سألتني مراسلة "الجزيرة نت" عن رأيي في اختيار بغداد عاصمة للثقافة عام 2013، فأطلقت ضحكة أردفتها بسؤال: هل سيكون بامكانهم ذلك؟ واستفسرت مني عن مغزى سؤالي، فأجبتها: إن بغداد كانت أمّ الثقافة العربية والعالمية قبل الغزو الأميركي عام 2003، ولكنها أصبحت أخطر مدينة في العالم حسب التقارير التي تعدّها منظمات دولية، فما مدى قدرة الحكومة الحالية أو المقبلة على توفير الأمن في العاصمة لكي يتم إعلان بغداد عاصمة للثقافة عام 2013؟. ليس بمقدور أية حكومة أن تعيد بغداد إلى ما كانت عليه قبل الاحتلال وأن ترمم ما حل بها من دمار وخراب وتشويه، خلال عامين وهي قد دمرت ونهبت ولم تُبن طابوقة واحدة بها وظلّ الاعمار فيها مجرد اعلان وإبرة تخدير للمواطنين ونهب للأموال المخصصة للاعمار من دون (وجع قلب) كما يقول العراقيون. في بداية الاحتلال أعلن عن حملات اعمار تنفذها قوات التحالف في العراق، ومن ضمنها بناء مدرسة كبيرة في مدينة الدجيل شمال بغداد، وقد زرت هذه المدرسة عند افتتاحها، إذ أقيم بالمناسبة حفل حضره وجوه المنطقة وضباط من قوات الاحتلال .. كانت المدرسة كبيرة جداً وطليت باللون الابيض ولكن الأمر لم يكن بناء ولا هم يفرحون، إنما كان عملية طلاء لمدرسة قائمة أصلاً منذ الجمهورية العراقية الأولى، فقد كان شعار تلك الجمهورية محفوراً في واجهتها، وملايين الدولارات إنما صرفت على الطلاء الذي لم يكن يكلف أكثر من مليون دينار وهو مبلغ في الكثير يساوي 800 دولار فقط، وأقام المقاول لضباط الاحتلال والوجوه الاجتماعية في المنطقة مائدة ملأها بما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب، ووصفت، أنا، المائدة وقتها بأنها الأعلى سعراً في العالم وكتبت ذلك في صحيفة في بغداد. وعلى هذا قس كيف تجري حملات الاعمار من ذلك الوقت إلى الآن.. ثم كيف ستكون بغداد عاصمة للثقافة عام 2013 وأغلب مثقفيها وأدبائها قد هجروها أو تمت تصفيتهم بسبب الاحتلال الأميركي والحكومات التي نصبتها قوات الاحتلال. إن المثقف العراقي مازال رأسه مطلوباً إذا لم يطأطئ ويجاري قوات الاحتلال وحكوماتها في الأجندة الاحتلالية، وفرق الموت القذرة أنشأتها قوات الاحتلال لهذا الغرض، وأعني تصفية العقول العراقية التي هي أمل البلد في النهوض. لذلك فان المرء يضحك ملء شدقيه عندما يسمع أكذوبة الاعمار التي لا يتم التحدث بها وترويجها إلا قبل كل انتخابات ثم لا اعمار ولا حديث عن الاعمار. إن عاصمة الثقافة العربية يجب أن تضج بالحياة والفعاليات، لا أن تكون كبغداد اليوم مدينة أشباح وصراع وقتل كما أراد لها الاحتلال ذلك. بغداد التي جرف فيها معتوه قبور أكبر رموزها وتماثيلهم أمثال بانيها ومؤسسها أبو جعفر المنصور الذي فجّر تمثاله في ليلة ظلماء، وأمثال الدكاترة العباقرة علي الوردي وجواد علي وعلي جواد الطاهر وطه باقر الذين جرفت قبورهم .. ولا عدّ لهذه الجرائم التي طالت حتى البسطاء من الناس الرافضين للاحتلال الأمريكي والإيراني. بغداد قبلة المثقفين والأدباء العرب والعالميين والتي يحتفظ شعبها بعادات وتقاليد عريقة كانت مدينة جاذبة للأنشطة والفعاليات والمهرجانات الثقافية الكبرى وأضحت اليوم مدينة طاردة حتى لأبنائها فكيف ستكون عاصمة الثقافة العربية لعام 2013؟ أحد أصدقائي سعد الشديدي وهو مثقف عراقي مهاجر رأى أن يحتفي بمبدعي العراق الكبار على طريقته الخاصة بأن يختار صورة زقاق أو شارع في بغداد ويرسم عليها صورة المبدع مع قول من أقواله إذا كان أديباً أو مفكراً أو أبيات من شعره إذا كان شاعراً أو شيء من انجازاته إذا كان عالماً، وقلت له: إنك إذا استمررت برسم صور المبدعين على جدران العراق فإني لا أظن أن هذه الجدران ستكفيهم.. وفعلاً فان العراق ليس نفطاً ومعادن ونهرين وتراب.. إنه هذه العقول المبدعة التي ظل الاحتلال وأعوانه يحزون رقابها ولكنها تزيد إبداعاً وتألقاً، وعليها يعلق العراقيون الأمل في التحرير وعودة العراق إلى سابق عهده بلداً للابداع والمبدعين ومدرسة كبرى للعالم كله.. ومازلت أضحك وأقول: هل سيكون بامكان حكومة الاحتلال أن تداوي الجراح التي أثخنت بها بغداد والدمار الذي أنزلته بالعراق خلال سنتين اثنتين لتكون بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013؟ إني أشك في ذلك، بل أن كل عاقل سيشك، لأن بغداد لا يداوي جراحاتها غير أبنائها ولن يعمرها ويبنيها ويرتقي بها إلا مبدعوها. أما أكذوبة عاصمة الثقافة فهي لعبة أمريكية تريد أن تقول للعالم أنها نجحت في بناء العراق بلداً ديمقراطياً استطاع أن يكون عاصمة للثقافة بعد سبع سنوات من نشر الديمقراطية فيه.. إن هذه الأكذوبة تشبه أكذوبة بناء مدرسة كبيرة كانت موجودة أصلاً إلا أنهم طلوها بالأصباغ..