في ظل القرارات الدولية الجائرة التي فرضت على العراق في أعقاب أحداث الكويت في العام 1990 , وفي خضم المأسات الانسانية التي نشبت أضفارها في الجسد العراقي , فقد توصل العراق والامم المتحدة الى مذكرة تفاهم سمحت للعراق بتصدير جزء محدد من نفطه , ليستفيد من عائداته في شراء الاحتياجات الانسانية لشعبه , تحت أشراف الامم المتحدة وصدر بقرار من مجلس الامن الرقم 986 في العام 1995 . وعلى الرغم من أن القرار المذكور كان يخفي أبعادا سياسية هدفها الانتقاص من القيادة السياسية في ذلك الحين , من خلال فرض نظام الوصاية عليها وكف يدها عن التصرف الحر بموارد البلد وثرواته , ووضعها في خانة القاصر الذي لابد من وجود ولي أمر عليه , وكذلك أبعادا أقتصادية لنهب عائدات النفط بحجة تمويل لجان التفتيش وتسديد التعويضات التي كانت غالبيتها مجرد أوهام ومكافأت للدول التي شاركت في العدوان على العراق في العام 1991 , الا أن الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها صوروا القرار على أنه أستجابة أنسانية من قبلهم لتخليص الشعب العراقي من مأساته , وأنهم لم يكن هدفهم المواطن البسيط من فرض العقوبات بل يستهدفون النظام الذي يبني القصور والجسور ويعيد عجلة الصناعة من جديد ويرمم الشوارع وينهض بالزراعة , وهذه كلها لامبرر لها في عرفهم , وقد سكبوا الدموع الحرى لانجاح تبريرهم المنافق هذا . لقد وضعت عملية غزو وأحتلال العراق في العام 2003 , الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الاخرين , وجها لوجه مع أدعائاتهم الانسانية الزائفة , وأماطت اللثام عن وجوههم القبيحة بعد أن تسلموا مسوؤلية البلد وأصبحوا مسؤولين عنه حسب القانون الدولي الذي ثبتته الشرعية الدولية في نص المادة 43 من أتفاقية لاهاي الدولية والتي تؤكد ( بما أن سلطة الحكم الشرعي قد أنتقلت الى المحتل , فأن على هذا المحتل أن يتخذ جميع التدابير والاجراءات المتوافرة لديه للقيام قدر المستطاع بأعادة وتأمين النظام والسلام العامين , مع مراعاة القوانين النافذة في البلد...) كما أن المادة نفسها تؤكد على ضرورة المحافظة على الانفس والممتلكات , غير أن الواقع الفعلي في العراق يشهد عكس ذلك تماما , بل يؤكد بالحقائق والارقام على أن المحتل قد تعمد الاضرار بكل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والاجتماعية ,كما أنه أرتكب الكثير من المحرمات الاخلاقية والانسانية والقانونية , التي قد يصل بعضها الى مستوى جرائم حرب وأبادة جماعية , على مدى السنوات السبع المنصرمة من عمر وجوده الفاعل في الساحة , وسيطرته المطلقة على شؤون الحياة في هذا البلد , ففي ظله تجاوز عدد الشهداء المليونين , وشهد العراق أكبر عملية نزوح للسكان في التاريخ بعد النزوح الفلسطيني في العام 1948 حسب تصريحات الوكالة الدولية لشؤون الاجئين , وهدمت فيه الكثير من الممتلكات العامة والخاصة والصروح العلمية والثقافية , والقي الكثير من منتسبي الدوائر المنحلة والجيش العراقي على قارعة الطريق دون أية حقوق وتعويضات , مما تسبب في أزمة معيشية خانقة , تحدثت عنها الكثير من التقارير التي صدرت عن منظمات قانونية وحقوقية عالمية , قدرت فيها بأن نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر قد وصلت الى سبعة ملايين مواطن , مما عزز المخاوف بشأن عدم قدرة هؤلاء على الحصول على الرعاية الصحية , في ظل تهاوي الخدمات الصحية وأرتفاع أسعار الادوية والمتاجرة بها في السوق السوداء , بالتزامن مع واقع خدمي مزري شمل أنعدام الطاقة الكهربائية والمياه الصالحة للشرب ومستلزمات الصرف الحي أن كارثة نقص الغذاء والدواء التي تعصف اليوم بالمجتمع العراقي , يتحمل وزرها المحتل بالدرجة الاساس , ولاشك أنها جزء من كل المشكلة وليست المشكلة الوحيدة , لكنها الاخطر على الصعيد الانساني لما قد ينتج عنها من أفرازات سلبية تهدد مستقبل الانسانية