في خضم تراجيديا الغزو والاحتلال والتطبيق القسري لكل ماجائت بها
أجندات الغزاة المحتلين فقد أسرت أرض السواد وشعبه بمفاهيم براقة
المظهر خاوية الجوهر , تضمر التقسيم والتفتيت
ضمانا لمصالح دولية وأقليمية , وأبعادا لثقل بشري ومادي ومعنوي لاكبر
قطر عربي , شكل وعلى مدار عقود من الزمن , تهديدا واضحا للاستراتيجية
العدوانية العالمية وربيبتها أسرائيل التي لم يخفي قادتها أبتهاجهم بما
حل بالعراق من دمار وتخريب وتقسيم , ومؤكدين على أن كل ذلك هو تثبيت
للوجود الصهيوني في المنطقة العربية , وتهديم لكل الحجابات والسواتر
والخطوط الحمر التي وضعت أمام قبولهم بين دول المنطقة , والتعامل معهم
على أساس دولة مجاورة , ولنا أن نتذكر حجم التنازلات العربية التي قدمت
لاسرائيل , وعدد الاختراقات التي نجحت في أرسائها السياسة الاسرائيلية
في الوطن العربي , منذ بدايات الصفحة الاولى في العدوان على العراق في
العالم 1991 وحتى عام الاحتلال في 2003 , لنقيس في ضوء ذلك عظم الشوكة
التي كان يمثلها العراق في الفم الصهيوني , والعائق الكبير الذي كان
يمارسه ضد المشروع التوسعي الصهيوني , على المستوى الشعبي والعربي
والاقليمي والدولي .
أن نظرية ( الضرب اسفل الجدار ) التي نظر لها بريجنسكي في منتصف
السبعينيات من القرن المنصرم, والتي جائت تلبية لحاجات ستراتيجية
أمريكية, وملخصها هو أثارت النعرات الطائفية والقومية في الوطن العربي
تمهيدا لنخره وأنتهاءا بهدم جدرانه , بغية تفتيته الى وحدات أصغر فأصغر
, أنما كان ميدان تطبيقها الاوسع والاشمل في العراق منذ العام 1991
عندما صدر قرار تقسيمه على أساس خطوط العرض , التي حظر فيها على
الطيران العراقي التحليق في نطاقها , وتهديد حلفائهم من الاحزاب
الكردية بعدم التعامل مع الحكومة العراقية الشرعية , ثم الايعاز لهم
بالشروع بتنظيم كيان شبه مستقل في شمال العراق , وماتلا ذلك من مؤتمرات
لما يسمى (المعارضة العراقية ) برعاية مخابراتية أمريكية وأوربية ,
حرصوا فيها على تشكيل كيانات تقوم على أساس تقسيم الوطن على أسسس
طائفية وقومية , ومن ثم توزيع المناصب الحكومية فيه وفق معادلة رياضية
تقبل القسمة فقط على ثلاثة ( كردي , شيعي , سني ) , ثم السعي لايجاد
أعراف قوامها حصر المناصب في السلطات التشريعية والتنفيذية , بطائفة
وقومية محددة لايمكن فيها أن يغادر المنصب الى الطائفة الاخرى أو
القومية , فكان منصب رئيس الجمهورية حصرا بالكرد , ورئاسة الوزراء حصرا
بالشيعة , ومجلس النواب حصرا بالسنة , وكأن هذه المناصب هي ملك للطوائف
والقوميات وليست ملكا للشعب والوطن , وقد رافق كل هذه التقسيمات سباق
محموم على أثارة العداء بين الشعب الواحد وقومياته المتأخية من قبل
الادارة الامريكية , فها هو الحاكم الامريكي ( بريمر ) يذكر في كتابه
عن تجربته في العراق , مؤكدا أنه كان يدور على زعماء الاحزاب الطائفية
مذكرا أياهم بعدم السماح للطائفة الاخرى ( بتغيبهم ) عن السلطة ثمانين
عاما أخرى وهم الاكثرية , ثم يذكر الطائفة الاخرى بضرورة المشاركة في
الحكم كي لاتأكلهم الطائفة الاكبر , ويدغدغ عواطف الاحزاب الكردية بأن
الفرصة قد اتت لهم كي يحققوا كل طموحاتهم الانفصالية , كما أنشأت
القنوات الفضائية التي تنظر للطوائف والقوميات , وصدرت المئات من الصحف
التي تنطق بأحقية حصة كل طرف , وتأسست المئات من الجمعيات وما تسمى (
منظمات المجتمع المدني ) التي تبحث في كيفية تكريس التقسيم وتهويل
الحدود والاختلافات بين كل طرف , وفي ظل كل هذه المؤثرات أبدع تطبيق
نظرية ( الضرب أسفل الجدار ) خدعة ماسمي الانتخابات لتكريس كل هذا
التقسيم وتغليفه بما يسمى شرعية صناديق
الاقتراع , كي يشهرون هذه الشرعية الزائفة في وجه كل من ينادي بالولاء
للوطن أولا , ويدعو للاستظلال بالخيمة الوطنية , مؤكدين زورا بأن الشعب
هو الذي أختار وأنتج هذا الحاصل الهجين والمشوه في ( ثورة الاصابع
البنفسجية ) الاولى .
