قبل أيام قلائل هوى شهاب أخر من سماء العراق وراية علم وحكمة , مضرجا بدمائه على أحد أرصفة شوارع بغداد , برصاصات الافاعي الذي أمتلات بهم الطرقات من ميليشيات وأحزاب طائفية وفرق موت أمريكية وأسرائيلية وأيرانية , والذين قدموا مع المحتل لصنع أكبر مأساة أنسانية عرفها التاريخ , فالقاتل واحد وأن أختلفت الجنسيات , والهدف واحد وأن أختلفت الايادي , فكلهم مجرمون يشتركون في نفس الجينات المحملة بالحقد على العراق وأهله ,وعلى كل من حمل بندقية أو قلم , فالكل سواسية لديهم لان عرفهم يقول بأن هؤلاء هم منصة النهضة التي يقف عليها الوطن , لذلك أستهدفوا الفقيد وقبله الاف من العلماء والاساتذة والنخب التي دفع العراق من لقمة أهله كي يؤهلهم ليخدموا الشعب والانسانية , فكانوا بحق ثروة وطنية مرموقه , وراية رفرفت في سماء جامعات ومراكز بحوث عالمية , قبل أن يعودوا ليساهموا في نهضة الوطن التي حصل بجهودهم على أعلى الاوسمة والجوائز العالمية في المجالات الطبية والعلوم الاخرى . وكي يأخذ الفقيد أستحقاقه بعد أن رحل عنا لابد أن نذكر بمحاسنه التي أبى أن نتحدث بها وهو حي , فلقد تنادينا قبل عام من الان نحن ومجموعة من الاصدقاء رجال أعمال وسياسيين أوروبيين من تركيا وأسبانيا وأيطاليا والمانيا ودول أوربية أخرى , والذين لازالوا يذكرون فضل العراق عليهم قبل الاحتلال , تنادينا كي ننقذ أطفال العراق المصابين بسرطانات الدماغ , والذين تركتهم السلطات الصحية العراقية بدون أي مساعدة أو أجراء فاعل , يعد أهاليهم الايام كي يواروهم الثرى , حالهم حال الكثيرين من أبناء شعبنا الذين يعانون أمراض مستعصية , وبعد أن من الله علينا بعونه وبجهود هؤلاء الخييرين الذين بذلوا من جهدهم ووقتهم وأموالهم الخاصة الشيء الكثير , وبينما كانت الوجبة الاولى من الاطفال يخضعون للعمليات الجراحية في أحدى المستشفيات الاوربية , أتصل بنا الفقيد دون معرفة سابقة بيننا , معاتبا لعدم أتصالنا به وأشراكه بهذا العمل الانساني وهو المختص بجراحة الدماغ والاورام السرطانية, بل ومبديا أنزعاجه الشديد لانه علم بالموضوع من أحد الاطباء الاجانب , وقد حضر على وجه السرعة الى المستشفى الذي يرقد به الاطفال , ولازالت كلماته ترن في مسامعي وهو يقول ( لقد شعرت بالاهانة وخجلت من نفسي أن تمتد يد أجنبي لمعالجة أطفالنا وهوواجب علينا قبل غيرنا ) , ثم أنضم الى زملائه الاطباء الاوربيين في فريق العمل الطبي , وكان لايمر يوم دون أن يكون متواجدا لساعات طويلة في المستشفى لمراقبة الاطفال , والسهر على حالتهم الصحية والتهدئة من روع أهاليهم , وقد كان حاسما في موقفه الرافض لاية متجارة أعلامية أو سياسية أو طبية بحالات الاطفال , مؤكدا على ضرورة مراعاة الجانب النفسي للاطفال وذويهم , وقد كنت شاهدا على ردة فعله على مراسل أحدى الصحف العالمية , حينما رفض قيام المراسل بتصوير الاطفال مخاطبا اياه ( أن مأساة أطفالنا ليست للبيع تتاجرون بها كي تزيدوا من مبيعات صحيفتكم , عليكم فضح سياسييكم الذين أنتخبتموهم وتسببوا بهذه الفعلة ) , بل أنه كان متطرفا عندما سمع بأننا أضطررنا لطلب المساعدة المادية من بعض الاشخاص في عمان الذين تهربوا من