تكريم الشباب وتشجيعه وتثمين دوره وتنمية قدراته من واجبات الأسرة والدولة لأن الشباب هو مستقبل الوطن وقوته الصاعدة. وهنا يصح القول "نكسب الشباب لنضمن المستقبل". ولكن أي شباب يستحق التكريم ونحتاج إلى كسبه ليكون قوة للمجتمع وضمانة للوطن؟. الثابت بلا ريب وبلا تعميم أيضا أننا نقدم التضحيات كأولياء وكما تقتضي المسؤولية الأسرية والاجتماعية ولكن لا نجني غير الأتعاب وفي النهاية تحصدنا المحن لأن النشء المأخوذ رغما عنا بالولع التافه والتقليد الزائف والاتكال والوصولية لا يعير للقيم وزنا ولا يشد أزرا ولا يُعين خيطا في إبرة. هذه الفئة من الشباب ليست قليلة في مجتمعنا وهي نتيجة لتراكم ثقيل من الأزمات ومن الاختلالات التي نخرت صميم المجتمع ولا زالت تمضي قدما في العمق منه. والأكيد أنه عندما تنكسر المجتمعات وتضعف القيم والأخلاق والانتماء الوطني والثقافي تنهار الشخصية الفردية والجماعية وتحل أنماط غريبة من التفكير والسلوك ويصبح التفاعل والتواصل بين الأجيال فاقدا للتناغم والتجاوب، ويصبح الحوار بين الأولياء والأبناء غير بناء إلى حد التشنج وربما القطيعة أحيانا. وبين هذا وذاك تأخذ الانتهازية والنفاق والتحايل وغيره من المفاسد حيزا في العلاقات العائلية، ولا ينكر ذلك إلا موار أو مغلوب كتوم أو تارك للمسؤولية أو جاهل بالمآل الخطير. في ظل هذا المنزلق الشامل (النفسي والفكري والسلوكي، الأسري والاجتماعي عموما) ثمة ثقافة جديدة تنشأ وعلاقات أخرى تتبلور تثير القلق والتوتر والتوجس لدى الكبير والصغير. والشواهد على ذلك ليست خافية والجميع ليس خارج السفينة ولا يستطيع التجذيف عكس التيار. وللمسألة وصفها ومساراتها المتعامدة والمتوازية ولها أسبابها الصارخة والكامنة.فعندما تحول المدرس المربي إلى مجرد موظف مكون، فقد التعليم دوره التربوي وهيبته الرسالية وتحولت المدرسة إلى فضاء للعلم المجرد. وعندما تحول الولي إلى مجرد عائل فاقد لدوره التربوي أيضا تحول البيت إلى فضاء للإقامة المجردة. وبحكم تجريد هذا وذاك وهذه وتلك من المضمون القيمي والتربوي، أصبح الشارع والمقهى والهاتف الجوال والإنترنت والمزامرة الصحبوية الفضاء الأكثر تأثيرا في بناء شخصية النشء اليافع الصاعد والمجال الأكثر توفيرا للترفيه والحرية والتعبير عن الذات عبر النزوات والمغامرات غير المحسوبة. وكلما اندمجت فئة الشباب في هذا النوع من الفضاءات صار لديها المدرس والولي أقل تأثيرا وأقل جاذبية وربما صارا مصدر إزعاج ومضايقة لنسبة كبيرة من الأبناء. ولا شك أن نجد في المقابل نسبة هامة من المدرسين والأولياء أيضا خيرت الإنكفاء والتصرف بمرونة وربما بحيادية تجاه جوانب كبيرة من سلوك الناشئة تجنبا لوجع الرأس وتهربا من إثارة التوتر وخوفا من تعقيد العلاقة مع المشمولين بالرعاية. وبقدر ما تسوء الحال يلوذ البعض بالصمت والانتظار ويتردد البعض في إثارة المسألة ولكن البعض لم يعد يتحمل ما يجري دون توجيه اللوم والتهم إلى هذا الطرف أو ذاك إذ يتحدث البعض من المدرسين عن استقالة الأولياء وتراجع نفوذهم الرقابي والتوجيهي وفي المقابل يتحدث الأولياء عن ضعف الكفاءة وتراجع الدور التربوي لدى المدرسين. وبين الطرفين بدأت الناشئة تشق طرقا وتستخدم أساليب في التفكير والعيش بعيدة بنسبة ما عن منظومة الضوابط والثوابت التربوية والقيم المألوفة. والسؤال المطروح هل يشكل هذا التوجه انحرافا أم تجديدا أم هو مجرد (فترة مراهقة) أو