أفرزت الحرب الأمريكية في العراق نتائج عميقة التأثير على ما يعقبها من مسارات كان من المستحيل توقع حصولها لو استند المراقبون المتخصصون بالإستراتيجية الأمريكية على الدراسات النظرية المجردة أو اعتمدوا على حسابات الكومبيوتر ، لعل في مقدمتها أن بلدا كالولايات المتحدة التي يفترض أنها تخضع قراراتها السياسية والعسكرية لحسابات غاية في التعقيد والدقة وتمررها على آلاف العقول البشرية المتخصصة والعشرات من مراكز الدراسات الإستراتيجية ، ما كان ينبغي له أن يستنسخ تجاربه الفاشلة ويكرر الوقوع في منزلقاتها المرة الواحدة تلو الأخرى ولا يكاد يستفيق من أهوال تجربة مرة إلا ويقع في مأزق أخطر ويتكبد خسائر كبرى ، كانت أجهزته المختلفة قد بذلت أقصى جهد لطي صفحة التجربة السابقة من الذاكرة الأمريكية الجمعية . بعد الإخفاق الأمريكي المدوي في فيتنام ، توقع معظم المتخصصين في الدراسات الأمريكية أن الولايات المتحدة لن تكرر أخطاءها التي عانت من ويلاتها هناك ، وأن الهزيمة العسكرية والسياسية والنفسية التي تكبدتها في فيتنام سوف تردعها عن الذهاب إلى مغامرات جديدة ، ولكن هذه الحسابات كانت قاصرة على ما يبدو عن الانتقال من مراكز الدراسات إلى مراكز صنع القرار ، فمراكز الدراسات المتخصصة في الشأن العسكري ظلت حريصة على التثقيف المنهجي بأن ما حصل في فيتنام ما كان له أن يتم بالصورة التي حصلت لو لم يتدخل الاتحاد السوفيتي السابق ولو لم تتدخل الصين إلى جانب كفاح الشعب الفيتنامي ، وإذا حذفنا أثر هذين العاملين من المعادلة فإننا سنرتكب نفس الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة لاحقا ، إذ أن الدعم السوفيتي والصيني وتأييد شعوب العالم لكفاح الشعب الفيتنامي كل ذلك كان له دوره الفاعل في تحقيق النصر النهائي ، غير أن تضحيات الشعب الفيتنامي واستعداد هانوي لتكون ساحة مفتوحة بلا قيود للضربات الجوية الأمريكية ، وكذلك صمود المقاتلين في الجزء الجنوبي من فيتنام هو الذي أقنع حركات التحرر والمنظمات الحقوقية والإنسانية في العالم على الوقوف مع تضحيات هذا الشعب بلا قيود ، ويبدو أن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط النظم الشيوعية في أوربا الشرقية ، وصعود الولايات المتحدة كمركز استقطاب أوحد في العالم غذى النزعة العسكرية الأمريكية بشحنات قوية من شعور غامر بوهم القوة والقدرة على فرض خياراتها على شعوب الدول الصغيرة استنادا إلى فرضية أن من كان يناكف الولايات المتحدة وهو المعسكر الشرقي قد خرج مهزوما من ساحة الصراع الدولي وبالتالي فإن أي شعب من شعوب الأرض لن يصمد منفردا أمام جبروت القوة العسكرية الأمريكية الهائلة ، ولهذا اعتبرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة التي ترتكز على قاعدة ثابتة في واشنطن وهي أن لكل رئيس أمريكي حربه الخاصة ، أن خوض غمار حروب جديدة تحت لافتة الحرب على الإرهاب لن تكلف البلاد أعباء كبيرة كتلك التي تجرعتها إدارات أمريكية متعاقبة في الهند الصينية حتى خرجت القوات الأمريكية من سايغون بالصورة التي ما تزال راسخة في ذاكرة من عايش تلك الحقبة . وإحساسا