الواجب لتسديد نفقات أقامة الاطفال وذويهم قبل نقلهم الى الخارج , مؤكدا رفضه أن نطلب المعروف من أناس نسوا شعبهم في غمرة ملذات المال الحرام , لان أطفال العراق ليسوا متسولين على حد قوله , وتعهد بان يضع كل مايملك من مال تحت تصرفنا لاستمرار المشروع الذي شرعنا به . لقد قرر الفقيد العودة الى الوطن بعد أن شغله التفكير بمن الذي سوف يراقب الوضع الصحي للاطفال بعد عودتهم الى العراق , وكان يؤكد لي وللاطباء الاوروبيين بان جهودنا يجب أن لاتذهب سدى في معالجة الاطفال , وكي نصل الى ذلك لابد من مختصين يراقبون وضعهم الصحي والعلاجي بعد العمليات وعودتهم الى العراق , ونظرا لعدم وجود من يعتمد عليه في بغداد في هذا الجانب , فقد قرر العودة والاشراف بنفسه على رعايتهم , وكنت برفقته وهو يدور على ذوي الاطفال كي يسجل عناوين سكنهم وأرقام هواتف من هم من سكنة المحافظات الاخرى , كي يتسنى له الاتصال بهم عند عودته الى بغداد , وعندما حذرناه من العودة كانت وصيته الوحيدة لي ( أكتب نعي لي في حالة أستشهادي وأجعل من دمي صرخة في وجه الظلم الذي لحق بشعبنا , وعار في وجه الظالمين مدى الحياة ) , ثم غادرنا الى غير رجعه . يقينا لقد تيتم مرضاك الذين غادرت من أجلهم الى بغداد ياصديقي العزيز , وهنا في هذه المستشفى بكاك أطفال العراق الراقدين على أسرة الشفاء هم وذويهم , كما بكاك أصدقاءك الاوروبيين الذين أكبروا فيك شهامتك وأنسانيتك التي لاتدانى , ونم قرير العين ياسيدي الكريم لان زرعك قد أثمر وهاهم أطفال الوجبة الثالثة يعودون الى الوطن بعد أن تماثلوا للشفاء كي تلتحق بعدهم الوجبة الرابعة , الذين سينعمون بما وصيت به زملاءك الاطباء الاوروبيين من عناية بهم , وأسمحي لي أن أقول لك ياصديقي الذي سأفتقده كثيرا , بأن أجنحة شفقتك ورحمتك لازالت ترفرف بيننا هنا وتمسح على رؤوس الاطفال وتقبل أياديهم الناعمة الصغيرة مثلما كنت تفعل , يامن عملت بنكران ذات قل نظيره , وكان عملك خالصا لله والوطن , ولم تطلب دعاية أو تلميع صورة أمام الاخرين لان صورتك في القلوب كانت أكثر وهجا من أضاءات الدنيا وما فيها , وتيقن بأن الشرفاء كثر من أمثالك , وعملا بوصيتك في أن نعلن الافعال الكريمة للناس الذين ساندونا في مشروعنا هذا , فأني أتشرف بالجهر بفضل السيدتين الكريمتين العراقيتين الاصيلتين ( مها الشكرجي , ونوال زنكنه ) وعائلتيهما , التين سجلتا موقفا مشرفا في دعمنا المالي ومن حسابهما الخاص لتسديد جزء من قيمة العلاج الذي أحتاجه الاطفال كي يأخذوه معهم الى العراق , كما وضعتا كافة جهودهما في خدمة عملنا المستقبلي حتى قبل أن نتعرف عليهما شخصيا , وبمجرد سماعهم بمشروعنا الانساني , فلهما جزيل الشكر وواجب الامتنان منك ومنا ومن الاطفال وذويهم , الذين مافتؤا يلهجون بالدعاء لهن . نم قرير العين ياسيدي وأخي الحبيب , فلا نامت أعين الجبناء الذين سفحوا دمك الطاهر على رصيف شارع في حي الحارثية القريب من جحورهم المظلمة وقواتهم التي تطوق المنطقة من كل جانب , وأعجب معك عندما قلت كيف يحملون شهادات الطب ويتحولون الى طائفيون يقتلون شعبهم ليل نهار ؟؟؟؟؟؟ د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي