كان ميلاد البعث ضمن السياق التاريخي لتطور الحركة النضالية القومية في
المشرق العربي وخاصة في بلاد الشام، بعد أن تعرضت الحركة العربية
القومية لسلسلة من النكسات الخطيرة، بدأت أولاها مع تحطم مشروع الثورة
العربية الكبرى حين فشلت بإقامة دولة عربية مستقلة تضم الجزيرة والشام
والعراق، وثانيها الاندفاع الاستعماري الفرنسي والبريطاني لاحتلال
الشام والعراق، بعد أن تم تمزيق آسيا العربية إلى دويلات صغيرة تطبيقاً
لمعاهدة سايكس – بيكو، ثم أعقب تلك النكسات السعي الأوربي الأمريكي
المحموم بمساندة الحركة الصهيونية مادياً ومعنوياً لإقامة كيان يهودي
في فلسطين، لتكون بؤرة سرطانية مهمتها تدمير أي مشروع قومي عربي وحدوي
في تلك المنطقة، وإستمرار العرب في حال التخلف والفقر والتمزق.
وإختتمت بتحول النضال القومي الواحد إلى حركات وثورات قطرية غير
مترابطة مع بعضها البعض في مواجهة المحتل الأوربي. فنما (في تلك
المرحلة) النضال القطري على حساب النضال القومي، وكبر حجمه مع ظهور
الدعوات القطرية بألوانها السوداء الطائفية والمذهبية والعشائرية، التي
تتصادم بالضرورة مع الفكر الوحدوي والنضال القومي التحرري. فبرزت في
الثلاثينيات من القرن الماضي أحزاب وحركات قطرية فجة في طروحاتها
وممارساتها وعقليتها، حين دعت إلى تكريس القطرية، من خلال شرذمة الأمة
العربية إلى أمم، فظهرت دعوى باسم الأمة المصرية والقومية السورية
والمغربية والفرعونية والفينيقية وغيرها من المسميات، ورافق هذا الظهور
إنسحاب تدريجي للعديد من الأحزاب والحركات القومية العربية التي برزت
في بداية القرن العشرين من الحراك الشعبي في الشارع القومي، مما سمح
للبرجوازية الوطنية القطرية الناشئة أن تأخذ الدور القيادي للشارع
العربي المكبل بالاحتلال الأجنبي .
ومع بداية الحرب العالمية الثانية وأجيج نارها، والصراع الدامي بين
القوى الاستعمارية ظهرت الحاجة الجماهيرية إلى التنظيم القومي الواحد،
والذي يحمل مشروعاً نهضوياً تحررياً، ليقوم بإخراجها من واقع التجزئة
والاحتلال والتخلف الاجتماعي الاقتصادي المريع، الذي رزح على صدرها
سنين، ليقود نضالها ويحقق آمالها، بعد أن فشلت البرجوازية القطرية من
تحقيق مسألة الاستقلال، وإخراج قوات الاحتلال من البلاد العربية،
والتصدي للمشروع الصهيوني في فلسطين، الذي بدأت إشارات تحقيقه ظاهرة
للعيان، فكانت ولادة حزب البعث العربي الإشتراكي تلبية لتلك الحاجة
الماسة للجماهير العربية من جهة، ولإستمرارية النضال القومي من جهة
أخرى.
بدأت مرحلة مخاض ولادة البعث مع تصاعد الصدام بين النخب القومية
العسكرية والمدنية والشعبية وبين قوى الاستعمار وعملائه، فتفجر الصدام
في بغداد عام 1941 بثورة عسكرية شعبية قادها المربع القومي الذهبي ضد
الاستعمار البريطاني والوصي، وشكلت الثورة حكومة قومية وطنية برئاسة
رشيد عالي الكيلاني في بغداد، أعلنت الاستقلال والحرية ضد الاستعمار
البريطاني، مما كان له الصدى الواسع في الشارع العربي، تمت ترجمته
عملياً في دمشق، فأعلنت الجماهير العربية السورية تأييدها ودعمها لتلك
الثورة التحررية، وأرسلت لها دعماً مالياً وبشرياً، كما تشكل في دمشق
تنظيماً شعبياً سمي بحركة نصرة العراق، فأرسلت تلك الحركة إلى بغداد
أعداداً كبيرة من المتطوعين السوريين للدفاع عن الثورة ضد الغزو
البريطاني، وحين فشلت الثورة العراقية بفعل الغزو البريطاني العسكري
الكبير ومساندة العملاء، لم تهدأ الحركة القومية في القطر العربي
السوري بفعل هذا الفشل، ولم تتراجع الحركة القومية من الشارع السوري بل
أكدت على ضرورة النهوض القومي العربي، فولدت في دمشق عام 1942 حركة
الأحياء العربي لتقود النضال القومي نحو مشروع وحدوي قومي عربي.
