لم يتعظ الاحتلال الأميركي، كما لم يتعظ ممن يسكنهم الوهم بقدرتهم على تفصيل ثوب للعراق، بأنهم أعجز من أن يترجموا أوهامهم إلى وقائع. وهكذا هو حال من لا يقرأ الكتاب بعيون استراتيجية. أما نحن فنرى أن من لا يزال يراهن على أنه قوي في العراق، وأنه يستطيع اقتطاع حصة منه، فإن مراهنته ليست أكثر من تقطيع الوقت الضائع لأنه لا بديل أمام الجميع غير ذلك ليس لسبب إلاَّ انتظاراً إلى ما ستؤول إليه الأوضاع العراقية بعد انسحاب الكتلة الأكبر من جيش الاحتلال الأميركي إلى خارج الحدود.لكن هل يعني ذلك أن الساحة العراقية الآن متروكة من دون ربِّ يرعاها ليصل بها إلى شاطئ التحرير والاستقلال بعيداً عن أوهام القاصي والداني ممن لهم أطماع في العراق؟ ليست الأمور متروكة لوحي يُوحى، ولا لمتنبئ يعلن نبوءة، وإنما سياق الأمور ومجرياتها منذ العاشر من نيسان 2003 حتى الآن يرسم حدود مستقبل العراق ويدعها أمام القارئ الاستراتيجي واضحة جلية. ووضوحها لا يعني أن العراق استراح وارتاح، بل إن آخر مراحل ولادة النصر والتحرير ستشهد، كما هو ظاهر من الأحداث الأمنية التي تجري الآن، آلاماً قيصرية حادَّة. مدعوماً من خُمس دول العالم، وثلاثة أرباع أنظمة العرب الرسمية، ونصف دول الإقليم، لم يكن الاحتلال الأميركي مرتاحاً وقادراً على رسم مستقبل العراق، وهو بعد خروجه المهين وبعد أن تكسِّرت أجنحة حلفائه، ووسط ذهول قسم آخر لا يعرف ماذا يفعل، يتساءل ماذا جنى من رهانه على الاحتلال الأميركي أكثر من القلق الكبير من المرحلة القادمة. فهل بعد تلك المتغيرات تستطيع قوة ما أن تزعم أنها قادرة على الإمساك بقرار العراق؟ وهل تستطيع أي قوة أن تراهن على هذه أو تلك من الحكومات؟بل هل الاتفاق على ترئيس المالكي يحل مشكلة العراق؟ولو جاءوا بغير المالكي، فهل سيكون أقل سوءاً منه؟ كلهم عملاء خانوا وطنهم وأمتهمكلهم خونة ساروا بركب الاحتلال طمعاً بسلطة يمارسون تحت خيمتها السرقة والنهب. وهم جاهزون للهرب إذا ما لاحت فرصة للهرب أمامهم، خاصة إذا صبَّ الشعب العراقي جام غضبه على رؤوسهم. لن يتم حل مشكلة العراق بحكومة يترأسها مالكي أو علاوي أو غيرهما ممن هم على شاكلتهم ممن أدمنوا الركوب في آليات الاحتلال. فقضية العراق لن تحل إلاَّ بتحريره من الاحتلال وعملائه، و إلاَّ بتحريره ممن تسللوا إلى العراق بأثواب «الشيطان الأكبر». أتركوهم على غيِّهم صامدون لأنهم لن يفهموا ولن يتعظوا، فمن انزلق إلى ساحات الشر ولعب في ميادين الأشرار سيعمل على إكمال المشوار حتى يفقد الأمل نهائياً، وسيلعبون في الوقت الضائع قبل الهروب النهائي مقتفين دروب «شيطانهم الأكبر». إن المقاومة تمتلك اليوم سلاحاً كانت تفتقده في سنوات الاحتلال الماضية، سلاح يُضاف إلى سلاحها الذي كان وحيداً فيما مضى. إنه أولاً سلاح الشعب العراقي الذي كان جزء منه مرهوباً من القوة العسكرية الكبرى للاحتلال، وهو اليوم اسـتأنس بفعالية المقاومة وقدرتها على تحرير العراق، فالشعب العراقي بمجموعه الآن لن يدع عيون العملاء تنام، عيون العملاء المتروكين لمصيرهم بعد أن هرب «رامبو أميركا». وهو ثانياً خوف الحلفاء العرب الذين كانوا أمناء للاحتلال الأميركي وهم اليوم يفتشون عن حلول لمشاكل تركها الاحتلال لهم ومن أهمها النظام الإيراني الذي يهدد أمنها الأهلي. لكل ذلك، وبعد أن أصاب الضعف مفاصل الاحتلال الأميركي حتى حدوده الدنيا، أصبحت القضية العراقية ذات شقين: - الشق الأول تحرري يقتضي ملاحقة فلول الاحتلال أينما كانت. بقتلهم في بروجهم أو ملاحقتهم كلما خرجوا من تلك البروج.- والشق الثاني مطلبي يقتضي إسقاط كل المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية التي لا يزال الاحتلال يراهن على أنها قد «تشيل الزير من البير»، وذلك بتجويفها من الداخل حتى تصبح هياكل تتساقط من تلقاء نفسها. وإذا كان الشق الأول متعلق بزنود المقاومين من ذوي الخبرة العسكرية، وهو ما نحسبه «فرض كفاية»، فإن الشق الثاني متعلق بجهد كل عراقي، وهو ما نعتبره «فرض عين» لا عذر لعراقي يتقاعس عن القيام به. فعلى المنتسب إلى الأجهزة الأمنية والعسكرية أن يوظف موقعه إلى جانب شعبه، وخاصة من المقاومين، بالامتناع عن الإضرار به أولاً والانقلاب على قياداته المرتبطة بمشروع الاحتلال ارتباطاً نهائياً. أما واجب العراقيين الآخرين فهو النزول إلى الشارع للدفاع عن لقمة عيشهم وحبة دوائهم ومدرسة أبنائهم والنور في منازلهم والدفاع عن حريتهم وكرامتهم... وما أكثر المشاكل الحياتية عند العراقيين فهي أكثر من أن تُحصى. فإذا كان أداء المقاومين في الخندق العسكري يتصاعد كماً ونوعاً، كما تدل على ذلك بيانات المقاومة. وإذا كانت اللحمة الجبهوية تتنامى كما تدل على ذلك وقائع ما يجري. فإن للعمل الجبهوي مهمة أساسية في هذه المرحلة تقتضي بناء خلايا في المدن والأحياء العراقية، على أن يكون من واجباتها النضال المطلبي وقيادة الجماهير، وهي محتقنة ومؤهلة، للنزول إلى الشارع. وستجد تلك الخلايا أن مهمتها ستكون كمن يضرم النار في الهشيم لكثرة ولشدة الألم الذي يعتصر نفس كل عراقي وعراقية، كل طفل وطفلة، كل شاب وشابة، كل مسنٍّ ومسنَّة.