هذه الفقرة مأخوذة من
كتابنا ( صدام مرّ من هناك ) .
مثلما أدت واقعة الانفصال بين مصر وسورية إلى شيوع القنوط الشعبي من
امكانية قيام وحدة عربية جديدة ، فقد زاد فشلُ المفاوضات الثلاثية بين
مصر وسورية والعراق يأساً مضافاً انتقل بدوره بعد أربع سنوات فقط إلى
حالة شعبية فاقدة للرجاء واليقين بعد كارثة حزيران عام 1967 .
وبقدر ما كانت حزيران نقلة نوعية في حروب اسرائيل مع العرب ، إلا أنها
لم تكن خارج تراكم العجز العربي لا في فواته التاريخي فحسب ، بل في
اشاراته النكبوية المضافة ( انفصال سورية ) وفشل الوحدة الثلاثية بعده
.
في ستينات القرن الماضي ، وبفواصل زمنية متقاربة ، أعلن الحداثيون سقوط
المفهوم القومي واندحار خطه الايدولوجي ، لصالح خط أخر ، هو النضال من
أجل الديمقراطية لا من أجل الوحدة القومية ، وبذلك تمت المجابهة بين
نضال قومي على جادة الاستبداد والديكتاتورية ، ونضال ديمقراطي يتيح
للشعب اظهار أحزابه ونوابه وحرياته وآرائه ومواقفه دون عواقب مجيء
زوّار الفجر !..
لم يكن ربط الخط القومي بالاستبداد شيئاً خارجاً عن المألوف الواقعي في
حياة نظم سياسية عربية هي ذاتها صاحبة الشعار القومي في سيرورتها
وممارستها دون جدال ، فالممارسات الا ستبدادية في دول النظم القومية لا
تعتريها شكوك ولا يفلح معها مُدافع مهما بلغت وطأة المؤامرات الخارجية
التي تُزعم سبباً لاطلاق مفاعيل أحكام الطوارئ أو الأحكام العرفية لزمن
مفتوح في القليل من الطوارئ والكثير من الحرص على حماية النظام السياسي
كما المُتخيّل في عقول أصحاب القرار ...
استطالت أحكام الطوارئ لعقود بدت وكأنها هي الحالة الطبيعية لحياة
الشعوب ، أما الحياة الطبيعية لدى جماهيرنا فقد أصبحت هي الطارئة
لغيابها وانتفائها .
نعود إلى المشكلة الأم في ربط الخط القومي بالاستبداد ، ونظراً لما
لهذا الربط من آثار مفجعة أقلها ربط أسباب هزائمنا بما تبدئ من ارتباط
الأنظمة القومية بالاستبداد ، فإننا لن نحاول العودة إلى النقاش
البيزنطي في ( أيهما الذي سقط؟ الايدولوجية الماركسية أم الشيوعيون
؟!).. فالاستبداد ناتج من نواتج تطور المجتمعات ولا يرتبط بأيدولوجيا
محددة ، فعلى صعيد الأمة العربية مثلاً ، فقد ظل الاستبداد يعيش حالات
من النظم السياسية منها من نادى بالخط القومي ومنها بالديني ومنها
بالليبرالي الشكلي ومنها من لم يفعل ذلك ، فالاستبداد لا يحتاج إلى
أيدولوجيا كي ينشأ معها أو يتعزز بواسطتها ، ما يحتاجه هو نظام سياسي
يسيطر عليه ويمتطيه ، فالاستبداد بطبيعته حالة من الانكار واخفاء النفس
خلف ضرورات خارجية أو داخلية داهمة حيث لا يوجد نظام سياسي شمولي يعترف
باستبداده ، بل ما يعترف به هو أسبابه القاهرة وما انقاد إليه النظام
قسراً نتيجة لتوفر تلك الأسباب .
الاستبداد في عالمنا العربي حالة شائعة ، سواء كان النظام متمسكاً
بتلابيب القومية أو غيرها من أنظمة شبه دينية أو أقليمية خاصة دون
تصريح !..