إلا أن حركة الأحياء التي جاءت رداً على فشل الثورة العراقية، وولدت من
رحم حركة نصرة العراق لم تستطع أن تلبي طموحات الحركة القومية بسبب عدم
التجانس التنظيمي والطبقي، فكان من الضرورة أن تولد حركة قومية فاعلة
قادرة عقائدياً و تنظيمياً، أن تقود الحركة القومية وجماهير الوطن
العربي ؛ لتحقيق جملة من الأهداف أولها تحرير الوطن العربي من
الاستعمار والهيمنة، ومن ثم تناضل من أجل وحدته السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية والعسكرية، لتستطيع نقله من حالة التخلف والجهل
والتبعية إلى حالة الحرية والتقدم، عندها تتمكن الأمة العربية بماضيها
الحضاري وتراثها العظيم أن تأخذ مكانها الطليعي في صناعة الحضارة
الإنسانية الحالية، عندها ولدت حركة البعث منذ مطلع الأربعينيات من
القرن الماضي.
ولدت حركة البعث العربي بعد مخاض تاريخي طويل لحركة الجماهير العربية
التي تصاعدت منذ منتصف القرن التاسع عشر، كانت الحركة تبحث عن الوعاء
التنظيمي لطليعتها الثورية، الذي يقودها نحو أهدافها القومية المشروعة.
لهذا نرى أن البيان الأول لحركة البعث الصادر في 24 تموز 1943 الذي
ترجم شخصية حركة البعث وسماتها وضرورات ولادتها عبر عن فقالماهية تلك
الطليعة: (
- نمثل الروح العربية ضد الشيوعية المادية.
- نمثل التاريخ العربي الحيّ ضد الرجعية الميتة والتقدم المصطنع.
- نمثل القومية العربية التامة المعبرة عن حاصل الشخصية.
- ضد القومية اللفظية التي لا تتعدى اللسان، ويناقضها مجموع السلوك.
- نمثل رسالة العروبة ضد حرفة السياسة.
- نمثل الجيل العربي الجديد. )
بهذه الكلمات الرائعة عبرت حركة البعث في الأيام الأولى لولادتها عن
رؤية معرفية لتاريخ الأمة وحاضرها ومستقبلها، وبأنها جاءت لتمثل الروح
العربية، التي تجلت في رسالتها الخالدة إلى شعوب العالم التي تشكلت عبر
آلاف السنين، و تبنت في مضامينها تطلعات الإنسان نحو المساواة والعدل
والإنصاف، ورفض الظلم والاستبداد والاستعباد، وقدمت للإنسانية حضارات
مدنية مايزال العالم ينهل من ثمارها إلى يومنا هذا، بدء من الأبجدية
إلى الرياضيات والفلسفة والعلوم إلى الديانات الثلاث التي ظهرت على
أرضها.
إن هذه الحركة التي ارتكزت إيديولوجيتها على الروح والمادة حتى تتكامل
الرؤية المستقبلية للإنسان العربي الجديد الذي سيساهم في صناعة حضارة
العالم الجديد، التي رأى بأنها يجب أن تقوم على هذا الثنائي، حتى لا
يكون إنساناً مادياً متوحشاً يدمر العلاقات الإنسانية كلها من أجل
مصالحه المادية فقط. ولا روحياً مطلقاً انعزالياً يرفض الناتج المادي
الذي ينمو لخدمة الإنسان ورفاهيته.
