تناولنا في الجزء الأوَّل من هذه المساهمة جانبًا من المخاطر الناجمة
عن ظاهرة تسويق "علاوي" وقائمته كمنقذين لشعب العراق. واستعرضنا خطلها
وخطورتها على قضيَّتنا الوطنيَّة وعلى ديمومة المقاومة الوطنيَّة
العراقيَّة بشكل خاص.
تجاوزت بعض التبريرات حدود ما هو مقبول وطنيًّا، حيث أبدى بعضهم
استعدادهم للتعامل مع "الأمريكان" أو حتَّى مع "الشيطان" من أجل
التصدِّي لمشروع الهيمنة الفارسي. ومع فهمنا لدوافع هذا الطرح،
وتقديرنا لقلق أصحابه من تفاقم التغلغل الإيراني وجرائم عصاباته، لا
يمكن قبول صدور مثل هكذا تصريحات عن شخصيَّات لا يرقى الشكُّ إلى صدق
انتمائهم الوطني.
اشكالية هذه الدعوات تكمن في استنادها على فرضيَّات انتقائيَّة خاطئة،
منها: ضرورة التعامل العقلاني وقبول الواقع المعاش. خطورة المشروع
الإيراني مقايسة بأخطارالمشروع الأمريكي. وضوح الأهداف الأمريكيَّة
التي يتيح شنُّها الوصول إلى ترتيبات مريحة. بالاظافة الى احتوائها على
معضلات تثير العديد من التساؤلات المشروعة التي يمكن اختزالها بالآتي:
هل يمكن الوصول حقًّا إلى اتِّفاق مع المحتلٍِّ الأمريكي من شأنه وقف
التغلغل الإيراني، ويلبَّي شروط الوطن، ويضمن مصالحه في ظلَّ التحالف
الاستراتيجي الأمريكي- الإيراني؟
وإذا افترضنا جدلاً إمكانيَّة الوصول إلى مثل هكذا اتَّفاق. ما هو
الثمن المطلوب دفعه لضمان حماية الولايات المتَّحدة للدولة العراقيَّة؟
ماذا يملك شعب العراق تقديمة ثمنًا للحماية الأمريكيَّة غير ثروتنا
النفطيَّة، وغيرالتنازل عن دعم حقوق شعبنا في فلسطين، وغيرالخنوع
لمتطلَّبات مشروع الهيمنة الأمريكي- الصهيوني؟
هل يعقل أن نكافئ محتلاًّ غازيًا قتل مئات الآلاف من أبناء شعبنا
وهجَّر الملايين، ودمَّر بلدنا وساهم في خلق المناخ الطائفي الذي
تمكَّن من خلاله النظام الإيراني من الهيمنة على مفاصل مهمَّة في
الدولة والمجتمع العراقييِّن؟
هل من المقبول وطنيًّا أن نلجأ إلى "التأميم المضاد" ونتخلَّى عن أعظم
إنجاز وطنيٍّ حقَّقه شعب العراق بقيادة حزب البعث العربي الإشتراكي؟
ثمَّ لماذا نقدِّم كلَّ هذه التنازلات إلى محتلٍّ منهزم أو "منسحب"،
بعد أن دحرت بنادق أسود العراق وصمود ماجداته وتضحياتهنَّ مشروعه
الاستحواذي التوسُّعي عبر قائمة مشبوهة؟
سنتجاوز المبرِّرات الأخرى المقدَّمة لدعم القائمة "العراقيَّة"،
ونفترض جدلاً نجاح "علاَّوي" في تشكيل حكومة الاحتلال الخامسة. هذا
الافتراض يثير أيضًا جملة من الأسئلة كان حريًّا بالَّذين دعموا
القائمة التوقُّف أمامها ودراسة أبعادها قبل تسويقها.
