شهد التاريخ الحديث موجات من خطط رسم الخارطة الجغرافية ,للدول والشعوب ,وبالتالي رسم أو إعادة رسم الخارطة السياسية من قبل القوى المهيمنة وعلى ضوء ما يديم مصالحها ويخدم سيطرتها على العالم ,ولقد كانت الحرب العالمية الأولى وما صاحبها من تغيرات سياسية انعكست على الواقع السياسي لدول العالم وخاصة للمنطقة العربية خير شاهد ,حيث تجسدت هذه السياسة في اتفاقية سايكس _ بيكو ,ويبدو إن تلك الصياغة والتقسيم والتجزئة للوطن العربي والذي تبعه إقامة وطن قومي لليهود الصهاينة في قلب الوطن العربي لم يعد كافي ضمن المرحلة الحالية ولم يعد يخدم السياسات الامبريالية والصهيونية في المنطقة وخاصة بعد صعود الولايات المتحدة الأمريكية كزعيمة منفردة للعالم ولذلك قررت البدء بتنفيذ مرحلة جديدة من محاولة إعادة التقسيم الجغرافي والسياسي ,ومما ساعدها في التفكير بتنفيذ هذه الإستراتيجية هو التفكك الاختياري الذي طال المعسكر الاشتراكي وخاصة جمهوريات الاتحاد السوفيتي والذي تبرع به غورباتشوف دون مقابل ,هذا التفكك الذي كان بداية لانفراد الولايات المتحدة ,والذي شجعها للبدء بإعادة رسم العالم وخاصة دول الوطن العربي من جديد ,أي تقسيم وتجزئة المقسم والمجزأ أصلا ,وبالتالي كان عليها أن تعيد البحث في مجتمع كل قطر عربي لإيجاد ما يمكن أن تستغله من اختلافات عرقية أو اثنيه أو دينية أو قومية أو طائفية أو أي اختلافات يمكن استغلالها من اجل إعادة صياغتها وتقديمها على إنها اختلافات وتناقضات جوهرية لا يمكن معها الاستمرار في العيش المشترك ,وكان مئات أو آلاف السنين التي مرت والتي عاشوا بها سوية لم تعد كافية وذلك بين ليلة وضحاها ,ومما ساعد تنفيذ هذه السياسة الجهل والمصالح وتصرفات الحكومات المعادية لآمال شعوب تلك التي البلدان والتي تزخر بالفقر وانعدام العدل والمساواة وغيرها من الممارسات تشجع على ظهور وتنامي تلك النعرات وتجذرها ,وتبرزها وكأنها مشكلة حقيقية لا يمكن حلها إلا بالانفصال ,وهذا ما تغذيه وتسعى له الولايات المتحدة الأمريكية في إستراتيجيتها الجديدة ,والى أن يحصل ذلك فستكون اللعبة بأيدي الأمريكان تسيرها حسب ما تريد ,ومن الطبيعي إن اغلب دول العالم تتصف بعدم وجود شعب ذو اصل واحد ودين واحد ولغة واحدة ولهجة واحدة ومذهب واحد والخ ... والدول العربية لا تشذ عن هذه القاعدة ,وكل ما على الأمريكان تغذية هذه الاختلافات وإحداث بعض الحوادث والأخبار هنا وهناك لتحيي هذه النعرات ومن ثم لتزيدها وتؤججها وتستغلها حسب مصالحها ,وهذه التدخلات التي كانت ظاهرة في بداية الأمر تماشت مع دعوات الولايات المتحدة لإقامة الديمقراطية المزعومة وحقوق الإنسان وغيرها من الدعوات والتقليعات التي سادت في العقدين الماضيين ,وقد طالت هذه السياسة اغلب الدول العربية والإسلامية ,وحتى التي تسير في ركب الامبريالية وتنفذ سياساتها في المنطقة مثل مصر ,والسعودية ,والفرق الوحيد إن إثارة النعرات في هذه الدول هو لتذكير حكامها بأنها لن تكون بمأمن وعليها الالتزام المستمر بتنفيذ السياسة وان أي محاولة للخروج عن الخط المرسوم فان تحريك هذه النعرات تحت اليد والسيطرة ,أما بقية الأقطار فيختلف التحرك والتحريك لهذه الملفات والأهداف المرادة منه ,على ضوء قربها وبعدها عن المشروع الامبريالي المرسوم ,فمشكلة دار فور في السودان بعد انتهاء مشكلة جنوب السودان ,ومشكلة الأقباط في مصر ومشكلة البربر في الجزائر ومشكلة الحوثيين في اليمن ومشكلة الشيعة في السعودية والبحرين ,والمشكلة الطائفية الدينية في لبنان والعراق واضحة للعيان . وهنا يتبادر سؤال ,هو لماذا الآن ؟ ولماذا في الوطن العربي تحديدا ؟ وما هو الهدف ؟ ولماذا هذا التأييد منقطع النظير من قبل الغرب عموما لهذه التوجهات ,بحجة احترام الرأي الآخر وحرية تقرير المصير وحقوق الإنسان والديمقراطية ,وغيرها من المصطلحات الهزيلة التي يتشبث بها الغرب والتي يرتكز إليها في دعمه لهذه الحركات والنعرات التي أريد لها أن تكون قنبلة موقوتة, داخل مجتمعاتها حتى وان لم تكن تريد ذلك ؟ إن إثارة كل هذه النعرات في منطقة محددة وفي زمن محدد لا بد أن يؤشر إلى الغاية من كل ذلك وبما إن المقصود هو الدول العربية ,بغض النظر عن طبيعة حكوماتها وأنظمتها السياسية ,لابد أن يستنتج بان المقصود هي الأمة العربية والهوية العربية لأنها الصفة الوحيدة التي تربط هذه الدول وربما تضاف إليها الهوية الإسلامية ,بدرجة اقل وربما أكثر لدى البعض ولكن في كل الأحوال فان الهوية العربية الإسلامية هي العامل المشترك الوحيد بين كل هذه الدول ,فهذه إيران ورغم عداوة الغرب لها ورغم إنها من أكثر الدول تنوعا من الناحية القومية والاثنية والطائفية والعرقية ,ورغم كل أنواع الاضطهاد التي تمارسه حكومات الملالي ,إلا إن ذلك لم يأخذ ما يستحقه لدى الغرب عمليا في هذا الاتجاه ,اللهم بعض الإشارات الإعلامية,وكذلك تركيا وغيرهما . إذن المقصود هو العالم العربي تحديدا ,إذن المقصود هو الهوية العربية , والمطلوب هو تفتيت وتجزئة المجزأ أصلا,وبعد أن كان همنا هو توحيد الوطن العربي يصبح همنا هو الحفاظ على وحدة كل قطر , وقد يتصور البعض بان خير ما يحافظ على هذه الوحدة هي الدعوة إلى الدفاع عن الأنظمة المتخاذلة ,والتي هي احد الأسباب الرئيسية في دفع الأقليات لهذا الاتجاه والى ارتماء البعض في حضن الامبريالية والصهيونية وخدمة أغراضها ,نتيجة الكبت وسياسة طمس الهوية وغيرها من الأسباب التي قد تكون مبررا للبعض من هذه الفئة أو تلك , إذن إن احد الأسباب الأساسية لهذا التحرك الامبريالي هو عدم قدرة تلك الأنظمة أن تقنع شعوبها بعدالتها وصحة منهجها وعليه فقد أعطت المبرر لدخول الغرب على هذا الخط واستغلال تلك الجماعات لتنفيذ سياساتها ,وهنا لابد من الإشارة إلى التقصير الواضح للقوى الثورية والوطنية والقومية في تثقيف وقيادة شعوب تلك الأقطار إلى المفهوم الأعمق للقومية العربية والذي يتسامى على الانتماء العرقي ليشمل كل سكان المنطقة العربية ,والذي يجب أن لا يكتفي بالشعارات والتنظير بل يتعداه إلى الممارسة من خلال إشراك هؤلاء بصنع القرار وبصنع مستقبل البلد ,فالموضوع ليس الاعتراف ببعض الحقوق لهذه الفئة أو تلك بل الأهم هو تحميل هؤلاء مسئولية الوطن وبنائه والدفاع عنه ,فالوطن هو وطن الجميع وعلى الجميع تحمل المسئولية وهذا لن يتم ما دام البعض يتكلم ويتصرف بمنظار الأكثرية والأقلية ,وبمنظار القوة والسيطرة وغيرها من المفاهيم ,التي تتيح لهؤلاء السيطرة على كل مقدرات البلد ,دون الالتفات إلى حقوق الآخرين[n1] بهذا الوطن والذين ربما لم يكونوا مقصودين بهذا التصرف أو ذاك ,وبالرغم من أن ذلك ينطبق على الامتدادات القومية أو الطائفية أو غيرها للقائمين على السلطة أي إن الاضطهاد في حالة ممارسته ,يشمل جميع أبناء الوطن سواء كانوا من هذه الجهة أو تلك, إلا إن الطبيعة البشرية والمصالح الضيقة والتفسيرات المغرضة تميل إلى تفسير الأمور حسب ما تراه هي ,ولذلك ترى الفئة الثانية تفسر هذا الاضطهاد على انه اضطهاد عنصري أو طائفي أو قومي ,رغم إن حقيقة الأمر ليس كما الادعاء ,في حين إن الفئة الأولى والتي تشترك مع صاحب السلطة بنفس الانتماء تفسر نفس الاضطهاد الذي شملها مثلما شمل بقية الطوائف بتفسير آخر قد يكون سياسي أو مناطقي ,وعليه فان الأمة العربية تمر اليوم بمرحلة خطرة قد لا يتصورها البعض ,تتطلب من جميع الشرفاء المساهمة بالدفاع عن الهوية القومية لتلك الأقطار والشعوب والتشبث بالوحدة الوطنية والهوية القومية والمحافظة عليها وإفشال مخططات التقسيم ,ومن المؤكد إن الدور الذي لعبته المقاومة العراقية في إفشال مخططات تقسيم العراق لهو مفخرة للعرب ,وبداية لقبر هذه المخططات التي أريد لها البدء بالعراق ,للانتقال إلى بقية الأقطار العربية وهنا يتضح الدور الإيراني القذر الذي تناغم وأكمل مستلزمات الإستراتيجية الأمريكية الصهيونية في هذا المخطط والذي كان ينتظر نجاحه وما زال ليستغله وليعيد الإمبراطورية الفارسية إلى سابق مجدها ,وبالرغم من قبر هذا المخطط مرحليا إلا إن الخطر ما زال جاثما على الأرض ,ولا يتمثل بالحزبين الكرديين فقط ,فهناك الأحزاب الطائفية المرتبطة بإيران وغيرها والتي أجبرت على تأجيل هذا المشروع وليس إلغائه ,وعلى الحكومات العربية وقبلها الشرفاء من أبناء الوطن العربي الانتباه فما زال الخطر ,والهدف هو الوجود العربي على ما هو عليه,وعليه فان معركتنا هي معركة وجود وبقاء .