فقط الذين يعرفون ماذا تُخفي طهران تحت عمائمها، هم الذين يعرفون كيف تطلع أعمال "القرصنة الاسرائيلية" (كما جسّدها الهجوم الأرعن على "أسطول الحرية") مجرد مزحة أمام أعمال "القرصنة الايرانية". فالأولى مباشرة، أما الثانية، فمركبة وغير مباشرة. والأولى قد تشمل سفينة، أما الثانية، فقد تشمل بلدا بكامله. والأولى قد تنتهي بعزلة مضاعفة، أما الثانية فتسعى الى التمدد. إسرائيل تضرب خبط عشواء أحيانا. يدعمها في ذلك موقف دولي متخاذل حيال ما يسمى بـ"حقها في الدفاع عن النفس". وهي تتغطرس ليس لأنها قوية بالضرورة، بل من أجل منح الشعور (لنفسها على الأقل) بأنها قادرة على أن تُملي إرادتها بالقوة.هذا الشعور المخادع ليس ضروريا بالنسبة لاسرائيل فحسب، ولكنه شعورٌ يساوي وجودها كله أيضا.إنزع عن الإسرائيلي شعوره بانه يستطيع أن يفرض كلمته بالقوة، وقل لي كم إسرائيلي سيبقى في فلسطين؟وإسرائيل تهاجم ليس لأنها تشعر بوجود تهديد حقيقي، بل لمجرد ترك ملاحظة على المائدة تقول: "نحن أقوياء وقادرون على البقاء".بل وكلما كان التهديد أقل جدية، كلما كانت حاجة إسرائيل لاستعراض عضلاتها أكثر أهمية. إنظر في كل أعمال اسرائيل العسكرية، وفي غزواتها، بل وأنظر الى البطش الذي تمارسه، وستعرف انه تعبير عن سايكولوجيا ضعف وهزيمة.إسرائيل تعمد أن تغطي مشاعرها الدفينة، بالتسلح وبالقيام بأعمال ذات طبيعة متغطرسة. ويهمها جدا أن تهين الآخرين في سيادتهم، وفي أرضهم، وتسلب حقوقهم، فقط من أجل أن تشعر بالإمتلاء الناجم عن "القوة". هذا الشعور هو ما يُبقي الاسرائيليين في فلسطين. ومع ذلك فمعظمهم يحتفظ بجنسية ثانية،.. "على سبيل الاحتياط". لأن الكل يعرف ان مسالك "القوة" التي تسلكها إسرائيل هي تعبير عن ضعف، لا قوة. وان هزال الكيان الإسرائيلي (جغرافيا وسكانيا) يقترن بشدة بهزال الأسطورة الصهيونية نفسها. فهذا كيانٌ يشعر انه يبني وجوده على ملح، وان "القوة" هي الشيء الوحيد الذي يُبقي ذلك الملح جافا و"متماسكا".إيران لا تمارس القرصنة من أجل القول انها "قوة". ولكنها تمارس النفاق، من اجل البقاء كقوة. إيران، قوة قديمة. تاريخها يمدها بالكثير من مبررات الثقة بان وجودها لا يتعرض لتهديد جذري. (ومعظم الايرانيين ليس لديهم إلا جنسية واحدة). ولكن هذه القوة تواجه معضلة شكل عصيبة، لا معضلة وجود. لو كانت إيران ترتدي ثوب امبراطوريتها الفارسية المجوسية، لما كانت هناك مشكلة. ولكنها ترتدي (كرها لا محبة) ثوب الإسلام. ولهذا السبب فهي تحتاج أن تبرر نفسها بين مسلمين آخرين يعتبرون إسلامهم أكثر أصالة وأكثر قربا الى مصادره المعرفية (اللغوية والثقافية والاجتماعية).فماذا تفعل حيال مأزق كهذا، لكي تبقى كقوة؟انها تنافق. تنافق بالإسلام، كما تنافق بالسياسة، وتحاول أن تتقرصن على كل ما يتيح لها تسويق الشعور بانها "قوة" داخل المجتمع الإسلامي. فتتاجر بالقضايا الإسلامية ليس لانها تقصد شيئا جادا، بل فقط من أجل القول: ان وجودها كقوة له ما يبرره بين المسلمين. لم يسبق لإيران أن قدمت ضحية واحدة في الصراع من أجل فلسطين. ولا أرسلت جنديا واحدا للمشاركة في أي من حروب المنطقة. ولم تطلق طلقة واحدة ضد إسرائيل. والمشروع الذي يمثلها في لبنان (حزب الله) لم يحارب إسرائيل من منطلق وطني ولا من منطلق قومي، بل من منطلق طائفي. فهذا الحزب يريد أن يضمن حصته في صراع الطوائف داخل لبنان، لا