في ذكراه الحادية والعشرين يستذكر العرب مؤسس حزب الثورة العربية، حزب البعث العربي الاشتراكي، فلا نجد أعظم وأزهى من كتابه الخالدة خلود رسالة أمتنا العربية المجيدة، فنعود إلى القراءة في تراثنا العظيم، ونجدد إيماننا من خلال التشبع من فيض في سبيل البعث. إن الحديث عن القائد الراحل ميشال عفلق يكون أكثر ارتباطا بوجداننا عندما نتمسك بفكرنا ونردد شعارنا الخالد.. أمة عربية واحدة ... ذات رسالة خالدة.. ثم نقرأ من مخزون فكر قائدنا وملهمنا الأول وباعث فينا روح الإيمان بقضيتنا.. ومن بين ما كتب القائد نورد هنا إحدى أروع مقالاته: طموح البعث المعرفة لا تكون صحيحة إلا إذا امتحنت بالعمل، فالعمل يغنيها ويصححها. إن نضال الأمة العربية نضال طويل لم يبتدئ مع حركة البعث ولن ينتهي معها. وكل ما في الأمر أن هذه الحركة خرجت من حاجات امتنا في مرحلة معينة لتستفيد من التجارب السابقة، ولترفع مستوى النضال إلى الحد الذي يتكافأ مع عظم قضيتنا وعظم أهدافها ومع عظم الأخطار المحدقة بها، ومع روح هذا العصر، فكانت محاولة صادقة نرى اليوم أنها أثمرت بعض الثمار. إن طموحنا كبير، طموحنا هو طموح الإنسان وطموح كل شعب أصيل شاعر بشخصيته مقدر لمعنى وجوده الإنساني، طموحنا لا يقتصر على دفع الأخطار والتخلص من الأعداء ومن ظلمهم الذي لحق بنا زمنا طويلا. طموحنا لا يقف عند حدود السلبية والرفض والتخلص؛ وإنما هو في أعماقه طموح ايجابي بناء في أن نعمل وان نسترجع من جديد تجاوبنا الصادق مع الحياة، وان نساهم في بناء الحضارة ونساهم في إخصاب القيم الإنسانية وفي الدفاع عنها وفي تجسيدها تجسيدا صادقا في حياتنا وسلوكنا. عندما طلع علينا الاستعمار مؤخرا بنظرية الفراغ، قائلا إن بلادنا فيها فراغ يستدعي أن يملأ بالاستعمار والاحتلال، خطر لي -بالمقارنة- أن الفراغ قائم فعلا ولكن ليس في شعبنا وبلادنا، وإنما في هذا القسم من العالم الذي مسخ القيم وزيفها ووصل في النفاق إلى حد التناقض مع ما يدعيه من مبادئ. ويخطر لي دوما أن ثمة في العالم فراغا مخيفا، ولا يستبعد أن تكون أمتنا من بين الأمم التي ستطالب بأن تملأ هذا الفراغ في وقت أقصر مما نظن. إن حضارة المستعمرين تنذر بالانهيار والفشل طالما أنها تتجنى على الشعوب الضعيفة مثل هذا التجني، وتغالط وتكاد لا تعرف أنها تغالط، أي أن الزيف امتزج في نفوسها وأذهانها إلى حد انه أصبح طبيعيا فيها ومن صميم مفاهيمها. من يعيد إلى هذه القيم التي أفرغت من معناها ومحتواها في الغرب.. من يعيد إليها الحياة والدم إلا الشعوب التي عانت الظلم، وعانت تجربة الألم إلى الأعماق؟ فكأن القدر يهيئها لان تحتل مكانها قريبا وان تكافأ على آلامها بأن تظهر هذه المبادئ والقيم الخالدة التي لا غنى للإنسان عنها، والتي لا تستقيم بدونها الحياة. لعل القدر يهيئ شعوب إفريقيا وآسيا وكل الذين عانوا الظلم الخارجي والداخلي، أن يخرجوا من هذه التجربة بثمرة يانعة لا تقتصر فائدتها عليهم فحسب، وإنما تشع على الإنسانية كلها. لذلك قلت إن طموحنا لا يقف عند حد إخراج المستعمرين من أرضنا، وإيقاف المستغلين في الداخل عند حدودهم، ولا يتوقف عند حد تأمين الحرية والرخاء للشعب، وإنما هي كلها وسائل لكي تنطلق عبقرية هذه الأمة نحو الإبداع، نحو المساهمة الجدية في حمل الأعباء الإنسانية. وهذا في الواقع ما كان ينفرنا من الحركات الوطنية السابقة. وهذا ما أشعرنا بأن ثمة واجبا علينا وان ثمة مهمة جديدة لنا، فأنتم تعرفون في أي مستوى كانت تحيى وتعمل الحركات في مختلف أقطارنا العربية، في أي مستوى مقلد سطحي سلبي. يأخذون على الاستعمار أشياء كانوا هم أنفسهم يرتكبونها يوميا، ينادون بالحرية لا إيمانا منهم بالحرية ولكن دفعا لتهمة الغرب الموجهة إلينا، بأننا لا نقدر معنى الحرية، ينادون بالمساواة والرقي وغير ذلك لا عن قناعة، ولا عن معاناة وتجربة عميقة لهذه الأشياء، وإنما في المظهر والإعلان لدفع التهمة. إذن لم تكن تلك الحركات أصيلة، لم تكن تنبع من الشعب، ولم تكن تعبر عن حقيقته وإمكانياته لأنها لم تكن تعتمد عليه ولا تثق به. ولعلكم سمعتم