جارفا من جورج بوش بقدرة بلاده على تحقيق النصر السريع مع مزاعم عن نحر الذبائح تحت سرف الدبابات الزاحفة نحو بغداد ، بدأ الاستعداد لغزو العراق وتم تجهيز قوات النخبة الأمريكية لهذا الغرض ، ومن غرور القوة المزعومة لم يستطع بوش انتظار شهر واحد على احتلال بغداد ليعرف الحقائق عن قرب ، إذ أعلن من على ظهر حاملة الطائرات الأمريكية أبراهام لنكولن في الثاني من أيار / مايو 2003 وبحماقة لا يحسد عليها ، عن تحقيق النصر النهائي في العراق ، ولكن القوات الأمريكية فوجئت بأن ما كان قاله الرئيس الراحل صدام حسين بأن الحرب ستبدأ بعد الاحتلال وأن استحضارات إلحاق الهزيمة بالولايات المتحدة قد استكملت ، كان هو الحقيقة الميدانية الوحيدة التي أثبتت صحتها ، وهذا ما أكدته أسرع مقاومة مسلحة في أي بلد احتل في العالم ، فقد كانت العملية الأولى التي واجهت بها المقاومة العراقية أرتال الجيش الأمريكي في العاشر من نيسان / أبريل 2003 أي بعد يوم واحد من احتلال بغداد ، وتصاعدت حدة العمليات أفقيا وعموديا وبدأت نعوش القتلى الملفوفة بالعلم الأمريكي تعود بها طائرات النقل العسكري بلا توقف ، حتى أوشك الرئيس الأمريكي جورج بوش أن يعلن عن هزيمة بلاده في عام 2006 كما اعترف بذلك صراحة ، لولا بروز ظاهرة المرتزقة الجدد ممن أطلقت عليهم الولايات المتحدة اسم الصحوات والتي مكنت القوات الأمريكية من الدخول إلى مناطق كانت تحلم بالمرور قربها دون خسائر . وبعد الإقرار بالهزيمة الأمريكية توقع العراقيون أن تستفيد الولايات المتحدة من تجربتها المرة الجديدة في العراق وتحمل عصاها وترحل قبل فوات الأوان ، بيد أن الدوافع الحقيقية لمجيء أمريكا للعراق والتي لم يتحقق منها شيء دفعت بها إلى هزائم أخرى في محاولة لتعويض خسائرها السابقة فخسرت إضافة إلى ما تكبدته في صفوف الجنود والمعدات والمال ، خسارة نفسية لا يمكن إخفاء معالمها وهي هزيمة أكبر من هزيمتها في فيتنام ، فالمقاومة العراقية كانت تقاتل دون ظهير دولي أو إقليمي وربما على العكس من ذلك تماما أنها المقاومة الوحيدة في العالم التي اعتمدت على نفسها في مواجهة أكبر قوة عسكرية اقتصادية وسياسية في العالم ، وكان ظهرها مكشوفا لتنسيقات أمنية من بعض دول الجوار تحت رعب الخوف من أمريكا ، ولكن الإدارة الأمريكية في عهد أوباما لم تلتزم بتعهد واحد مما أعلنه أوباما في حملته الانتخابية وفي خطاب التنصيب . وفي واقعة تجسد العجز الأمريكي عن التعاطي مع الملف العراقي أقدم الرئيس الأمريكي باراك أوباما قبل عدة أسابيع على خطوة تنم عن جهل مركب بطبيعة المجتمع العراقي ومحاولة لنقل ولاية الفقيه إلى العراق بمرسوم تشريعي من الإدارة الأمريكية ، كما يدلل على ضعف في إدارة أوباما للأزمات التي صنعتها بلاده ، وفي تغير في مناخ التعاطي مع المشكلات الكبيرة ذكرت تقارير صحفية أن الرئيس الأمريكي أرسل رسالة للسيستاني يحثه فيها على التدخل لانتشال العملية السياسية من المأزق الذي وصلت إليه ، فالولايات المتحدة التي كانت تطرح نفسها باستمرار على أنها قوة دولية كبرى وضعت حدودا فاصلة بين دور رجال الدين ورجال السياسية ، نراها