أن يحرر فلسطين. وعندما حدث ان إسرائيل دعمت غيره، في خضم الحرب الأهلية، فقد كان من الطبيعي أن يجد فيها خصما، إنما بالمعايير الطائفية، لا بالمعايير التحررية التي ينطلق منها الفلسطينيون أو العرب أو المسلمون الآخرون. منذ احتلال العراق الى يومنا هذا، لم تألُ إيران جهدا في الظهور بمظهر الداعم للفلسطينيين. كان الأمر مجرد عمل من أعمال القرصنة، للتغطية على عمل آخر من أعمال القرصنة. فبينما كانت مليشياتها تلاحق اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وعادت لتشردهم وتلقي بهم في الصحراء، فان آية الله منافقي كان يستقبل شقا من الزعماء الفلسطينيين ليقدم لهم الدعم. الغاية كانت بيّنة: من ناحية، للتستر على تحالفها مع الاحتلال في العراق لخدمة مشروع طائفي ظهر انه يخدم مصالح الطرفين. ومن ناحية أخرى، لشق الصف الفلسطيني وتقويض مشروعه الوطني بتحويله الى شيء يشبه المشروع الطائفي: غزة ضد الضفة، كما هو الحال في العراق "الجديد": شيعة ضد سنة. وكما هو الحال الدائم في لبنان: شيعة ضد السنة والدروز والموارنة، كل على حدة. وكان كل شيء يبدو وكأنه يسير على ما يرام. فأحوال النفاق ماشية. والاحتلال الإيراني المليشياوي في العراق راكب جيدا على الاحتلال الاميركي. والخدعة تنطلي على من يرغبون بأن تنطلي عليهم من "الطائفيين" الجدد في فلسطين. ولكن الله كان للمنافقين بالمرصاد. الشعور بالثقة، وبان الكذبة تنطلي جيدا، هو ما دفع ممثل "المرشد الأعلى" في الحرس الثوري الايراني الى أن يوسّع فرشة النفاق ويحولها الى عمل من أعمال القرصنة السياسية المباشرة. علي شيرازي قال الأحد (6 حزيران-يونيو الجاري) "ان الحرس الثوري الايراني مستعد لمواكبة قوافل تنقل مساعدات انسانية الى قطاع غزة في حال أمر آية الله علي خامنئي بهذا الأمر". وزاد شيرازي (كما نقلت وكالة "مهر" للانباء) ان "القوات البحرية للحرس الثوري مستعدة تماما لمواكبة اساطيل الحرية والسلام التي تقل مساعدات انسانية من العالم أجمع الى شعب غزة الذي يتعرض للقمع". واضاف "اذا أصدر المرشد الاعلى للثورة أمرا في هذا الصدد للقوات البحرية للحرس الثوري، فستتخذ تدابير عملية لمواكبة الاساطيل الى غزة، عبر استخدام قدراتها ومعداتها". كل ما أراد أن يفعله شيرازي هو أن يمارس النفاق المعتاد، من أجل القيام بعملية قرصنة سياسية. ولكنه وقع بشيء ينطوي على طبيعة عملية، وعلى تحدٍ أُرسيت له سابقة، حتى أصبح من شديد الفضيحة أن يتردد في الجري على مجراها، او النحو على منحاها. قبل ان يعرض "ممثل المرشد الأعلى" خدماته على "العالم أجمع"، كان المسلمون الأتراك ارسلوا بالفعل سفن إغاثة. ولأنهم كانوا يريدون إغاثة الفلسطينيين، لا إغاثة أنفسهم بالدعاية، فقد أرسلوا سفنهم وعلى متنها نشطاء عزل. وتملك تركيا من القوة العسكرية ما يكفي لأن تحمي تلك السفن. إلا انها لم تكن ترغب بالقيام بعمل إستعراضي. كانت تريد أن تغيث فقط. فوقعت تلك الواقعة. وخرجت إسرائيل منها مهزومة بكل معنى من معاني الكلمة. الآن. كل ما يجب على إيران أن تفعله هو أن تتفضل. وتبني فوق السابقة. البحر مفتوح. وغزة ما تزال محاصرة.ولو وافق الإمام الدجّال على أن يرسل جنديا واحدا على قارب يحمل 4 كليو بطاطا، فلسوف يكون من الواجب أن نحلق لحانا، ونعلن إيماننا المطلق بالنفاق على انه هو القضية، وعلى انه لا يوجد تحت عمامته ما كنا نعتقد.