أكثر من مرة أولئك الزعماء والسياسيين في أحاديثهم الخاصة: "الشعب لا يفهم، لا يعي، لا يقدر"، وفي خطبهم يشيدون به ويمتدحون فضائله ويستغلون غروره. الثقة الحقيقية بالشعب هي أعمق من تلك، تبدأ بالصدق، أي أن يكون المناضلون صادقين في عملهم وواثقين من أنفسهم، وبعد ذلك لا بد أن يكسبوا ثقة الشعب لان إمكانيات شعبنا غزيرة وعميقة، ولكن أكثرها دفين ومغمور. كنا إذن نشعر بأن مرحلة جديدة يجب أن تبدأ، وان تظهر فيها الأمة العربية على مستوى جديد غير المستوى السلبي الذي كانت عليه في الماضي، غير مستوى التشكي والتظلم والمواربة والتستر بعناوين المبادئ لكي ترفع عنها التهم الموجهة إليها من الأعداء. مرحلة جديدة تقف فيها أمتنا لتواجه مصيرها وجها لوجه.. تواجه حقيقتها بصراحة وجرأة، ولا تعبأ باستعمار ولا أجنبي. الأصل أنها موجودة، ولكن تريد أن يكون وجودها صادقا وعميقا، و لا تتلكأ عن رؤية أخطائها ونواقصها لأن هذا أول دليل على نضجها وبلوغها سن الرشد. والواقع أن المرحلة الجديدة التي بدأناها لم تغفل قيمة الشعب في خوض المعركة ضد الاستعمار، فقد وجهنا أنظار الشعب إلى نفسه وإلى أمراضه. و هذا تشجيع للشعب وثقة فيه لم تكن الحركات السابقة تجرؤ عليها، بل كانت تداريه وتداجيه. لذلك لم يكن يثق بها ولم يكن يمشي وراءها إلى آخر الطريق. أما مرحلتنا فكانت تنظر إلى الاستعمار بأنه نتيجة أكثر منه سببا، نتيجة لما يشوب مجتمعنا من نقص ومن تشويه. وأعتقد بأن هذا ما يجب أن نلح عليه وأن نزداد جرأة في المضي فيه، وأن نعتبر أننا دخلنا النطاق العالمي، ونقوم بدورنا الذي تجاوز حدود وطننا وحدود قوميتنا، وانه يجب أن نواجه هذا المستقبل الايجابي بثقة وتفاؤل وإقدام. قد يبدو لكم كل ذلك الآن شيئا طبيعيا وسهلا يسيرا، ولكن عندما بدأنا حركتنا قبل خمسة عشر عاما كانت هذه اللغة صعبة الفهم وصعبة التقبل، لان الجو الذي خلقته الحركات السابقة التي قامت على الهواة والمحترفين، وعلى المترفين الذين كانوا يتسلون بالسياسة لا على المناضلين الصادقين، كان جوا مزيفا حجب عن الشعب حقيقة قضيته، فلم يكونوا يريدون أن يسمعوا إن قضيتنا مرتبطة بقضية الإنسانية كلها. ولم يكونوا يتقبلون أن تكون مرحلة نضالنا ضد الاستعمار مرتبطة بالنضال الاشتراكي في الداخل، ولم يكونوا يفهمون ويستسيغون أن قضيتنا في كل الأقطار العربية هي قضية واحدة، ويجب توحيد النضال، وأن تنسجم خطوطه، وأن التجزئة التي فرضت على بلادنا هي مصطنعة وعارضة، وأن في أعماق الشعب ما هو كفيل بأن يجلو الصدأ ويزيل الزيف ويظهر حقيقة أمتنا وأنها أمة واحدة. وها نحن بدأنا نشاهد الصدأ يجلى والحقيقة يبرز وجهها ناصعا، عندما اتخذت مصر طريقها السوي إلى العروبة بعد أن كانت مضللة مدة طويلة، وكادت تفقد بذلك حركة النضال العربي اكبر وزن واكبر ثقل. هذا الذي يراه الكثيرون وكان يراه الساسة القدماء كمعجزة ليس لها تفسير، كنا نؤمن بأنه آت لا ريب فيه، وان حقيقة مصر العربية ستظهر في يوم من الأيام. تسمعون أيضا أصواتا ناشزة تقول: إن ما حصل الآن من ائتلاف وتقارب بين أجزاء الأمة العربية هو شيء حسن ولكنه ليس شيئا أصيلا وليس شيئا محتما وأن ظروفا معينة اقتضته، هي ظروف الكفاح ضد الاستعمار، وانه لا يغير شيئا في حقيقة الأقطار، الأقطار التي تؤلف وطننا الواسع، فلكل قطر تاريخه وماضيه وشخصيته وظروفه، وأن القومية العربية شعار لمرحلة ! هذه آراء مستوردة لا تنبع من صميم القضية وفيها تناقض، إذ أن هذه السرعة التي تم فيها الانسجام وانجلاء الوعي العربي بين أقطارنا، تدل على أن ثمة حقيقة كانت كامنة ولم تتطلب جهدا كبيرا حتى تظهر وتكشف عن نفسها، في حين أنه لو لم تكن هذه الحقيقة قائمة موجودة، لو لم تكن مقومات الأمة موجودة في شعبنا العربي كله، لاستحال أن يظهر هذا الانسجام بين أقطار كانت متباعدة في أكثر الأشياء، وانه كان يكفي أن تزال طبقة من السياسيين المحترفين حتى تعلن هذه الحقيقة عن نفسها، وتفرض نفسها فرضا. وهذا التجاوب ما كان ليتم لو لم يكن مستندا إلى واقع حي.. آذار 1957 . سيدي ولد محمد فال ـ مورتيانيا