بدأ تأثير الولايات المتحدة ينمو في العالم العربي منذ بداية القرن
العشرين، بعد ثورة صناعة السيارات والطائرات وبعد اكتشاف الحاجة لنفط
الجزيرة العربية عقب الحرب العالمية الأولى التي ساهمت فيها أميركا، ثم
من خلال الامتداد الأميركي الى مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي عقب
الحرب العالمية الثانية. أمّا التأثير الأميركي الفعّال في المنطقة فقد
بدأ عملياً بعد انطلاقة الحرب الباردة بين موسكو واشنطن، وتنافس
المعسكرين على وراثة النفوذ الأوروبي الذي اضمحلّ نتيجة الحرب العالمية
الثانية، وخصوصاً بعد حرب السويس وانتصار مصر عبد الناصر على العدوان
الثلاثي.
وقد كان قيام كيان إسرائيل عام 1948، وتسارع واشنطن وموسكو للاعتراف
به، هو المحطة البارزة في تاريخ العلاقة بين أميركا والبلدان العربية.
وكان الصراع العربي/الصهيوني - ولا يزال- هو المحور الاساس بمؤشّر
الصعود والهبوط في نوعية العلاقات العربية/الأميركية. وكانت حرب 1967
ذروة التصعيد الأميركي المباشر ضدّ العرب، حيث ساهمت آنذاك واشنطن في
دعم العدوان الإسرائيلي بعد أن فشلت أميركا في مرحلة ما قبل حرب 1967
في ضغوطها السياسية والاقتصادية على مصر عبد الناصر.
وكانت مرحلة الرئيس جونسون أسوأ حقبة في تاريخ العلاقات
الأميركية/العربية، ثم جاءت مرحلة الرئيس نيكسون الذي استطاع في صيف
عام 1970 من خلال "مبادرة روجرز" وقف إطلاق النار على جبهة قناة السويس
(التي شهدت على مدار سنتين حرب استنزافٍ قاسية للمحتلّين الإسرائيليين
على الضفة الشرقية للقناة).
لكن القدر لم يسمح لجمال عبد الناصر أن يعيش طويلاً وأن يحصد ثمرة
إعادة بنائه للقوات المسلحة المصرية، إضافةً إلى سياسة التضامن العربي
التي أرسى عبد الناصر قواعدها في قمّة الخرطوم عام 1967 حيث دخلت
المنطقة العربية كلّها في مرحلة جديدة من "تضامن النفط والمدفع" لأجل
تحرير الأراضي العربية المحتلة ورفض تحقيق الشروط الإسرائيلية للسلام
مع العرب.
ثم جاءت مرحلة أنور السادات فحصلت حرب عام 1973 على الأسس نفسها التي
بناها ناصر في الإطارين المصري والعربي، وجرى خوض حرب عسكرية مدعومة
بتضامنٍ عربيٍّ واسع خاصّةً من الدول العربية النفطية.
لكن لحظات التحوّل التاريخي في دور مصر بدأت بعد ذلك، حيث استثمر
السادات انتصار حرب 73 ليقبل بما لم يقبله ناصر بعد هزيمة 1967، أي
الصلح والاعتراف والمفاوضات مع إسرائيل، وبشكلٍ منفرد ومستقل عن باقي
الجبهات العربية وعن جوهر الصراع: القضية الفلسطينية. وارتضى السادات
أن يكون الانسحاب من سيناء هو الثمن لتحويل مجرى الدور المصري في
المنطقة العربية (والعالم الثالث) من موقع القيادة إلى حال "السلامة عن
طريق الانعزال"، وهي الجملة التي كان عبد الناصر يردّد في معظم خطبه
بعد حرب 1967 رفضه لها.
كان كامب دافيد ثمرة جهود كسينجر في ترسيخ سياسة (الخطوة خطوة) والتي
اقتلعت دور مصر (خطوة خطوة) منذ مفاوضات فكّ الاتباط عقب حرب 1973 إلى
حين توقيع معاهدات كامب دايفيد في العام 1978 بين مصر وإسرائيل بإشراف
العرّاب الأميركي.
أيضاً، كان الانهيار يحدث عربياً (خطوة خطوة) حول أكثر من قضية وفي
أكثر من مكان وزمان، ونجحت واشنطن وإسرائيل في خطوات "عرْبَنة
الصراعات" إضافةً إلى تقييد مصر عن ممارسة دورها العربي الريادي.