أوَّلاً، هل تتمكَّن القائمة العراقيَّة منفردة من تشكيل الحكومة دون
التحالف مع إحدى القوائم الموالية لإيران؟ تركيبة العمليَّة السياسيَّة
وتوزيع أصوات المنتخبين، تسمح في استبعاد مثل هذه الاحتمال، إن لم نقل
استحالته. وإذا استبعدنا جدلاً احتمال التحالف مع مجموعة المالكي،
فالخيار الوحيد المُتاح أمام قائمة علاَّوي ينحصر في التحالف مع ائتلاف
"المجلس الأعلى" وعصابات بدر؟ كيف يمكن في هذه الحالة خروج "القائمة
العلاويَّة" عن طاعة المرشد الأعلى وكبت رغباته النفطيَّة؟
ثانيًا، لنفترض جدلاً مصداقيَّة المزاعم الأمريكيَّة في الانسحاب من
العراق في نهاية عام 2011. هل يمكن لحكومة يقودها "علاَّوي " المعروف
تاريخه وارتباطاته الراهنة أن تؤمِّن استقلاليَّة القرارالسياسي
العراقي، وضمان مصالح الشعب؟
هل بإمكانها الخروج عن إرداة المحتلَّ الأمريكي إذا ما تضاربت مصالح
شعب العراق مع مصالح الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة؟
هل سيقدم إياد علاَّوي على الانتحار كما فعل القائد الوطني عبد المحسن
السعدون إذا ما فرض المحتلُّون عليه وعلى حكومته مطلبًا يتناقض مع
المصلحة الوطنيَّة؟
ماذا لو قرَّرت الحكومة العلاَّويَّة الثانية الانصياع لمطالب الإدارة
الأمريكيَّة وحلفائها والوقوف ضدَّ مصالح شعب العراق؟ الأهم من كلِّ ما
سبق، كيف ستواجه المقاومة الوطنيَّة العراقيَّة انحراف الحكومة
العلاَّويَّة مستقبلاً؟
كيف سيعالج "الوطنيُّون" الذين سوَّقوا القائمة العلاَّويَّة، وبشَّروا
بفوزها انحرافه المستقبلي الحتمي؟
قد يردُّ نفرٌ بأنَّ البنادق ستُرفع من جديد في وجه حكومة الاحتلال
الخامسة كما رُفعت من قبل في وجه حكومات الاحتلال الأربع السابقة. هذا
الطرح سليم ومقبول، لكن رفع السلاح في وجه حكومة جاءت عبر صناديق
الاقتراع بـ "مشاركة جماهيريَّة واسعة"، كما زعم بعض طهاة الوطنيَّة،
ونعتوها "عرسًا وطنيًّا وزحفًا كبيرًا"، يضع فصائل المقاومة إزاء تحدٍّ
جدِّيٍّ وخيارات صعبة، لن تكون بالسهولة المتوقَّعة، ولن تخلو من تبعات
خطرة.
أهمُّ المخاطر، يكمن في فرضيَّة إقدام إياد علاَّوي على طلب حماية
القوَّات الأمريكيَّة في حالة تعرُّض حكومته إلى مخاطر. ولا جدال في
حتميَّة تلبية الإدارة الأمريكيَّة طلب "الحكومة المنتخبة" و "حماية
الديمقراطيَّة الفتيَّة". وبالتالي تعود القوَّات الأجنبيَّة إلى
بحيرات النفط الخصبة من النافذة بعد أن خرجت من الباب، وتتحوَّل طبيعة
التواجد العسكري الأمريكي في الأراضي العراقيَّة من احتلال غير شرعيٍّ
مدانٍ دوليًّا إلى تواجد أمريكي مشروع ومدعوم دوليَّا. أي تحوُّل
الاحتلال إلى "حماية"، وهكذا يتحوَّل شعب العراق من شعب مُحتلٍّ إلى
شعب "محمٍٍ". هنا تكمن المصيبة الكبرى التي غفل عنها مسوِّقو "غودو"
العراقي. يخطئ من يعتقد أنَّ مثل هذه "السينايوهات" المحتملة بعيدة عن
حسابات مهندسي التواجد العسكري الأمريكي في العراق والمنطقة.
الانتخابات، كما أسلفنا، استحقاق أمريكيٌّ لا يمتُّ بصلة إلى تطلُّعات
شعب العراق، لا بل هي أحد أهمِّ أدوات القضاء على المقاومة العراقيَّة.
الربط بين إجراء الانتخابات وخنق المقاومة كان حاضرًا في تقارير أجهزة
الإعلام الأميريكيَّة يوم الإعلان عنها، لا سيَّما تقارير مراسلي شبكة
CNNالتي وصفت توجُّه العراقيِّين إلى صناديق الاقتراع بالردِّ على ما
وصفته بـ "المتمرِّدين".
