إننا نشعر الآن بأن الحزب تسوده روح الأسرة الواحدة، وهذا شيء في غاية الأهمية لأنه البداية الضرورية التي لا غنى عنها للانطلاق إلى المجالات الرحبة، إلى الأهداف البعيدة، إلى المهمات القومية الواسعة والصعبة. لابد من منطلق متين متجانس، وفي الوقت نفسه حي متحرك. لا أريد أن أقول كلاما تقليديا، ولا اعتقد أن مناسبة المؤتمر هي أهم مناسبة في حياة الحزب، ولو أننا لا نقلل من شأنها ونطالب أنفسنا بأن نستفيد منها الاستفادة القصوى، ولكن العمل الجدي والعمل الأخلاقي ليس مقصورا على المؤتمرات، وقد لا تكون المؤتمرات أهم مجالاته، إنها مناسبات مهمة للقاء وتبادل الرأي وإلقاء نظرة على المسافة التي قطعت من الطريق، ونظرة أخرى على ما تبقى علينا أن نقطعه. إننا نستطيع أن نطمئن ونعتز بما حققه حزبنا في العراق، ليس هذا من قبيل الإطراء، ولكن هذا جزء مهم من الوعي الذي يجب أن يكتسبه مناضلو الحزب، يجب إن يعرفوا الأسس والمزايا التي أهلت حزبنا في هذا القطر لان يحقق استمرارية لم تتحقق في أي قطر آخر، وأن يحقق مسيرة نضالية متطورة ومتكاملة ذات تاريخ. هذا شيء موضوعي من واجب البعثيين أن يدرسوا ويحللوا هذه الحقائق. وهذه التجربة، وفي هذه الظروف بالذات -هذه الظروف القومية العصيبة- هي شي ثمين للأمة كلها، والبعثيون مطالبون قبل غيرهم بان يحرصوا عليها، وان يغذوها تغذية يومية بعقولهم وقلوبهم ونشاطاتهم، ولكننا نعلم بان غايتنا أوسع وابعد، وان الوطن العربي كله أصبح مهيئا بنسب متفاوتة ولكن بنسب جيدة، ليتطلع إلى حزبنا، ليرى فيه المثل والأمل لأن تجارب أكثر من ثلاثين سنة مرت عل هذه الأمة في نضالاتها ومحنها أظهرت أن الحزب ظل ثابتا ومتميزا ببعض الصفات التي لم تتوافر لحركة غيره. هذا ما يجب أن يحفزنا دوما لكي نوجه هذه التجربة الناضجة والناجحة في قطرنا العراقي. إن نوجهها وجهة الوطن الواسع والأمة الكاملة والمستقبل العظيم الذي لا نشك انه سيتحقق للأمة العربية. العالم، يرى أحيانا إمكاناتنا وقوتنا أكثر مما نراها نحن، أو كما يراها العرب بصورة عامة فللأمة العربية دور كبير في هذا العصر، والحزب لا بد أن يواجه مسؤولياته الكبرى، لا يمكن أن يقبل بالأهداف المحدودة، طالما ان التاريخ يريد ذلك ويهيئ العرب هذا الدور العالمي، فنحن إذن أمامنا طريق طويل ولا نتوقف عند بعض الثغرات والنواقص. لان العمل التاريخي، العمل الكبير لا بد أن يتأثر إلى حد ما بالواقع مثلما يؤثر في الواقع. والعمل الكبير يصحح نفسه بمجرد أن يتابع حركته، وأن لا يتوقف. يجب أن نقوي هذا الشعور في البعثيين بأنه أصبح لهم تاريخ، ليكون ماثلا بجوهره وبمجمله في كل لحظة من لحظات وعيهم ونضالهم، يستعرضونه بشكل خاطف لكي يضيفوا إلى هذا الماضي ويعطوا له باستمرار معاني جديدة وقيما جديدة متطورة. فالنضال، كما يخلق المستقبل فهو يخلق الماضي أيضا بمعنى من المعاني. تجربة حزبنا في العراق تجربة فريدة وقوية وناضجة. لذلك لم تتبرأ من الماضي، من ماضي الحزب في الأقطار العربية الأخرى، حملت مسؤولية هذا الماضي، أفادت من ايجابياته واتعظت بسلبياته. هذا دليل على أصالتها ونضجها بأنها لا تعتبر نفسها البداية والنهاية، وبهذا النظر الواسع المنفتح يستطيع مناضلو الحزب في الأقطار الأخرى أن يشعروا بأن هذه التجربة هي تجربتهم أيضا، وأن أي دعم لها وأي جهد يصرف في