وأعلنت الحركة أنها جاءت وفق سياق التاريخ العربي المتحرك الحيّ
المرتكز على الأصالة، والمنطلق نحو الحداثة، وأنها تعبر بصدق عن طروحها
وأهدافها من خلال سلوكها اليومي والتنظيمي النضالي، بعيداً عن
الانتهازية السياسية الدعائية، التي تطرح شعارات جميلة، وتمارس في
سلوكها الفساد والتجزئة والقطرية وتكرس الجهل والتخلف والتبعية.
وعبرت حركة البعث عن نفسها بأنها حركة نضالية جماهيرية تغييرية ساعية
لنهضة الأمة العربية، لا تحترف السياسة التي تتميز بالمراوغة والتلاعب
على الألفاظ ومشاعر الناس، بل هي حركة صادقة مع نفسها وأهدافها ومع
جماهير أمتها، وهي الطليعة النضالية المتقدمة في معارك الأمة لتحقيق
مشروعها القومي النهضوي العقلاني الحضاري. لهذا فهي التي تمثل الجيل
العربي الناهض لبناء مستقبل أمتها يليق بمكانتها التاريخية الحضارية.
وبعد أربع سنوات على هذا البيان عُقد المؤتمر التأسيسي لحزب البعث
العربي وأقر دستوراً ترجم تلك الأهداف التي أعلنت في تموز 1943م من
خلال المبادئ الأساسية الثلاث للحزب :
- وحدة الأمة العربية وحريتها، وبحق هذه الأمة الطبيعي أن تضمها دولة
واحدة ،لأنها تشكل وحدة جغرافية سياسية ثقافية.
- شخصية الأمة العربية : وأن هذه الأمة لها شخصية تتميز بها عن بقية
الأمم بأنها تبدع وتنهض مع حريتها. لهذا رأت تمازجاً داخل الشخصية
العربية بين الحرية والإبداع، وأن لديها حرية الاعتقاد والكلمة والفن
والاجتماع مقدسة.
- رسالة الأمة العربية : بأنها إنسانية تسعى للسلام والمساواة والحرية
والإخاء والتعاون الدولي وحماية البشرية من الدمار والحروب وتسابق
التسلح. فرفضت الظلم والاستبداد والقهر والديكتاتورية، ورأت في النظام
الاستعماري جريمة تناضل الأمة ضده، وتساند الأمم كلها الواقعة تحت نير
الاستعمار من أجل أن تنال حريتها.
وترجم البعث المبادئ الأساسية عملياً في ساحات النضال في الوطن العربي،
حين قدم على أرضه دماء مناضليه، ففي السودان لقد قدم العديد من الشهداء
ومنهم ( الشهيد محمد سليمان الخليفة عبدالله التعايشي ) عضو القيادة
القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي 1991م قدم 28 ضابطاً من
كوادره في صفوف قوات الشعب المسلحة من أجل وحدة بلادهم شعباً وأرضاً
والحرية والعدالة الإجتماعية وغيرهم من الشهداء الكثير، وتصادم حزبنا
(حزب البعث العربي الإشتراكي) مع القوى الرجعية والتجزئة والصهيونية
والاستعمار وأذنابه ومناصريه، فكان البعثيون وقود الحرية في سورية
والعراق والأردن ولبنان والسودان والجزيرة العربية واليمن، وما زالوا
إلى يومنا هذا يقدمون التضحيات في العديد من الساحات سواءً كان في بلاد
الرافدين أو فلسطين وغيرهم من الأقطار. لهذا نرى الجنون الأمريكي
والحقد الصهيوني ضد البعث العربي الاشتراكي، فأعلنوا بعد احتلالهم
للعراق ما يسمى بقانون اجتثاث البعث ظناً منهم أنهم ينهون هذه الحركة
القومية، ثم أعلنوا الحصار ضده في بعض الأقطار التي لهم علاقة مع
حكامها العملاء .
وهكذا تبقى منارة البعث عالية، يحرق ضوئها كل قوى الشر والبغي
والعدوان، وتنير الطريق للأجيال العربية لتحقيق أهدافها في الوحدة
والحرية والاشتراكية. ومن أجل بناء وطن عربي واحد يأخذ مكانه في صدارة
الأمم المتحضرة.
|