أن هذا السينايو القاتم السواد الناتج عن تفصيل الوطن وفق الاهواء
والمصالح الضيقة , وتفتيته خدمة للمحتل أولا , ولصالح أمراء الطوائف
والقوميات ثانيا , قد رسخ حقيقة أن الاحزاب المشاركة في العملية
السياسية هي أحزاب طائفية المنهج والتشكيل , التقت طائفيتها مع نزعة
المحتل بأنشاء كيانات كسيحة وغير قادرة على الفعل , لذلك من غير المنطق
أن نقرر بأنها قد غادرت طائفيتها , وعبرت حدودها الضيقة الى رحاب الوطن
الفسيح , بمجرد أن أنظم اليها من أنظم ممن يدعي تمثيل الطائفة الاخرى ,
لان الخيمة الوطنية ليست عملية رياضية تساوي جمع أرقام,بل أنها أحساس
وشعور وأيمان وعقيدة قائمة على أساس أنصهار المجموع في خدمة الكل , وأن
تغطي هذه الاحزاب بالاردية الوطنية لن يؤدي الى عدم ظهور عوراتها مجددا
, وهذا ماكشفته الايام التي يمر بها العراق منذ الانتخابات الاخيرة
وحتى اليوم .
أن من محاسن الانتخابات الاخيرة , وما سمي (ثورة الاصابع البنفسجية )
الثانية , أنها عرت المشاركين فيها وفضحت تخفيهم تحت شعارات الوطنية ,
فنتائجها أشارت بوضوح مجددا الى هوياتهم الطائفية والقومية الضيقة ,
وأكدت على أن تلك القوائم والتحالفات لم تكن سوى أتحادات بين من يدعون
تمثيلهم لطوائف المجتمع العراقي , للقفز مجددا الى نفس المركب الذي
جمعهم فيه الغزاة أول مرة , فبان ألانقسام واضحا في عموم الخريطة
العراقية , بين شمال لم يفز الفائزون فيه ولابمقعد واحد في الوسط
والجنوب , وجنوب لم يفز الفائزون فيه ولا حتى بكرسي مقهى في أحدى مقاهي
السليمانية , وغرب وشرق تربع فيه العلمانيون بنتائج حاسمة ولم يحصل فيه
غيرهم على مقعد , لالعلمانيتهم بل لان القائمة التي أنتموا اليها كانت
أتحادا طائفيا عشائريا مناطقيا بأمتياز , فالسيد طارق الهاشمي قطب
طائفي جلس على كرسي نيابة الرئاسة المخصص( للسنة) طوال أربع سنوات,
وكان يتزعم حزبا طائفيا ولايمكننا أن ننزع عنه صفة الطائفية لمجرد
تخليه عن الحزب , والسيد رافع العيساوي قطب عشائري , والسيد أسامة
النجيفي قطب مناطقي لم يحصل على أي مقعد سوى في محافظته , فهل يعقل أن
نطلق على كل هذه القوائم والاتلافات صفة الوطنية ؟ وأذا كنا نسمع اليوم
صوت زعيم المجلس الاعلى يردد أجمل العبارات الوطنية , ويتغزل بالقائمة
العراقية , فليس دليل ذلك تخليه عن طائفيته , فلازال في قائمته من
ينادون بديكتاتورية الطائفة التي ينتمون اليها , وحاكمية الاكثرية
الطائفية , بل هي نكاية بغريمه المالكي الذي توسل فيه أن ينظم الى
أئتلافه قبل الانتخابات لكن الاخير رفض بعد أن توهم بأنه سيحقق فوزا
كاسحا , يشكل فيه حكومة أغلبية برلمانية كما كان يدعي .
أن قانون الاحزاب التركية وهي القريبة الى واقعنا العربي , يشترط على
الاحزاب الفائزة أن تحصل على مقاعد في كل محافظات تركيا بجزئيها
الاسيوي والاروبي كي تثبت أنها وطنية ومقبولة من جميع أطياف الشعب
التركي , فما حكمنا نحن اليوم على أحزاب العملية السياسية في العراق
الذي تقسم العراق بنتائجهم ؟ وأذا كان البعض يصر على التوسل بأن صناديق
الاقتراع هي التي أفرزت هذه النتائج , فنحن نقول بأن العملية
الانتخابية ليست صناديق أقتراع وحبر بنفسجي ومفوضية وبطاقة ناخب , بل
هي وعي وثقافة وقوائم وطنية حقيقية وأعلام جامع لامفرق وفوق كل ذلك وطن
مستقل صاحب سيادة , فالعملية الانتخابية كالمعادلة الكيميائية , تختلف
نتائجها بأختلاف الظروف التي تحيط بالوسط الذي تجري فيه المعادلة ,
وتكون نتائجها وفقا لذلك . فهل كانت الظروف التي رافقت( العملية
الانتخابية ) في العراق صحيحة وصحية ؟؟
|