قد تعترض جماعة على صواب هذا الطرح وتقول أن ليس من الموضوعيَّة مطالبة
المواطن العراقي مراجعة ما ذكرنا أعلاه قبل التوجُّه إلى صناديق
الاقتراع! اعتراض وجيه ومقبول. نحن لا نتوقَّع من المواطن العراقي
التبصًّر في كلِّ ما ورد قبل تحديد الجهة التي يقترع لها. مساهمتنا هذه
ليست موجَّهة إلى المواطن العرقي عامَّة، بل إلى الشخصيَّات
السياسيَّة، لا سيَّما تلك التي تدَّعي إدراك الواقع المعاش أكثرمن
غيرها. ويفترض أنَّها تدرس جميع الاحتمالات والمتغيِّرات المستقبليَّة
قبل التورُّط في نهج يضرُّ مصالحنا الوطنيَّة.
لقد أشير في أكثر من منبر ومناسبة عن ارتفاع نسبة المشاركة الواسعة في
الانتخابات الأخيرة، واعتبر البعض ارتفاع النسبة دليلا على قدرته على
تحريك الشارع العراقي والتأثير في قراراته. لن نلتفت إلى هذا الزعم، مع
إيماننا بمقاطعة نصف شعبنا لهذه لانتخابات. لكن لا مناص من طرح سؤال
أخير على المتحمِّسين لانتخابات المحتلِّ الأمريكي.
ماذا لو استثمرتم جهودكم وقدراتكم وتأثيركم في الجماهير في الاتجاه
المعاكس؟ وبدلاً من تسويق الانتخابات، ركَّزتم جهودكم على مقاطعتها؟
وماذا لو كان معدَّل نسبة المشاركة في الانتخابات 20% أو 30% في عموم
القطر؟
هذه النسب المتدنِّية، تكون بلا شكٍّ تأكيدًا لهزيمة كبيرة لعمليَّة
المحتلِّ السياسيَّة، وضربة قاسية لشعارت الديمقراطيَّة المزيَّفة،
وهزيمة لكلِّ عملاء الاحتلال وصنائعه؟ هزيمة بوسعها دفع المحتلّين إلى
التفكير في الرضوخ لمطالب شعب العراق العادلة.
أحد أخطر تبعات الانتخابات الأخيرة، يكمن في نجاح الإدارة الأمريكيَّة
في كسر الحاجز النفسي أمام المطالبة العلنيَّة للتحالف مع الولايات
المتَّحدة. فبعد أن كانت تلك الاقتراحات تُقدَّم بشكل خجول وبأسلوب
ملتوٍ، إذ بنا نسمع اقتراحات صريحةً تُطالب بضرورة التحالف مع محتلِّي
شعب العراق، ومدمِّري تجربته الوطنيَّة بذريعة التصدِّي للتوسُّع
الإيراني.
في "عرس ذبح العراق"، فاز الأعداء، ومُنيت قضيَّتنا الوطنيَّة بخسارة
جولة أخرى.
خسر شعب العراق، وفاز المحتلُّ الأمريكي لأنَّه استطاع بسهولة أن يدير
الطاولة لصالحه، ويتحوَّل من محتلٍّ غاشم باغٍ ناهب الثروة إلى "أمل
مُحتمل" للوقوف ضدَّ التغلغل الصفوي!
خسر شعب العراق، وفازالمحتلُّ الإيراني بعد نجاحه في التأثير في توجيه
الحراك السياسي في العراق لصالحه.
خسر شعب العراق، ونجح العميلان الصغيران، علاَّوي والمالكي في خلق رصيد
وطني لهما.
خسر شعب العراق، وفازت الأحزاب الانفصاليَّة الكرديَّة بعد أن نجحت في
تقديم نفسها "عامل توازن وعنصر ترجيح".
نعم، خسر شعب العراق جولة أخرى. لكنَّها جولة!
إنَّنا لعلى ثقة مطلقة بقدرة قيادة فصائل المقاومة الوطنيَّة
العراقيَّة على التعامل مع معطيات الوضع الجديد، وفي قدرتهم على النهوض
بشعبنا وتجاوزالآثار السلبيَّة لانتخابات الاستحقاق الأمريكي، وعلى
التقدُّم نحو النصر الحتمي طال أمد الاحتلال الأمريكي الفارسي أم قصر.
|