سبيلها هو دعم للحزب كله في مسيرته التاريخية. الحزب يتقدم بخطى وطيدة فيها التأني وفيها الحكمة وفيها الواقعية، ومؤمن بأن الأمة العربية تتقدم وان الغد غني بالمفاجآت، وان عبقريتها آخذة في الانطلاق والتفجر، وأن مظاهر التردي التي نراها لن تمنع ولن تحول دون التطور الحتمي المنتظر لامتنا. ولكن هذا التردي البادي على سطح الحياة العربية في بعض الأقطار لا يجوز أن نستخف به، ونقول بأنه شيء عارض لا يؤثر في الجوهر، لا بد ان تكون له أسباب حقيقية، يجب أن نبحث عنها ونواجهها بوضوح وشجاعة، فبعد فترة الحماس والإيمان التي حركت الجماهير العربية في الخمسينات نرى مظاهر الشك والتردد والعجز، لان المشاكل التي نواجهها أصبحت أكثر تعقيدا، ولكن المهم أن نُرجع إلى الجماهير العربية حرية الحركة والتحرك، وان نرجع إليها الجو التاريخي، جو الأهداف الكبرى، جو الرسالة العربية. فخروجنا (أي خروج العرب) من الحالة العارضة، اعتقد انه سيكون بغرس الثقة من جديد بالأمة وتاريخها ورسالتها، وبغرس الثقة بالإنسان العربي وبالإنسان بعامة، وغرس الثقة بالجماهير وقدرتها وحكمتها أيضا. لا نقلل من حكمة الجماهير ووعيها المختزن ودوافعها التاريخية العميقة. كما أنه في الحزب علينا أن نجدد الثقة بالمناضل ألبعثي ليكون مناضلا مسئولا، حرا، متحملا للمسؤولية. في العالم تحدث تطورات سأكتفي بالإشارة إلى بعضها لأني اعتبرها مؤثرة في مسيرتنا الثورية. الثورات الاشتراكية التي حدثت في العالم من بداية هذا القرن واستمر بعضها حتى الآن، في أنظمة معروفة لم تحقق القفزة النوعية التي كان مأمولا منها ان تحققها. حققت تقدما اجتماعيا لبلدان وشعوب كانت تعاني بنسب مختلفة من التخلف ولكنها لم تحقق التغيير النوعي في الإنسان، لم يخلق الإنسان الاشتراكي الجديد، لم يتكون، لم تنجح تجربته، أو لم ينجح تكوينه. ومضى على هذه الثورات عدد كاف من السنين، عشرات السنين و لا يبقى عذر لأي ثورة إذا هي لم تجسد أفكارها الأساسية، ولا تعطي خلال هذه العشرات من السنين جوهر ثوريتها. والواقع أن الفرصة ضاعت على هذه الثورات رغم القوة التي بلغتها بعض البلاد، قوة تكاد تنحصر في النواحي المادية التي لا تصمد للزمن، أكثر منها في تكوين الإنسان والمجتمع الاشتراكي. إن هذه الثورات سبقتنا في الزمن وكانت قد ورثت أيضا تراثا ثقافيا فكريا اغني وأوسع من التراث الفكري والسياسي الذي في حوزتنا، وكانت الثورة العربية بما فيها حزبنا تتطلع، شاءت أم أبت، إلى الثورات الاشتراكية وتقتبس تارة عن وعي وتارة بدون شعور وبالتقليد. إن أمام حزبنا وقفة، وقفة متأنية ومتعمقة يجب أن نطالب أنفسنا بها لكي نعزز في حزبنا النهج الاستقلالي والتفكير الأصيل، ونتعظ بما يجري عند غيرنا، ونتحرر ونتخلص من التقليد الذي دخل، كما قلت، عن فصائل الثورة العربية بنسب مختلفة. وقد نكون أحسن حالا من الجميع في هذا الموضوع ولكننا مطالبون بان نعتبر بهذا التوقف أو التجمد الذي أصاب الثورات الاشتراكية، والذي يجب إن نبحث عن أسبابه لأننا نحن في وضع أفضل، مازلنا في بدايات الطريق طالما أننا لم نوحد أجزاء وطننا الكبير ولم نوحد امتنا الكاملة، فإذن الزمن يسير لمصلحتنا ويعطينا أمثلة ونماذج للاعتبار والدرس، ولكي نصرّ على استلهام الأصالة في تاريخنا وفي روح أمتنا، ولكي لا نصل في يوم ما إلى طريق مسدود.