يكرس المرحبون بديمقراطية
المستعمر، من 'مثقفين' عراقيين وعربا، جل كتاباتهم للدعوة الى فصل
احتلال العراق عن مضمونه التاريخي ونفي مقارنته بنماذج الاحتلال الاخرى
في العالم، مركزين في كتاباتهم التبريرية، التعميمية الشاملة، على
مظلومية طائفية فريدة من نوعها (كل السنة ضد كل الشيعة)، وقمع قومي
لامثيل له في العالم (كل العرب ضد كل الاكراد).
غير ساهين عن التذكير الدائم، بشكل مباشر او غير مباشر،، بان القضايا
والمفاهيم التي تربينا على اعتبارها جزءا من هويتنا، كقضية فلسطين
وحركات التحرر في جميع انحاء العالم، وحق الحكم الذاتي للقوميات ومفهوم
المقاومة ضد الاحتلال والاستعمار، ما هي غير ادوات مصطنعة بيد الحكام
لأشغالنا، وليست مبادئ حقيقية كما توهمنا في عصور التحرر الوطني '
البائدة'. ولتسويق تبريرهم يقومون بالخلط الانتقائي ما بين سياسة
الحاكم الدعائية وموقف الشعب الذي يحاول كسبه، مما يقودنا الى أولا:
ربط القضايا العادلة بالحاكم الذي يتاجر بها وفصلها عن الشعب فلا نعود
نراها كقضايا عادلة تهم الجميع، وثانيا الى القبول التدريجي بالاستقواء
بالاجنبي، كحل وحيد للتخلص من الحاكم المستبد وما يصاحبه. انه حل
يعيدنا الى الاستسلام أمام جوهر المنطق الاستعماري القديم 'لقد جئناكم
محررين وليس محتلين'، أو المفهوم الاستعماري الحداثي القائل 'ستستقبلون
بالزهور والحلوى'، على لسان 'المفكر الفيلسوف' كنعان مكية اثناء لقائه
بجورج بوش عشية الغزو.
واذا ما نظرنا الى محاولة تقديم توصيف احتلال العراق بأنه مختلف عن
بقية البلدان المحتلة، حاليا وتاريخيا، لرأينا أمثلة متعددة تفضح تضليل
مثقفي ديمقراطية المستعمر، ومن الطائفيين أو الساكتين عن التقسيم
الطائفي والأثني لأسباب تتعلق بمصالحهم الضيقة مهما تناقضت مع المصلحة
الوطنية العامة. فالاحتلال، مهما اختلفت حيثيات تطبيقه ومدى اهدافه
التوسعية، يبقى، بحكم طبيعته، يعتاش على استغلال الشعب واخضاع ارادته
وسلبه كرامته، بكل الطرق الممكنة. وتقدم لنا عملية جرد بسيطة لجرائم
الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني، في مجال واحد هو انتهاكات حقوق
الانسان، وفيما يخص الاسرى والمعتقلين بالتحديد، ومقارنتها بجرائم
الاحتلال الامريكي في ذات المجال، لوجدنا ان حقيقة التماثل تكاد تفقأ
العيون.
فمن الجانب الفلسطيني، أفادت اللجنة الوطنية العليا لنصرة الأسرى لعام
2010، في تقرير إحصائي شامل، بأن أعداد الأسرى في السجون بلغ ما يقارب
7000 أسير، موزعين على حوالي 25 سجناً ومعتقلاً ومركز توقيف.
وبين التقرير أن عدد الأسيرات قد ارتفع منذ بداية العام الحالي إلى 37
أسيرة، ومن بين الأسرى هناك 340 طفلا دون الثامنة عشرة من العمر. وهم،
مع بقية المعتقلين من الرجال، يعيشون في ظل ظروف قاسية حيث يحرم الأسرى
من أبسط حقوقهم الإنسانية التي نصت عليها الأعراف والقوانين الدولية
وتمارس سلطات الاحتلال بحقهم كافة أنواع الانتهاكات.
