لم يكن تعامل قيادة العراق
مع الثروات تعاملاً مرحلياً يلبي طموحات آنية وقتية، بل كان تعاملاً
يعتمد أفقاً يمتد ليشمل أجيالاً قادمة، ذلك لأنها تحمل مشروعاً حضارياً
يستهدف استعادة الأمة لدورها ومكانتها بين أمم وشعوب الأرض، لا يمكن له
أن يكتمل ويحقق أغراضه إلا بتراكم منجزات وخبرات أجيال عديدة، تؤدي
بتواصلها إلى تحقيق تلك الغايات والأهداف، ولهذا فهي وضعت منهجاً
للتعامل مع الثروات الوطنية ذو شقين، أولهما تحرير تلك الثروات من
الهيمنة الخارجية بكل أشكالها، فلا يمكن لها أن تحقق استقلالية لقرارها
السياسي وخيارها في مسار واتجاه النهوض الأصيل المستند إلى أصالة الأمة
ومنهجها، والذي يتعارض مع الإرادة المعادية، إن لم يشرع بتحرير الثروات
الاقتصادية، التي تشكل جانباً مهماً تستند إليه الإرادة السياسية، و
لعل واحداً من الأمثلة على استحالة الاستقلالية في القرار السياسي مع
وجود الشركات الاحتكارية وهيمنتها على مقدرات الشعوب وإرادتها، ذلك
الذي حصل عام 1925م في العراق، فبعد قيام الحكم الملكي عام 1921م
استغلت القوى الامبريالية مطالبة الحكومة التركية بالموصل بدعوى أنه
يتبع لدولتهم تاريخياً، كوسيلة ضغط أوحت بها الدول الامبريالية للأتراك
بهدف وضع الحكومة العراقية أمام خيار لا بديل له، ذلك هو الانصياع
لمطالب شركاتها الاحتكارية بمنحها امتياز التنقيب عن النفط دون أن يكون
له حصة فيها، مقابل التصدي للأطماع التركية عبر عصبة الأمم التي تهيمن
عليها تلك الدول المالكة للشركات، وقد تحقق لها ذلك بتوقيع الاتفاقية
بتاريخ 14-3-1925م رغم المعارضة الشديدة التي أبداها وزيري الداخلية
والمعارف؛ رشيد عالي الكيلاني ومحمد رضا الشبيبي، واستقالتهما من
الحكومة، فالحقيقة لم يكن هناك أمام الحكومة العراقية إلا التسليم
بالأمر حفاظاً على وحدة التراب العراقي، فكان أقصى ما يمكنها فعله أن
تضحي بالثروة مقابل الاحتفاظ بالتراب، بدلاً من التضحية بالثروات
والتراب معاً.
ولذلك كان قرار التأميم عاملاً حاسماً في تحقيق الاستقلال السياسي،
امتلك العراق بموجبه الحرية في اتخاذ القرار. أما الشق الثاني، فقد
اعتمد على الرؤية لتلك الثروات، ودورها في البناء، من أجل خلق قاعدة
للنهوض الحضاري، تعتمد على مراحل متلاحقة تستند كل واحدة منها على ما
تحققه المرحلة السابقة لها، وكلها تحتاج إلى موارد مادية، لذلك لم تعمل
قيادة العراق على استنزاف كل ما يمكن لها أن تستحوذ عليه من موارد خلال
فترة محددة، فقد كان بإمكانها أن تصدر كميات من النفط بعد التأميم
تتناسب مع ما كانت تصدره أقطاراً أخرى، تحقق من خلاله ثراءً فاحشاً
للشعب العراقي، لكنها لم تفعل، لأن ذلك المنهج الاستهلاكي سيضع الأجيال
القادمة لتلك الأقطار بعد نفاذ احتياطاتها ومخزوناتها النفطية في باطن
الأرض في مهب الريح، حين يعود بها مستقبلها الاقتصادي المفتقد لعوائد
النفط إلى حياة بائسة لا يستحوذ على مقومات المواصلة، فلا يكون أمامها
إلا رهن إرادتها لقوى خارجية، تفرض عليها مناهج حياتها ومتطلبات
مصالحها.
لذلك تعاملت مع مواردها وفقاً لتلك النظرة الموضوعية والمنطقية،
فتعاملت معها بعد نجاح التأميم بعقلانية وأمانة يتسمان بشعورٍ عالٍ
بالمسؤولية التاريخية حيال المستقبل، من خلال نظرة قيادة البعث للثروات
الوطنية والقومية، فهي ترى فيها أسباب لتحقيق نهضة العراق والأمة،
وتؤمن بالعدالة في توزيعها، وحق الأجيال القادمة فيها، فإنها لم تستثمر
من الثروة النفطية آنذاك إلا نسبة محدودة، فالأرض العراقية، كما هو
معروف، تحتضن في رحمها أكثر من 500 تركيب جيولوجي، لا تشكل بحيرات
للنفط إلا واحدة منها، فهي لم تستخرج النفط الخام إلا من 27 حقلاً فقط،
من مجموع الحقول المكتشفة البالغة 71 حقلاً تحتوي كلها على مخزونات
كبيرة جداً، بالإضافة إلى الحقول الأخرى التي لم ينقب فيها.