وفي لحظة عصيبة من تاريخها تتخلى عن واحدة من ركائزها المبدئية وجدت نفسها مضطرة للاستعانة برجل الدين علي السيستاني على سرعة تشكيل الحكومة العراقية بعد أن عجزت زيارات جوزيف بايدن واتصالاته الهاتفية عن الخروج ببارقة أمل بقرب تشكيلها ، هذه خطوة أفقدت الولايات المتحدة هيبتها ومصداقيتها أمام حلفائها وخصومها على حد سواء ، فالولايات المتحدة حينما استنجدت بالسيستاني سجلت على نفسها إخفاقا إضافيا في التعامل السياسي مع القوى والحركات والأحزاب التي كانت قد ورطت واشنطن في مستنقع الدم والوحل العراقي ، وإذا بها تقر بأن كل ما بنته كان صروحا فوق رمال متحركة ، غير أنها باختيارها هذا تواصل إغماض عينها عن الحقائق الميدانية وهي أن السيستاني لم يعد يمتلك الرصيد المعنوي الذي كان عليه قبل 2003 ، فقد قضمت أحداث العراق وصمت المرجعية الدينية إزاء الجرائم التي ارتكبها المحتلون من جرف المرجعية نفسها ، وفقد المواطن العراقي ثقته بقدرتها على التعاطي مع قضاياه الجوهرية ، فهل هي عودة لخيار الحل الديني القائم على أسس مذهبية والمرتبط بإيران ، أم هو حيلة المضطر في اللحظة الأخيرة ؟ هذا من جانب الولايات المتحدة فماذا بشأن رد السيستاني على طلب أوباما ؟هناك حقيقة أساسية لا يجوز إهمالها في التعاطي مع دور مرجعية النجف ، وهي أن السيستاني الرجل الإيراني المولد والأصل والهوى لم يحرك ساكنا منذ احتلال العراق على الرغم من أن وظيفته كانت تحتم عليه إصدار فتوى ضد غزاة احتلوا بلدا مسلما ولكنه بدلا من ذلك تواصل مع ممثلي بلد الاحتلال كما كشف ذلك بول بريمر بصراحة في كتابه ( عام قضيته في العراق ) ، ويبدو أن الولايات المتحدة تريد رد الجميل للسيستاني على جميله السابق ، حتى اضطرت قوى شيعية فاعلة في الشارع العراقي إلى طرح مفهوم الحوزة الناطقة في تلميح واضح المعالم إلى أن حوزة السيستاني كان صامتة ، وهذا الأمر قاد إلى معارك طاحنة شهدتها مدينة النجف بين أنصار المدرستين فما كان من السيستاني إلا أن يغادر إلى لندن بدعوى إجراء فحوص طبية وكل من شاهده يومها على شاشات الفضائيات كان لا يصدق حركته الرشيقة في مطار لندن ، مما أكد أن الهدف من مغادرته للعراق كان تمرير المجزرة التي تعرض لها أنصار التيار الصدري وذراعه العسكري ( جيش المهدي ) في النجف عام 2004 بعمليات مشتركة للقوات الأمريكية والعراقية التي تنحدر من فيلق بدر ، وحينما شهد العراق كل الانهيارات الأمنية وعمليات القتل على الهوية لم تصدر فتوى واحدة من السيستاني تدعو إلى حقن الدماء ، وتعرض العراق إلى محن أمنية وسياسية وانهيار لمنظومة الخدمات كلها ، وظل صامتا ولم يشاهده أحد في موقف واحد مدافعا عن حقوق العراق ، فهل بعد رحلة الصمت هذه وبعد أن رفض كل صيحات العراقيين للإدلاء بدلوه من أجل وضع حد للفجيعة العراقية المستمرة ، هل تراه سيستجيب لدعوة أوباما ويؤكد صدق الاتهامات له بأنه يفكر بطريقة إيرانية ويحلم باللغة الفارسية كما يتكلم بها أمام زائريه على قلتهم ، وأن الإملاءات الأمريكية أبلغ تأثيرا وأيسر على الفهم من كل الصور المأساوية التي عاشها العراق منذ الاحتلال حتى اليوم ؟