منذ بدأت المفاوضات المباشرة وغير المباشرة بين أطراف عربية ومنها
الطرف الفلسطيني والكيان الصهيوني، والقدس مادة دائمة الحضور على طاولة
المفاوضات وفي سلة الاقتراحات المتبادلة، ونظراً للتعقيد المحيط
بوضعها، كان ير حل النقاش والتفاوض بشأنها، إلى أن أدرجت تحت بند الحل
النهائي.
والقدس منذ وقعت فلسطين تحت الاحتلال عام سنة 1948، خطط العدو لأن تكون
عاصمة للكيان الصهيوني، لكن هذا الكيان لم يعتمدها عاصمة واقعية وسياسة
له إلا بعد احتلالها كاملة عام سنة 1967. وحتى هذه اللحظة، ورغم
الاعتراف الدولي "بإسرائيل" إلا أن هذا الاعتراف لم يرتق إلى مستوى
الاعتراف بالقدس عاصمة لها.
لقد بقيت مقرات البعثات الدبلوماسية مقيمة في تل أبيب / ولم تنجح
محاولات الضغط والتأثير الصهيوني بنقل هذه المقرات إلى القدس. وقد
اختبر الضغط المتقابل بين العرب "وإسرائيل" يوم حاولت بعض الدول
الغربية بنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس بداية الثمانينيات إلا أن
هذه المحاولات سرعان ما جرى التراجع عنها بعد اللقاء الثنائي بين الملك
فهد والرئيس صدام حسين، والبيان الصادر عنهما الذي هددا به بأن كل دولة
تعترف بالقدس عاصمة "لإسرائيل" وتنقل بعثتها الدبلوماسية إليها ستكون
عرضة لعقاب عربي، مدخله شهر سلاح النفط بوجه هذه الدول.
وبالفعل تراجعت كل الدول التي حاولت اقتناص نتائج الحرب على لبنان سنة
1982، واستمرت الأمور على حالها، وطيلة هذه الفترة لم تهدأ "إسرائيل"
عن اغراق القدس وكل الأراضي المحتلة بالمستوطنات على قاعدة القضم
والهضم، ووصل الأمر مؤخراً لأن تصبح الدائرة العربية غير المصهينة في
القدس محاصرة بحزام من المستوطنات، واندفع هذا الضغط الاستيطاني للوصول
إلى حافة العتبات المقدسة من إسلامية ومسيحية، من ضمن خطة واضحة ترمي
إلى إحداث تغيير بنيوي في خارطة القدس الديموغرافية.
إن القدس بالنسبة للعرب مسيحيين ومسلمين ويهود غير صهاينة هي أكثر من
بقعة جغرافية، أنها ذات رمزية دينية وتاريخية وقومية، وبالتالي فأنها
بدلالاتها الشاملة تجسد اختصاراً مكثفاً للقضية الفلسطينية، بما هي
قضية تحرير وتوحيد احقية تاريخية وحقوق الإنسان. وبالتالي فإن فلسطين
بدون القدس لا تكون فلسطين بمدلول الموقع و الانتماء والتاريخ.
إن القدس هي أولى القبلتين وفيها ثالث الحرمين، وعلى أرضها سار المسيح
طريق الجلجلة، وبواباتها عديدة منها، بوابة دمشق وبوابة بغداد، وبوابة
المغاربة، وتسمية هذه البوابات باسم حواضر الحضارة العربية، هي اثبات
على أنها كانت فضلاً عن كونها قبلة دينية، فإنها في الوقت نفسه كانت
قبلة قومية، لأن البوابات سميت باسم كل العابرين اليها من كل أصقاع
العرب وعلى هذا الأساس كانت القدس واحدة من الحواضر العربية الحاضنة
للوجدان العربي وللذاكرة الجمعية العربية. وان تختصر قضية القدس برقعة
جغرافية ففي هذا تشويه لتاريخها ولدورها ولرمزيتها التاريخية، وبالتالي
فكما أن الكيان الصهيوني يريد أن يخرج القدس من دائرة السجال السياسي
والتفاوض حول وضعها المرحلي والنهائي، فعلى العرب أن يكونوا سباقين
لإخراجها من دائرة هذا السجال لأن في هذا تنازل عن موقعها ذي الرمزية
الخاصة.
إن نتنياهو وفي غمرة السجال السياسي مع الولايات المتحدة واللجنة
الرباعية والمفاوضين العرب، حول المستوطنات، قال ان القدس ليس مستوطنة.
بل هي عاصمة أبدية "إسرائيل" ونحن من جهتنا نتفق مع نتنياهو حول الشق
الاول من كلامه بان القدس ليست مستوطنة ، لكن نناقضه حول الشق الثاني،
إذ أن القدس ليست عاصمة لإسرائيل بل هي عاصمة فلسطين، فلسطين العربية،
فلسطين التعايش بين مختلف الأديان وحتى يرد على الشق الثاني من كلام
نتيناهو بأن القدس هي عاصمة "لإسرائيل" ويثبت الشق الثاني لما هي القدس
بنظرنا، أي عاصمة فلسطين، يجب إعلان موقف، يتجاوز "الحرد" من التفاوض
اللامتوازن، ويتجاوز الجعجعة الكلامية، إلى موقف، يقارب أولاً موقف
لقاء صدام – فهد، قبل حوالي ثلاثين سنة، ويقارب ثانياً، الأمانة لدماء
الشهداء والتضحيات الجسيمة التي بذلت على أرض فلسطين ولأجلها، ويقارب
ثالثاً، العودة إلى البدايات النضالية، على قاعدة أن فلسطين لن يحررها
إلا الكفاح الشعبي بأشكاله المختلفة، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا
بالقوة، وما تتعرض له القدس وكل الأراضي المحتلة اليوم كافٍ لإطلاق
جولة جديدة من انتفاضة الداخل يواكبه احتضان عربي على قاعدة ان فلسطين
كانت وستبقى قضية العرب المركزية بتحريرها تتحقق نهضتهم وبإغتصابها
يغتصب القرار العربي ويسقط التاريخ العربي المشرق.
|