هو صراع عابر بين الأجيال؟. بكل موضوعية لا يوجد جواب محدد. ولكن وبجميع المقاييس التربوية والقيمية لا بد من الإقرار بأننا إزاء وضع محير ومدمر وأمام فئة من الشباب مختلفة الطبائع وضعيفة المستوى (الفكري والعلمي والاجتماعي)، كثيرة التردد وعاجزة عن الاعتماد على الذات وبمعنى أشمل ضعيفة الشخصية. فواقع الحال يضعنا أمام جيل من الأولياء قوي الصبر وكثير العطاء والتضحيات وجيل من الشباب ضيق الصدر قليل الوفاء وكثير الطلبات، يأخذ بلا حساب وينأى بنفسه عند العطاء والمسؤولية. وهنا تكمن الخطورة. فهذه الفئة من الشباب تبدو فاقدة للثقة في المؤسسات التربوية والتأطيرية العائلية والعمومية، متمردة بطريقتها على الضوابط والثوابت، فاسدة الذوق والضمير، مسكونة بالأهواء والميول الذاتية دون تقدير ولا تمييز. وهذا ما يجعلها سريعة القلق، كثيرة التذمر وقابلة للانحراف بسهولة. فهي تشكل أرضية سانحة لانتشار المفاسد المختلفة كالإدمان والسرقة والجريمة والعقوق والتطرف الفكري والسلوكي حتى صار الطيب منبوذا وحسن النية مغفلا والجاد مزعجا والمؤمن شاذا. ومما يزيد الوضع تعقيدا تفشي ظاهرة البطالة والفقر والعزوبة والإحباط وهي عوامل جد هدامة للروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية الأمر الذي يغذي الانفلات والشطط والتمرد عموما في صفوف الشباب. في مثل هذا الوضع من سيسمع من؟. من سيحترم من؟. من سيصلح من؟. هل بقي باب الحوار مفتوحا؟. هل بقي الوعظ والإرشاد والإقناع مسموعا؟. الجميع في حالة تبرم وارتباك لأن الشباب أضحى خارج دائرة السيطرة المدرسية والعائلية وبات رهين النزوات والمزاجية. شباب يريد كل شيء إلا المطالعة والقراءة ويسمع كل شيء إلا النصيحة والإرشاد ويستهلك بلا حدود ولا يفيد ويتحدث في كل شيء إلا الفكر والثقافة والسياسة وما يشحذ الهمة ويمتن الإرادة. وهذا يعني الكثير ويؤكد الفجوة الكبيرة بين الشباب والنخبة بمختلف أصنافها وتأثيراتها. لقد بات المفكر منزويا يقلب أفكاره ويواريها في غياهب الكتب، وسكت المثقف بل تعب من النباح ولا سميع، وصار الباحث يسأل نفسه عن جدوى أعماله، وكل الناقد ولا مستفيد، وظل السياسي بلا أنصار ولا مهتمين. والنتيجة قد انحسر تأثير النخبة وضعف دورها في الوسط الشبابي بعدما طغى حب المال والمظاهر ونزعة الاستهلاك والطمع والنفاق على النفوس وسطا الفساد والإشهار الزائف والإعلام الكاذب على مدارك الجيل الجديد ليلقي به في عالم الأحلام والأوهام والوعود العجاف وصولا إلى شتى أنواع المزالق والمهالك. فكأني بالشباب في سباق لركوب سفينة الفساد خوفا من البقاء خارج التيار بل قل خارج الطوفان. فمن ينقذ من؟ بعدما أخذت محن الشباب بيننا منبتا يتسع يوما بعد يوم لينتج المزيد من البذور الموبوءة؟. قد يتهمني البعض بالمبالغة أو سوء الفهم والتقدير وقد يراني البعض متشائما. والحقيقة لست لا هذا وذاك وإنما أخذتُ الأمور بلا رتوش وبكل أمانة. وإن بالغت أو تشاءمت فبدافع التحذير من المخاطر والتحديات التي تعصف بمجتمع الشباب، وبدافع الرأفة بالمنادين بحقوق الطفل وعيد الطفولة وعيد الشباب وأفراح السنة الدولية للشباب، وبدافع الشفقة تحديدا بالمُعولين على جيل الانفلات والانبتات. والحقيقة كأنه جيل بلا نخوة ولا فحولة مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التعميم وكذلك عدم الاستهانة بهذا المنعرج الاجتماعي والثقافي الخطير. hedi_mathlouthi@yahoo.fr