ما أردنا التأكد عليه هنا ، أنه لا رابط ضرورياً بين الاستبداد
وأيدولوجيا محددة ، فمن الظلم أن يُربط الاستبداد بخط قومي أو ديني أو
ليبرالي وفق نمطية عربية ،ولعل من الحكمة ربط الاستبداد بدرجة الفوات
التاريخي لجماع الأمة ، وليس بناتج هذا الفوات بل بأسبابه ويترتب على
ذلك انشاء رد آخر على الاستبداد ، غير ( طَلب نقيضه المباشر ) في طلب
ديمقراطية مستعجلة ، وقد يكون ذلك في العودة إلى طلب النهضة باصلاحات
شمولية تبدأ من التعليم وصولاً إلى التنمية بإعادة بناء البنية التحتية
في مجالات اقتصادية وخدماتية أساسية ، اما العودة إلى شعار النهضة فإنه
لا يعني التخلي عن طلب الديمقراطية ، بل إننا نجد في مطلوب النهضة ما
يؤسس للوصول إلى نظام ديمقراطي في النهاية ، فالنهضة ليست كلمة في
برنامج ، بل هي الجهد المتواصل من أجل تغيير الواقع ، ولا شك أنه واقع
ثقيل بحمولاته الفكرية والخرافية والبنيوية والعلمية والاقتصادية
والسياسية .. بتنميط مشترك شعبي ورسمي بآن واحد ، فشمولية الفوات تنيخ
بكَلْكَلها فوق أكتاف الطبقات الحاكمة وغير الحاكمة ، وهي حكمة الآية
في التنزيل الحكيم ( مثلما تكونوا يولّى عليكم ) .. هذه الحمولات
وسواها ، هي التي تضع المسافة بالقرون بين نداء الطموح وواقعية الوصول
إليه ، أي ما يسميه المفكرون بالهوة الساحقة الفاصلة زمنياً بين
المطلوب والواقع ، أي بين الواقع وزمن الوصول إلى تغييره ، وهذا ليس
استثناء عربياً يضعنا في لجة الانسحاب واليأس ، فقد وصلت أوروبا إلى
عصريتها الراهنة بعد أربعة قرون من الانحطاط المميت ، وفي زمن العولمة
لاتقاس المسألة بالقرون بل ربما بالأجيال ففي غضون نصف قرن بعد الحرب
العالمية الثانية ، استطاعت اليابان خطف موقعها في الحداثة ، كذلك تفعل
الصين والهند وماليزيا والنمور الآسيوية الصغيرة غير أن الأهم في هذا
العرض ، يكمن في أن الأمم اياها احتلت مقاعدها في العصر ، بخصوصيات
مختلفة ، هذا لايعني أن خصوصيتنا العربية هي الحائلة دون الوصول ،
فالأمة العربية ليست بشراً من نوع استثنائي ولا هي من كوكب آخر ، فكما
هي اليوم ، كانت في الماضي معظم أمم العالم ، والاستثناء الانحطاطي
الذي يرمينا به بعض المستشرقين ، إنما ظل يقوم على شواهد لهم من عصور
انحطاطنا وليست فطرة طبيعية خَلْقيّة في جينات أمتنا كما أراد مستشرقون
وضعنا خارج الطبيعة البشرية!.. كان بمقدورنا أن نكون أمة خارج الطبيعة
البشرية ، لو لم نكن في الأندلس ، حين بدأت عصور أوروبا الظلامية تقتبس
نور العلم من أجدادنا هناك ، كان بمقدور شارلمان ألا يفزع حين رأى ساعة
هارون الرشيد وهي تتراقص أمامه ، كان الجبر والفلك والهندسة والرياضيات
والطب وخلائط الأدوية الشافية .. تنتقل إلى أجداد المستشرقين دون
اعتراف منهم اليوم !..
ليس أتعس على أمة تستجير بماضيها حين تصدم بحاضرها كما نفعل اليوم ..
العقل الارجاعي لايفيد أمة في فواتها ، قد يبعث على النشوة لكنه ليس
بمنقذ للشعوب من فواتها, فالتخلف لاينحصر ببعدٍ واحد يمكننا من القضاء
عليه بقفزة واحدة ، طلب الديمقراطية عادل ، لكن الزمن العربي في
مرحلتنا الراهنة لا يستجيب اليه طلب التحديث أكثر واقعية ، نحن هنا
لأننا لم نصل إلى الحداثة ولا الى تخومها ، الحداثة هي المبتدء
والديمقراطية في محل خبر لهذا المبتدء ما يلزمنا هو نظام وطني يتسم
بالشرعية والعدالة, المسؤول الأول هو النظام السياسي ، ويأتي الشعب
بعده بشكل مباشر .. عدا أوقات الحروب المفروضة ، فإن حقبة صدام كلها
ظلت في حالة ملاحقة نحو تحديث العراق , أما الأثمان التي دفعها العراق
فتعود إلى طلب خروجه من النفق قبل أي إعتبار أخر.
|