ويذكر الباحث عبدالناصر فروانة في تقرير له عن حال الأسرى بانه قد تم
تشكيل وحدتي 'امن' خاصتين باسم 'نخشون' و'ميتسادا' تقومان باقتحام
زنازين سجون وخيام المعتقلات ليلا ونهارا بحجة التفتيش المفاجئ أو
كعقاب لأبسط الأسباب. وأن تلك الوحدات مزودة بأسلحة متنوعة ومختلفة
كالسلاح الأبيض والهراوات والغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وأجهزة
كهربائية تؤدي إلى حروق في الجسم وأسلحة تطلق رصاصا حارقا ورصاص
'الدمدم' المحرم دوليا ورصاصا غريبا يحدث آلاما شديدة اضافة إلى الكلاب
المتوحشة لترويع الأسرى. ويوثق فروانة مقتل 7 أسرى استشهدوا في السجون
الإسرائيلية نتيجة إصابتهم بأعيرة نارية من قبل جنود الاحتلال، وان
جرائم وحدات 'نخشون' لم تقتصر على القمع والضرب والإيذاء المعنوي
والجسدي بالأسرى بل امتدت في كثير من الأحيان للمساس بمشاعرهم
ومقدساتهم الدينية متمثلة بقذف المصاحف الشريفة على الأرض والدوس عليها
وتدنيسها ورميها في دورات المياه وتمزيقها كما حصل في معتقلي مجدو
ونفحة.
وللكيان الصهيوني سجل اسود في استهداف رجال الدين من مسلمين ومسيحيين.
ففي 23 آب (أغسطس) 2002 أعتقل الناطق الرسمي للبطريركية المقدسية
للارثوذكس الارشمندريت الدكتور عطا الله حنا بتهمة السفر الى سورية
ولبنان وتأييده للمقاومة الفلسطينية وحثه المسلمين والمسيحيين بفلسطين
على دعم الانتفاضة.
وكان عطا الله قد تعرض لاعتداء جسدي قبل اعتقاله على يد 'مجهولين'. وفي
6 تشرين الأول (أكتوبر) 2009، تم اعتقال الشيخ رائد صلاح، رئيس الحركة
الإسلامية في الداخل الفلسطيني المحتل، بتهمة 'التحريض على العنف'،
بينما كان كل ما قام به هو التصدي للاعتداءات الصهيونية على الأقصى.
ولا يسلم الجرحى والمرضى من ملاحقة المحتل، اذ تواصل سلطاته اعتقال
أسير في حالة صحية متدهورة، على الرغم من مناشدة عائلة الأسير الجريح
عبر كل المؤسسات والمنظمات الحقوقية والانسانية، المحلية منها
والدولية، لانقاذ حياة ابنهم الذي اصيب خلال الحرب الاسرائيلية على
قطاع غزة هو واخوته الصغار جراء قصف استهدفهم اثناء لعبهم امام منزلهم،
الامر الذي تسبب باصابته اصابة حرجة حيث بترت اطرافه وقطعت اجزاء كبيرة
من امعائه وفقد البنكرياس مما ادى الى تدهور حالته الصحية بشكل كبير
واصابته بمرض السكري.
هذا بعض ما يعاني منه المعتقلون الفلسطينيون، فماذا عن العراقيين؟
بالنسبة الى عموم المعتقلين، يشير تقرير منظمة 'مستهلكين من اجل
السلام'، وبناء على المعلومات التي حصلوا عليها مباشرة من آمر قوة
المهام 134 الامريكية المشرفة على المعتقلين في العراق، وهي المرة
الاولى التي يتم فيها التصريح بهذه الشكل، ان عدد المعتقلين لدى قوات
الاحتلال، منذ الغزو عام 2003 وحتى منتصف 2008، بلغ حوالي 200 ألف
عراقي. وتشير معلومات أخرى 'من فريق العمل - 134 الى أن عمليات
الولايات المتحدة المقترنة بالمداهمة والاعتقال والسجن، منذ الغزو،
أثرت على حياة ما لا يقل عن مليوني عراقي، أي ما يقرب 10 في المئة من
السكان، إما لأنه تم القبض عليهم أو محتجزين في مراكز اعتقال أو لأن
أحد أفراد الأسرة المباشرين أو الاسرة الممتدة قد اعتقل'.