وذلك كان ولازال يشكل تزكية فريدة للبعث ونظامه الوطني في مصداقية
مبادئه، وفي أمانته وحرصه على مقدرات الأمة، وإن منهج التعامل معها
أثبت بجلاء أن البعثيين ليسوا عشاق سلطة، فهم لو كانوا يسعون لها مجردة
عن غاياتها النبيلة في استنهاض أمتهم لاستهتروا بها، وجعلوا منها سنداً
يضمن لهم تلك السلطة إلى مئات السنين، فالشعوب لا يلهيها عن السلطة
ويبعد أنظارها عنها إلا مغريات الدنيا حين تتوفر لهم. ولذلك عمدت القوى
الصليبية والصهيونية إلى تجويع الشعب العراقي بحصارها المجرم ثلاثة عشر
عاماً، كانت تبغي من خلالها أن يلقي الجهلة والرعاع بأسباب مآسي حياتهم
التي أوجدها الحصار على السلطة، فأوجدوا بذلك الأرضية التي يمكن تقف
عليها نسبة من الشعب مع العملاء والجواسيس والخونة، ممن باعوا شرفهم
وعرضهم وأرضهم للأجنبي بسبب أمراضهم النفسية القاتلة.
وحتى خلال الحصار فقد أرادت قيادة العراق أن تجعل من ظرفه تجربة
وامتحان في تربية النفوس وتنقيتها من الخصائص الدخيلة على فكرها
وسلوكها، فالعفة والكرم لا تأتي إلا مع ظروف الحاجة، كما لا يأتي الزهد
إلا مع وجود الرخاء. كما كان درساً كبيراً وتجربة فريدة خاضها الشعب
العراقي مع قيادته، حين التفت إلى ما هو متوفر من خيرات على أرض
العراق، كما هو في باطنها، في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات،
فيما أبدعت العقول بدائل كثيرة لما تعسر الحصول من الخارج بسبب الحصار،
في الصحة والتعليم والبناء والتسليح وكل ما يتعلق بإدامة زخم الحياة،
مع موفور الكرامة ونعمة الأمان.
وذلك في الحقيقة يعدّ درساً بليغاً في إرادة الشعوب الحيّة وذات العمق
الحضاري الأصيل، وقدرتها على قهر الظروف الطارئة وتذليل صعابها
والتعايش معها، لو أحسن درسه، فشعب العراق عاش ستة سنوات كاملة على
خيرات أرضه دون أن يقهره الحصار، قبل أن يقرّ برنامج النفط مقابل
الغذاء والدواء، مع إن شعباً غيره ما كان بمقدوره أن يصمد بضعة شهور لا
أكثر.
ولعل تلك التجربة المريرة والقاسية التي افرزها الحصار هي من بين ما
استند إليه الشعب العراقي خلال الغزو والاحتلال الصليبي الصهيوني
الصفوي الشعوبي، في تحمله للصعاب والمخاطر والظروف القاسية، ونهوضه
بواجب مقاومته؛ تلك المقاومة التي أبهرت التاريخ قبل أن تبهر الشعوب،
فذلك جانب من فضل البعث ومنهجه على العراقيين وأبناء الأمة، فهو الذي
علمهم كيف يردّ العرب على نكساتهم بانتصارات، كانتصار التأميم الخالد
في حزيران عام 1972م على نكسة العرب في عام حزيران عام 1967م، وهو الذي
بدد أسطورة الكيان الصهيوني الذي لا يقهر، حين دك أوكاره بصواريخ
أبدعتها عقول وأنامل العراقيين، بعد أن وفر لهم قرار التأميم قدرة
الحصول على العلم والمعرفة ومستلزمات العمل المبدع.
من هنا يتضح أن التأميم لم يكن مجرد قرار استعاد به العراق ثرواته
المنهوبة من قبل شركات احتكارية ضالعة في منهج العداء للعراق وللأمة
العربية، بل كان تحولاً تاريخياً حمل في طياته الكثير من مبررات نهضة
العراق، ولذلك فقد شكل منعطفاً تاريخياً استجمعت فيه قوى البغي والظلام
كل طاقاتها وإمكاناتها في سبيل القضاء على صانعيه ومحو آثاره من الواقع
العراقي والعربي، ولم تنجح في مساعيها إلا بعد 31 عاماً من التآمر
والتأليب والعدوان، وما أن تنفست الصعداء، ضناً منها أنها قد أنجزت
مهمتها، الطويلة في زمنها، والشائكة في حبائلها، حتى أفزعها شعب العراق
مجدداً بمقاومته الباسلة، والتي ستعيد العراق مجدداً إلى مسار التأميم
الخالد بإذن الله تعالى.
تنويه : ورد
خطأ مطبعي في الجزء الأول من المقال أن قرار تأميم النفط الإيراني من
قبل حكومة مصدق كان عام 1956م والصحيح هو بتاريخ 15-3-1951م فعذراً
للقارئ الكريم. |