بغداد، هذا الاسم الذي
دوّى عبر الأزمان، وكانت سيدة البلاد في العالم كما وصفها البلدانيون
القدامى وكانت منارة للعلم، وشمس حضارة ساطعة.. بغداد التي ملكت الدنيا
قبل ألف عام، وقصدها ملايين الناس من كل حدب وصوب، وتّسمت بعدة أسماء،
ولكنها اشتهرت كونها «مدينة السلام»، ولكن الحروب والانقسامات قضّت
حياتها، فكانت تصارع الموت مرات ومرات، ثم تعود لتجدد حياتها.
بغداد، عنوان العراق ورمز تجلياته على الدنيا، بكل ملاحمها ومدارسها..
أسواقها وعماراتها الفريدة، قبابها ومناراتها الملونة، نخيلها
وأفياؤها.. إنها اليوم تعاني الويلات والآلام..
بغداد التي تغنى بها الشعراء والمطربون، وتسامى بها العشاق والحالمون،
وعشقها الأولون والآخرون.. تعيش اليوم كآبة الأوبئة، وعهر التخلّف،
وبلادة النفايات في كل زواياها! منذ أن نهضت قبل مائة سنة، وهي تجمع
ولا تفّرق، تستجيب ولا تتحدّى، تتعاون ولا تبخل، تحب ولا تكره..
كانت تعاني من خصومها وأعدائها المنتشرين في كل حدب وصوب، وفي الداخل
والخارج، أولئك الذين يريدون النيل منها مهما كانت الأثمان.. فهم
يدركون إدراكا حقيقيا، انه بسقوط بغداد، ومحو إرادتها، وتشويه هويتها،
وكسر أنفها..
وبقيت تعاني من آثامهم.. وعاشت مأساة وكل العذابات.. سكتت عصافيرها بعد
أن كانت تغني، وهجرها أهلوها، وعاث بها
لهذا وذاك! وحوصرت حتى بانت عظامها، وعادت لتسحق ثانية، وقصفت ودمّرت،
وغدت في أيدي العابثين والساقطين والمحتلين.. أحرقت مكتباتها، وحطمت
آثارها، ودمّرت مؤسساتها.. وقضي على روحها، والإتيان بنظام سياسي
«ديمقراطي»..
أكثر من سبع سنوات مضت، وبغداد تعيش أسوأ حالاتها.. وسيسجل التاريخ ما
حلّ بها من دمار وتهجير وقسوة وفساد.. كومة أشخاص لم يعرفوا إدارة قطيع
أغنام، جعل الاميركان منهم زعماء مسكوا ببغداد وبكل العراق، فلم ينفكوا
عن السلطة، فالقوة في أيديهم، والنفوذ والمال تحت سيطرتهم!
إنهم لا تهمهم بغداد، ولا كل العراق، بقدر ما تهمهم مصالحهم
وامتيازاتهم.. إنهم رهط لم يعرفوا شيئا عن عظمة بغداد، ولا عن دورها
الحضاري عبر التاريخ.. إنهم ينكرون تاريخها وعروبتها، ويكرهون
جغرافيتها ومركزيتها.. إنهم يمقتون رموزها الحضارية، بل ويكرهون
عظماءها كراهية عمياء..
ويجزعون من أسماء شعرائها وعلمائها وفقهائها وأدبائها ومؤرخيها
ومتصوفيها.. إنهم يتهمونها بتهم البغي والفساد.. ويمقتونها عاصمة
عراقية توحّد بلاد الرافدين، فكيف يقبلونها نقطة إشعاع حضاري في
المستقبل؟
إذا كانوا لا يعترفون بها جنة على الأرض حيث الجمال، ودجلة الخير،
ورومانسية العشاق، وانفتاح المثقفين، ومنتجات المبدعين، وذاكرة الدنيا
عن ألف ليلة وليلة.. وزهو الألوان، وليالي الشواطئ.. فكيف تريدهم
ينتشلونها من محنتها اليوم، وهم يتراقصون على ضياعها وانسحاق رسومها؟!
كيف تستعيد بغداد أنفاسها من جديد وتتخلص من كل آثار التحديات المريرة
التي تواجهها؟ هل يستفيق الزعماء الجدد على ما يفعلوه بالعراق؟ هل من
وعي جديد بعظمة بغداد؟ كيف تتمكن من استعادة روحها الحضارية والثقافية
والإبداعية، وحتى الاجتماعية المسالمة؟
العالم يؤسس حكومات إلكترونية في عواصمه ومدنه.. وسياسيو بغداد،
المعمّمون وغير المعممين، ما زالوا يتصارعون على نيل السلطة وزرع
المفاسد! عواصم العالم ومدنه تتسابق بجمالياتها ونظافتها وأنظمتها
وخدماتها وأنوارها وألوانها..
والعاصمة بغداد، تتبدد ثرواتها وهي لم تزل منقسمة ومخطوفة وكئيبة
ومظلمة ومسحوقة ومهدمة ومنغلقة ومخيفة، لا تعرف إلا الدم والدخان
والأحجار والزبالة.. فمتى تشرق شمس بغداد من جديد؟ متى؟
|