ولنراجع بعض الجرائم والانتهاكات التي حدثت خلال اسبوع واحد.. فقد توفي
الشيخ علي عبيد حمزة الهيتاوي إمام وخطيب جامع الشيحة في قضاء أبي غريب
غرب بغداد، نتيجة تعرضه للتعذيب في أحد معتقلات الاحتلال الامريكي.
وأكدت هيئة علماء المسلمين في تصريح لها إن الشيخ الهيتاوي كان معتقلا
منذ عام 2005 ثم تم نقله إلى أحد السجون الحكومية ليلفظ أنفاسه الأخيرة
هناك يوم 3 آذار (مارس). وفي اليوم نفسه اغتال 'مسلحون مجهولون' امام
وخطيب جامع الخشاب في الحي العربي بمدينة الموصل. وقبله بايام، شاهد
المواطنون العراقيون فيلما أثار مشاعر مختلطة من القرف والاشمئزاز
والرعب من همجية قوات الشرطة العراقية التي قام افرادها بركل وسحل جثة
معتقل مع العلم ان هذه القوات هي التي اشرفت امريكا وبريطانيا على
تدريبها على حقوق الانسان! وفي الاسبوع ذاته، قام رئيس 'دولة القانون'
نوري المالكي باغلاق معتقل 'سري'، صرح بأنه لم يكن يعرف بوجوده مع
العلم بان قواته الخاصة تشرف عليه. ونفت قوات الاحتلال علمها بالامر مع
انه موجود، كما العديد من المعتقلات 'السرية'، في معسكر امريكي لا
تدخله ذبابة عراقية بدون تصريح امريكي خاص. وتورد منظمة العفو الدولية
'إن ما يربو على 100 من السجناء، البالغ عددهم 431، قد تعرضوا للتعذيب
بالصدمات الكهربائية وبالخنق بأكياس بلاستيكية وبالضرب. وكشف السجناء
عن وفاة رجل واحد - وكان ضابطا برتبة عقيد في الجيش العراقي المنحل -
في كانون الثاني (يناير) نتيجة للتعذيب'.
وقد مورست ضد المعتقلين،
وكلهم من أهل الموصل، اساليب من الاغتصاب اليومي، وبطرق لا يتحمل
الانسان مجرد الكتابة عنها. ولا يمر يوم لا يعتقل فيه مواطنون، نساء
ورجالا واطفالا، بتهمة الارهاب والعنف. ولا يمر يوم لا يختفي فيه
مواطنون لا يعرف مصيرهم او في أي معتقل سينتهون. كما ان هناك مئات
المواطنين، من بينهم نساء، بانتظار تنفيذ عقوبة الاعدام. الاحكام التي
يصدرها نظام قضائي يصفه مالكوم سمارت، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال
أفريقيا في منظمة العفو الدولية، بأنه 'متهالك غير قادر على كفالة
إجراء محاكمات نزيهة في القضايا الجنائية العادية، فما بالك بالنسبة
للقضايا التي يعاقب عليها بالإعدام، مع ما ينجم عن ذلك، على ما نخشى،
من إزهاق لأرواح الأشخاص الذين يدانون إثر محاكمات جائرة'.
هذا غيض من فيض مما جلبه المحتل ويمارسه ومستخدموه باسم حقوق الانسان
و'الديمقراطية' الامريكية التي اريد لها ان تكون نموذجا لبقية دول
المنطقة. ان تدريب قوات الشرطة والأمن العراقية تتم على ايدي قوات
الاحتلال التي تطبق اساليب قوات الأمن 'الاسرائيلية'. وكأن الكيان
الصهيوني الذي يقدم نفسه باعتباره الدولة الديمقراطية الوحيدة في
المنطقة ليس كافيا. وتتماهى تطبيقات 'حقوق الانسان' في العراق مع
نظيرتها في 'اسرائيل'، الى حد بات من حق المواطنين التساؤل عما اذا
كانوا يشهدون، بحضور المستعمرالامريكي ومستخدميه من العراقيين، استنساخ
'اسرائيل' في العراق الجديد؟
|