هو أكبر من كلماتنا..
وأجلّ من رثائنا.. ولعلّ الله حين اختاره إلى جواره إنّما أراد أن
يريحه عناء استنهاض همّة أمّة أقعدتها الدعة، فآثرت أن تركن إلى
التواكل، ورغبت عن تجديد فكرها، وتقاعست عن إعادة بناء مفهومها
للحياة.. فغرقت أو كادت..
الدكتور محمد عابد الجابري أكبر من رثائنا حقّا. وليس هذا من باب
الادّعاء الكاذب أو التواضع المصطنع. وأنّى لنا أن نحيط بمآثر الرجل
وخصاله؟ وكيف لبطاقة كهذه أن تفي الجابري حقّه؟ بل من أين نبدأ عندما
نريد أن نقف في لحظة صدق ووفاء مع رجل كالدكتور محمد عابد الجابري؟
وماذا ستضيف هذه الكلمات إلى كلّ ما كُتب عنه أثناء حياته وبعيد رحيله؟
وماذا ستضيف إلى ما كتبه هو وحبّره بصدقه وإيمانه بأمّته.. بعلمه
وتواضعه؟
أحسب أنّ الموت عندما ينقضّ على بعضنا إنّما يفعل ذلك رحمة بهم.. فهناك
يستريح المرء من التجاهل والنسيان والاتّهام.. وهناك يخلد إلى نومة
المطمئنّ بعد أن اكتوى هنا طويلا بنيران الأصدقاء.. هناك يُعترف
بتفوّقه وعبقريّته.. وهنا يُطعن في كفاءته ويُشكَّك في معارفه. فنحن
ألفنا ألاّ نقيم للمرء تمثالا إلاّ بعد أن يطويه الموت مثلما ألفنا
ألاّ نكرّم عظماءنا وأبطالنا إلاّ بعد وفاتهم.
وها هي الصحف والمجلاّت والمواقع الألكترونيّة وكلّ وسائل الإعلام
تتبارى في إظهار خصال الفقيد وبيان ما قدّمه للفكر العربيّ الإسلاميّ
على مدى يقارب نصف قرن من الزمان. والحقّ أنّ الجابري جدير بكلّ ما قيل
فيه، بل أزعم أنّ ما قيل فيه دون منزلته، ودون معرفته. فهو ليس كاتبا
بالمعنى المألوف، وليس من محترفي السياسة بدلالاتها المتعارف عليها..
إنّ محمد عابد الجابري مناضل حقيقيّ دون أن يدّعي هو ذلك.
وهو مناضل في كلّ الساحات التي اقتحمها حتّى في ميدان السياسة.. فلقد
انخرط في خلايا العمل الوطنيّ في بداية خمسينيّات القرن الماضي. وهو
إلى ذلك يُعدّ من القيادات التاريخيّة في حزب الاتّحاد الاشتراكيّ
للقوّات الشعبيّة، وظلّ يشغل لفترة طويلة عضويّة مكتبه السياسيّ.. لكنّ
العمل السياسيّ أضيق من أن يتّسع لفكر الجابري، وأقلّ حرّية ممّا
تقتضيه دواعي الإبداع في رحاب الفكر والعلم والفلسفة. لذلك اعتزل العمل
السياسيّ، وتفرّغ لمشاغله الأكاديميّة والفكريّة.
من العسير أن نحيط بكلّ ما خلّفه الفقيد من كتب ودراسات ومقالات ورسائل
جامعيّة أشرف عليها وناقشها، فهي تُعدّ بالمئات. غير أنّ أكثر كتبه
التي خلّفت دويّا هائلا في الأوساط الأكاديميّة والثقافيّة عامّة تلك
التي اعتُبرت نقلة قيّمة في علاقتنا بتراثنا، بل نقلة هامّة في تاريخ
حركة النهضة الثقافيّة العربيّة التي أعتقد أنّه أحد ممثّليها
البارزين.
لقد حقّقت كتب الجابري (نقد العقل العربيّ) و(العقل السياسيّ العربيّ)
و(العقل الأخلاقيّ العربيّ) نجاحا كبيرا بفضل المنهج العلميّ الصارم
الذي فرضه المفكّر على نفسه، وبفضل التزامه بقواعد البحث العلميّ في
تعامله مع واحدة من أكثر قضايانا حساسيّة وإثارة للجدل: التراث. كما
أنّه ختم تصانيفه بثلاثة مجلّدات عن القرآن وتفسيره "معرفة القرآن
الحكيم أو التفسير الواضح حسب أسباب النزول" في ثلاثة أجزاء، و"مدخل
إلى القرآن الكريم" ..
وهذه المؤلّفات وغيرها أثارت نقاشا مستفيضا بلغ من الحدّة أحيانا ما
جعل بعضهم يتّهم الجابري بالتطاول على الرموز التاريخيّة والدينيّة،
ودعت آخرين إلى القول إنّ نظريته عن الحداثة عبر التراث، لا تمتلك أيّة
جاذبيّة، لأنّها لا تميّز بين التراث كمعارف ومعان وأفكار ولدت في
الماضي وبين التراث كتقليد ممارَس وحيّ.
إنّ الراحل الجابري هجس بمشكلات الأمّة العربيّة وانتهى إلى نتائج قد
يختلف معه بشأنها كثيرون، منها أنّ الديمقراطيّة والعقلانيّة تغنيان عن
العلمانيّة. ولكنّ ذلك لا يغني أبدا عن الدعوة إلى إعادة ابتكار العقل
العربيّ، فهو أي الجابري كان دائما مؤمنا بقيـمة العقـل العـربيّ
والفرد العربيّ والأمّة العربيّة ومستقبلها.
لقد كُرّم الجابري في أكثر من مناسبة، وحصل على عشرات الجوائز والأوسمة
شرقا وغربا، منها جائزة بغداد للثقافة العربيّة- اليونسكو (1988)،
والجائزة المغربيّة للثقافة (تونس 1999)، وجائزة الدراسات الفكريّة في
العالم العربي (2005)، وميدالية ابن سينا من اليونسكو 2006) ). لكنّ
أفضل تكريم له سيكون بمواصلة الدرب الذي اختطّه لنفسه ومناقشة أفكاره
وآرائه وعدم اعتبارها نهاية المطاف. فمشروع الجابري النقديّ لم يكتمل،
وسنُميت الراحل ثانية إذا ادّعينا عكس ذلك. وهو نفسه لم يدّع يوما أنّه
قبض على الحقيقة، وإنّما ظلّ طيلة حياته باحثا عنها في دروب التراث
وشعاب الفلسفة، وفتح إمكانات للتفكير مارس
فيه حيويّته وإبداعه وحرّيّته.
أمّا كيف نواصل عمليّة البناء، فذلك لا يتسنّى إلاّ بالتزام الأمانة
العلميّة والنزاهة عند طرح الأفكار ومناقشتها... وعندها سيكون من
الجائز أن نقول إنّ محمد عابد الجابري لم يمت.. بل ما زال بيننا حيّا
مفكّرا ومناضلا.. مبدعا.
|