قرأت خلال هذا الأسبوع خبرا يتحدّث عن محاولة طرد السفير الصهيونيّ وزوجته من أحد مطاعم منطقة المعادي في القاهرة. وحسب ما نُقل في الخبر فإن مدير المطعم الشهير فوجئ بأربعة أشخاص تبدو عليهم الملامح الأوروبيّة يجلسون على طاولة في المطعم وحولهم نحو ستّة حرّاس، مما أثار انتباه جميع روّاد المطعم. تقدّم مدير المطعم من أقرب فرد من أفراد الحراسة، وسأله عن شخصيّة الضيف. وعندما أوضح له الحارس أنّه السفير "الإسرائيليّ" في القاهرة، لم يتردّد المسؤول لحظة واحدة، وإنّما طلب من رئيس طاقم الحراسة إبلاغ السفير بأن يغادر حالا منعاً للإحراج. ليست هذه هي الحادثة الوحيدة التي يتعرّض لها دبلوماسي صهيونيّ في القاهرة وفي غيرها من المدن العربيّة حتّى نقول إنّها معزولة حَكَمها سياق محدّد وأدّت إليها ملابسات خاصّة.. لا.. ليس الأمر كذلك، ذلك أنّ ردّ فعل مدير المطعم يتناغم تماما مع ردّ فعل الشارع العربيّ الرافض للتطبيع مع الصهاينة مهما تزايد حجم الإغراءات والضغوطات، ومهما ادّعى بعضهم أنّ قطار المفاوضات والتسوية والتبادل الثقافيّ والتجاريّ لا بدّ أنّ يصل إلى محطّته الأخيرة: السلام الدافئ. لقد بذل النظام الرسميّ العربيّ طيلة العقود الأربعة الأخيرة كلّ ما يملك من إمكانات وطاقات، ووفّر وسائل الدعم كافّة، وأنفق المليارات من أجل صياغة إنسان عربيّ جديد منفتح على "الجار الصهيونيّ" ومؤمن بـ"التسامح والحوار مع الأديان" قادر على تجاوز "رواسب الماضي وما خلّفته الحروب من مآس وأحقاد". انحرف الإعلام العربيّ في عمومه عن مساره، وصاغ خبراء التربية والتعليم مناهج على مقاس "التسامح" وعلى مقاس ما طُلب منهم، فألغوا برامج واستحدثوا أخرى .. وظلّوا ينتظرون ثمرة التغييرات التي أحدثوها في العقل العربيّ، لكنّ حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل. أي أنّ النتيجة التي أنفق العرب من أجلها المليارات كانت دون ما يأملون. حكاية السفير الصهيونيّ لم تنته بعد .. ثار السفير ورفض المغادرة، فأبدى العاملون والروّاد أيضا استعدادهم لإلقائه بالقوّة خارج المطعم، فقام إسحاق ليفانون باستدعاء شرطة النجدة، وقبل وصول النجدة إلى المطعم، كانت قوّة من المباحث قد وصلت وضغطت على مدير المطعم للعدول عن قراره تجنّباً للمشاكل. لم يكن تصرّف مدير المطعم والعمّال والحرفاء ردّ فعل على سلوك هذا السفير بالذّات، فقد سبق لسلفه في العاصمة المصريّة شالوم كوهين أن طّرد من حفل في دار الأوبرا، بعد أن رفض مدير الدار استقباله، كما رفض جميع الفنّانين المشاركين في الحفل وعلى رأسهم الفنّان محمد منير الصعود إلى خشبة المسرح إلاّ بعد خروجه من القاعة. كما أنّ كلّ الدبلوماسيّين الصهاينة في العواصم العربيّة التي قبلت بوجودهم الدائم أو المؤقّت ظلّوا يواجَهون بالرفض والازدراء أينما حلّوا، بل ظلّوا يجدون صعوبات في إيجار مسكن أو ارتياد فندق أو مكان عامّ. تتأكّد حقيقة التطبيع ومداه عندما ندرك أنّ الصهاينة فشلوا حتّى اليوم في إقامة علاقات ثقافيّة في البلاد العربيّة، مثلما ظلّوا يواجَهون بالرفض إزاء كلّ المحاولات الرامية إلى تعويم "هويّتهم" في المحيط العربيّ، وهذا ما بدا واضحا مثلا في الرفض الدائم لمشاركتهم في معرض القاهرة الدوليّ للكتاب، مثلما بدا مألوفا أن تتمّ مقاطعة (أو محاسبة ومساءلة) كلّ طرف يسعى لإحداث شرخ في جدار المقاطعة على غرار ما حدث للصحافيّة والخبيرة في مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والإستراتيجيّة هالة مصطفى بعد لقائها بالسفير الصهيونيّ. هذا هو موقف الفنّانين والمثقّفين والصحفيّين، وذاك هو المزاج الشعبيّ وتلك هي الإرادة الشعبيّة. وإذا لم يستوعب النظام الرسميّ العربيّ هذه الحقائق فذلك يعود إلى قصور في أدوات تحليله للوقائع، وعجز عن استبدالها بآليّات تحليل عقلانيّة تسمح له بإدراك حقيقة موقف الشعوب العربيّة من الكيان الصهيونيّ، وهي الحقيقة التي كان من السهل استيعابها وفهمها منذ الأيّام الأولى التي ابتدأت فيها مسيرة التسوية المذلّة. إنّ التطبيع الحقيقيّ هو الذي تختاره الشعوب عن وعي وإدراك، تختاره بإرادتها الحرّة الواعية وبقرارها المستقلّ غير المرتهن لأيّ طرف سوى مصلحة الأمّة. ولذلك فإنّ التطبيع الشعبيّ مع العدوّ سيظلّ حلم الأنظمة العربيّة الذي لن يتحقّق .. وستبقى مقاومتها للمشروع الصهيونيّ هي الحقيقة الثابتة حتّى إن ران على مسيرتها أحيانا فتور أو زيغ. وسيبقى "السلام الدافئ والدائم" حلم الصهاينة.. ولكن أنّى لهم ذلك؟ akarimbenhmida@yahoo.com