعمرون شخصا آخر غيره فيستبدلونه به حاكما على بغداد عندما يشتهون ذلك، أو أن تفضحه وثائق الخارجية الامريكية أمام شعبه بعد أن ترفع عنها درجة السرية، فيقولون أنه تعامل معنا فباع الوطن كي يبقى صنيعة لنا، فآثر أن يستشهد أبناؤه على ثرى الارض لا أن يعيشوا أذلاء في دول أخرى، واختار لنفسه أن يكون طريدا على أن يمنحه الاعداء سنين عمر أخرى أو ربما تكون أياما قليلة ان أراد الله، على كرسي السلطة، فبقي فخورا أن من انتزع السلطة منه هي أقوى قوة كونية في الكون وبمساعدة الكبار الاخرين، بعد أن استخدموا كل ما لديهم من تكنولوجيا، بينما استطاعوا هدم القطب السوفييتي قبله بدون حرب، وعندما تقدم نحو الموت كان يعلم جيدا بأن العراق والوطن العربي وأحرار العالم ينتظرون منه بطولة أخرى تعيد مشهد بطولة عمر المختار، كما كان يعرف أيضا بأن كل أعدائه كانوا يبتهلون الى الشياطين كي يضعف وترتجف ساقاه فيسقط أمام الملايين ويتوسل بهم الرحمة، كي ينقلب المشهد لصالحهم ويصبحوا أبطال، لكنه كان يردد مع نفسه (مادامت طريقي معينة ومسرح نشاطي محددا فيجب أن أظهر على هذا المسرح كل بطولتي هذا هو قدري فيجب أن أكون به خليقا)، فكان أن أظهر بطولة قل نظيرها وأطلق رصاصته الاخيرة على الخوف الذي يصنعه الجبروت في النفوس الضعيفة، مستهزءا بالدمى حتى أن كانوا على كراسي الحكم، مانحا في نفس الوقت تجربته للاخرين كي يصنعوا الحياة حتى لو كانوا واقفين على بوابة الموت، لذلك لازالوا يخافون حتى اليوم من قبره فيصدرون التعليمات بمنع زيارته من قبل تلاميذ المدارس، ويتوسلون الاخرين باغلاق حتى قناة فضائية حملت اسمه، ويهددون بقطع شحنات النفط عن دولة شقيقة سمى مواطنون فيها شارعا باسمه .