في العراق وتلغي تميزه عن باقي الكائنات الحية في الطبيعة , فيندفع بغريزة حب البقاء للحصول على قوته بأية طريقة أخرى قد تكون على حساب الشرف والاخلاق , مما يهدد القيم الاجتماعية ويبشر بمجتمع هش تنهشه الافات وتسوده الرذيلة , وأن أية نظرة بسيطة الى المجتمع العراقي اليوم تؤكد وجود بعض هذه الملامح فيه , بعد أن رفعت السلطة فيه يدها من عملية تأمين الحاجات الاساسية له , وتركت قطاع الخدمات والتجارة نهبا لللصوص والشركات الوهمية والمقاولين الذين يرتبطون بالمسؤولين , فما أن ترسوا عليهم المقاولة بأضعاف السعر الاصلي حتى يهربوا بالمبلغ دون تحقيق الانجاز , مستفيدين من حماية من يتسيدون السلطة الان , بينما تستوفي مؤسسات وزارة التجارة مستحقات البطاقة التموينية كاملة من المواطن البسيط دون تزويده بالمواد المنصوص عليها . لقد شهدت المنظمات الدولية والاقليمية بفاعلية نظام البطاقة التموينية التي تم العمل بها بعد أقرار برنامج النفط مقابل الغذاء والدواء , وقد حصل الشعب العراقي من خلالها على مستوى متقدم من الغذاء والدواء وبنوعيات جيدة ومن مناشيء عالمية , كما شهد قطاع الخدمات تطورا ملحوظا بعد أن تم رصد الاموال الازمة لصيانته , وتوريد المستلزمات الضرورية للنهوض به , وقد أستغل العراق تلك الفرصة على رغم محدوديتها في تقديم العناصر الازمة للعيش بكرامة لشعبه من أقصى العراق الى أقصاه , وبضمنها مناطق شمال العراق التي كانت خارج السلطة الفعلية للدولة العراقية , حتى باتت الكثير من المواد الغذائية التي كنا نستلمها بموجب ذلك البرنامج عرضة للتلف لزيادتها عن الحاجة الفعلية للعائلة العراقية , وبدء البعض ببيع بعض مفرداتها التي تفيض عن حاجته لغرض الاستفادة المادية من أموالها , كل ذلك كان في ظل نظام يقولون عنه( دكتاتوري) وبوجود حصار لم يعرف التاريخ مثيلا له , وعزلة دولية وأقليمية وعربية تامة , بينما ترفرف علينا راية ( الديمقراطية ) اليوم , ويرقد مسؤولينا بسلام في الحضن الامريكي , وتفتح علينا بنوك النقد الدولي , وتطفأ ديوننا ويصدر نفطنا , لكن أطفالنا لايجدون الدواء والحليب , وشبابنا يتسكعون في الشوارع طلبا لفرصة عمل , وأولادنا غادروا مقاعد الدراسة ويجوبون الشوارع كي يحصلوا على لقمة خبز ببيع الاكياس البلاستيكية والسكائر وغسل السيارات , وتتصدق علينا بعض الجمعيات والمنظمات الانسانية كي تعالج بعض من أستعصى مرضه منا , وكل هذا يحدث ولاتستطيع الدولة الاعظم والقطب الاوحد أن تؤمن لشعبنا فقط ستة ساعات من الطاقة الكهربائية كي يخلد الى الراحة أطفالنا في الليل , أو قدح ماء بارد يشربه أنسان مريض في عز الظهيرة , بينما تم أعادت بناء محطات الكهرباء والهواتف الارضية والمياه الصالحة للشرب والمصانع والمعامل والجسور , في غضون أشهر قليلة بعد العدوان في العام 1991 وبأيد عراقية وخبرات وطنية . أن الدعاية الامريكية التي كانت تتباكى على مايسمونه ( معناة المواطن العراقي) قبل الغزو , نجدها اليوم تشارك في صنع المعاناة من خلال حمايتها للمفسدين وتهريبهم الى الخارج مع ماسرقوه , وتنهب ثرواته وأمواله , وتخلق طبقة من السياسيين الفاسدين الذين أمتلكوا العقارات والفنادق والارصدة الملياريية في مختلف دول العالم , من خلال سرقة المال العام والصفقات المشبوهة التي جرت على حساب الوطن والمواطن . أن المسؤولية الاخلاقية والانسانية تفرض على الامم المتحدة أن تبادر فورا , لاقرار برنامج جديد للنفط مقابل الغذاء والدواء , تتولى هي الاشراف عليه بدعم عالمي وعربي , يضع اليد على الثروة العراقية ويسخر وارداتها في أنقاذ الشعب العراقي من مجاعة مقبلة , ومن أمراض مفتكه , لان التبديد المتعمد للثروة العراقية من قبل المحتل والسلطة القائمة الان , يفرض على المجتمع الدولي التحرك من أجل ذلك , بعد أن ثبت تورط من أعطته صفة محتل في المأساة . د. مثنى عبد الله - باحث سياسي عراقي