الرسالة التي بعث بها الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني يحثّه فيها على التدخل لحل أزمة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، تكشف عن واقع سياسي عراقي مأزوم، لا ينافسه في أزمته إلا تلك الأزمة المستحكمة التي تواجه الإدارة الأمريكية في العراق، وتحول دون تمكينها من أن تظفر بانسحاب آمن ومأمون من العراق يضمن للأمريكيين ما يعتقدون أنهم نجحوا في تحقيقه من مكاسب اقتصادية (نفطية ومالية) وأخرى استراتيجية لخّصها السفير الأمريكي في العراق كريستوفر هيل، الذي يستعد الآن لمغادرة منصبه في بغداد، بعبارة أراد بها أن يبرز مدى النجاح الذي استطاع الأمريكيون تحقيقه بغزوهم العراق وتدميره واحتلاله قال فيها: "ساعدنا على إيجاد ظروف لبروز عراق مستقرّ يجب ألا يخافه أحد في المنطقة". هذا الواقع المأزوم سواء كان بالنسبة لأركان الحكم في العراق أو بالنسبة للحليف الأمريكي هو المسؤول الأساسي عن عرقلة تشكيل الحكومة الجديدة في العراق حتى الآن، ورسالة أوباما للسيد السيستاني تعني أولاً اعتراف أمريكي بالعجز عن تحقيق حكومة توافق واستقرار في العراق تؤمّن للأمريكيين الانسحاب الآمن الذي يريدونه، وتؤمّن للأمريكيين أيضاً بقاء العراق على النحو الذي يأملونه "عراق لا يخافه أحد"، والرسالة هنا واضحة وتكشف بعض معالم النظام الإقليمي الذي يريده الأمريكيون في الشرق الأوسط: نظام ليس للعراق الجديد دور في معادلة إدارته، أي عراق ليس طرفاً في معادلة توازن القوة داخل هذا النظام، وعراق لا يمثّل مصدراً للتهديد لا للنظام الإقليمي ولا لـ"إسرائيل" ولا للمصالح الأمريكية. لكن رسالة أوباما للسيستاني تعني أيضاً تلميحاً بقبول التوصل إلى تفاهم أمريكي - إيراني حول معادلة جديدة لتوازن المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق، بكل ما يعنيه ذلك من اعتراف أمريكي بقوة النفوذ الإيراني في العراق وبفعالية الدور الإيراني في عرقلة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة طالما أن هذه الحكومة لا تنسجم مع المصالح الإيرانية في العراق، أو على الأقل طالما أنها لم تراعي ضرورة التوصل إلى معادلة توازن مصالح إيرانية - أمريكية في العراق ترضى عنها طهران مثلما ترضى عنها واشنطن. هذا المعنى الأخير يكشف أهمية كبيرة هذه الأيام لأسباب عدة، أولها أن الحكومة العراقية المنتظرة ستكون، في حالة التوافق حولها، حكومة معنية بتثبيت واقع سياسي جديد في العراق، هو واقع ما بعد الاحتلال، أي واقع يجب أن يحمل كل معالم هذا العراق الجديد الذي تريده أمريكا وتريده إيران، وهذا ما أتصوّر أنه السبب الأساسي في كل هذا التأخير في تشكيل الحكومة العراقية، أما السبب الثاني فهو ما يمكن تصوّره من علاقة بين الانسحاب الأمريكي من العراق، ووضعية العراق الجديد، وبالتحديد مدى النفوذ الإيراني في هذا العراق، واحتمالات وقوع حرب في المنطقة سواء كانت الحرب الكبرى، أي الحرب الأمريكية - "الإسرائيلية" ضد إيران وامتداداتها في المشرق العربي خاصة في لبنان وقطاع غزة، أو الحرب المحدودة سواء كانت ضد لبنان أو جاءت في شكل عملية إجرامية ضد قطاع غزة لتحقيق ما عجزت العملية السابقة (ديسمبر 2008 - يناير 2009) عن تحقيقه من أهداف وخاصة القضاء نهائياً على الوجود العسكري لحركة "حماس" في غزة واحتواء نفوذها السياسي بما يؤمّن انطلاق عملية التفاوض المباشر بين "إسرائيل" والسلطة الفلسطينية من دون عراقيل من حركة "حماس". مرجع هذه العلاقة بين الانسحاب الأمريكي من العراق واحتمالات وقوع الحرب وما يحدث داخل العراق من تفاعلات صاخبة تتعلق بعملية تشكيل المعالم الأخيرة للعراق الجديد الذي تريده أمريكا وترضى عنه إيران، يتركز حول ما يمثّله استمرار هذا الواقع العراقي المأزوم وما قد يفرضه هذا الواقع من عرقلة الانسحاب الأمريكي من العراق وتحرّر الأمريكيين من كل ضغوط وهموم العراق. فبقاء الأمريكيين متورّطين في العراق يعتبر أحد أهم أسباب التردّد الأمريكي في القبول بخيار الحرب سواء كانت ضد إيران مباشرة أو ضد لبنان أو قطاع غزة. فإذا ما تحررت واشنطن من ورطتها في العراق وإذا استطاعت أن تفرض ذلك العراق الجديد "المستقر والذي لا يمثل تهديداً لجيرانه" فإنها ستكون أكثر قدرة على القبول بخيار الحرب. هذه العلاقة ربما يكون لها وجه آخر، وهذا الوجه له علاقته المباشرة برسالة أوباما إلى السيستاني، فهي (الرسالة) وإن كانت تكشف عن اعتراف أمريكي صريح بعجز الأمريكيين منفردين عن حل أزمة تشكيل الحكومة الجديدة، بالمعنى الأوسع الذي يمتد إلى عملية تشكيل العراق الجديد الذي ترضى عنه واشنطن كي تسحب قواتها وهي مطمئنة، لكنها تكشف عن قبول أمريكي بتفاهم ما مع إيران حول هذا العراق الجديد، أو على الأقل استعداد أمريكي لإجراء مثل هذا التفاهم الذي قد يكون مدخلاً للتوصل إلى "معادلة توازن مصالح" أمريكية-إيرانية في العراق، تقود أولاً إلى تشكيل الحكومة الجديدة، وتحول ثانياً دون وقوع الحرب سواء كانت ضد إيران أو ضد حزب الله في لبنان أو ضد حركة "حماس" في قطاع غزة، وربما يكون هذا التفاهم الأمريكي-الإيراني في العراق بداية لما يسمى بـ"صفقة مصالح" أمريكية-إيرانية تشمل الملف النووي وتمتد إلى النظام الأمريكي ودور إيران في هذا النظام. تداخل وتشابك غير مسبوق بين الأزمات الإقليمية لكن أهم ما في هذا التداخل والتشابك هو ما يكشفه من علاقة بين الغزو الأمريكي للعراق واحتلاله، وبين ما نجحت إيران في القيام به من خلط للأوراق وفرض معادلة جديدة لتوازن القوى الإقليمية قد تضطرّ واشنطن إلى القبول بها، لكن الأهم من هذا كله أن العرب أصبحوا خارج المعادلتين .