مع هذا التطوّر النوعي في المنطقة، انتقلت العلاقات العربية/الأميركية
من دور الخصومة الى دور "الشراكة"، وكانت أبرز الآمال الأميركية من هذا
الدور الجديد تشجيع الأطراف العربية على استكمال "الخطوات" التي بدأت
بين مصر وإسرائيل في "كامب دافيد"، وذلك عبر صيغة مؤتمر مدريد أولاً ثم
من خلال الاتفاقيات المنفردة كالاتفاقيات السرّية في أوسلو وما تلاها
من اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل.
ورغم ما يظهر على السطح أحيانا من تباين بين إسرائيل وأميركا، فهناك في
تقديري غايات كثيرة مشتركة بين الطرفين، وبغضّ النظر عمّن هو الحاكم في
إسرائيل أو في أميركا. وهذه المصالح والأهداف المشتركة هي:
1- إبقاء التفوّق العسكري الإسرائيلي على الدول العربية مجتمعة، والضغط
على الدول الكبرى لمنع تسليح بعض الدول العربية.
2- فرض العلاقة والتطبيع بين العرب وإسرائيل بغضّ النظر عن مستوى نجاح
عملية السلام.
3- السعي لمنع أي مقاومة مسلّحة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين (كما
كان الأمر مع لبنان).
4– التحفّظ على أي تضامن عربي شامل حتى في حدّه الأدنى (تحفظّات أميركا
على القمم العربية عموماً، وعلى التنسيق الثلاثي الذي كان قائماً بين
مصر وسوريا والسعودية، وعلى تفعيل دور الجامعة العربية)، وتشجيع
الصراعات العربية/العربية التي هي لإسرائيل مصدر قوّة، ولأميركا مبرّرٌ
لطلب المساندة منها!.
5- تعطيل التقارب والتفاعل بين العالمين العربي والإسلامي.. وبالمقابل
تعزيز الدور الإسرائيلي في دول العالم الإسلامي، وطبعاً بدعم أميركي.
وفي ظلّ هذا الواقع في العلاقات الأميركية مع دول المنطقة، هناك مصالح
أميركية مستمرّة فيها (الأمن، النفط، التجارة، تصدير السلاح) ممّا
يؤكّد بالنسبة لأميركا أهمية المنطقة استراتيجياً واقتصادياً وأمنياً
لسنواتٍ طويلة.
كذلك تدرك واشنطن أنّ سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية هو أمرٌ
يتنافس مع مصالح دول كبرى أخرى كأوروبا وروسيا، واليابان، والصين..
وهذا ما يجعل المنطقة ساحة تنافس دولي، ولو في حدوده الدنيا الآن، مح
احتمال تصاعده مستقبلاً.
أيضاً، هناك صراع على مستقبل هويّة المنطقة، فالعرب يريدونها "هويّة
عربيّة"، وأميركا تعمل للهوية "الشرق أوسطية"، وأوروبا تدعو إلى
"الهوية المتوسطية".. طبعاً، مع استمرار دعوةٍ إسرائيلية لبناء "دولة
إسرائيل الكبرى"..
وقد سقطت في حقبة التسعينات من القرن الماضي، جملة مفاهيم أو أعذار
كانت سبباً أحياناً في سوء العلاقات العربية-الأميركية. ومن هذه
المفاهيم - أو الأعذار- الأميركية التي سقطت:
1- "أنّ أميركا غير عادلة في سياستها بالمنطقة العربية، لأنّ بعض دول
المنطقة ترتبط بعلاقات خاصة مع أعداء أميركا الدوليين" (كما كان يقال
في حقبة الحرب الباردة مع السوفييت).. وقد سقط هذا المفهوم، ولم تعدّل
أميركا من مواقفها تجاه العرب.
2- "أنّ سياسة أميركا غير عادلة بسبب وجود طروحات اشتراكية وثورية"..
إلخ (كما كان في الستينات من القرن الماضي). وقد انتهت هذه الطروحات،
وأصبحت الحكومات العربية منسجمة جداً مع المعايير الاقتصادية
الأميركية.. ولم تعدّل أمريكا!!
3- "أنّ أميركا لا تستطيع العمل الجاد لحلّ الصراع العربي/الإسرائيلي
ما لم يتفاوض العرب مع إسرائيل ويعلنوا عن استعدادهم للاعتراف بوجودها
من خلال اتفاقيات صلح وسلام".. وقد حصل ذلك ولم يتغيّر عملياً الموقف
الأميركي!.
4- "أنّ أميركا تريد الاطمئنان أكثر في المجال الأمني بالمنطقة، وتريد
معاهدات ثنائية معها".. وحصلت هذه المعاهدات، وأصبح الوجود العسكري
الأميركي أمراً واقعاً ومقبولاً من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي
مروراً بمصر والأردن وفلسطين.. وما زالت رغم ذلك أميركا "غير
مطمئنّة"!؟..
|