المؤامرة على الأمة والإسلام حقيقة أم أوهام ، دراسة علمية تاريخية لمؤامرة التشيع الفارسي |
|||||||
﴿ الجزء السادس ﴾ |
|||||||
شبكة المنصور | |||||||
حــديـد الـعــربي | |||||||
الفصل الثالث من فصول المؤامرة
تتقاتل ألسن وأقلام لدعاة الفكر والتنظير والسياسة كل يوم حول مفهوم المؤامرة، فريقان؛ هذا يراها حقيقة واقعة وذاك يراها خرافة مفتعلة، هذا يقول بنظرية المؤامرة، وذاك يفندها وينفيها من أساسها ويسفه القائلين بها حتى يتهمهم بالعمالة والجاسوسية، وإن تكرّم وتخلق وصمهم بالطابور الخامس مروجي فقه المؤامرات، بحسن أو بسوء نية، فيما يكيل الآخر تهم التحجر والتخلف والعجز وضحالة التفكير وقصر الوعي. وقد يكونوا كلهم كذلك أو قريبا منه، فكل منهم يريد لوي عنق الحقيقة والتاريخ ليستجيبا قسرا أو طوعا لمفردات وعيه ويسبحا في بركة قدرته.
فريقٌ يرى فيها سبباً كلياً لمحن الأمة وعثراتها ولا يرى لغيرها أثرا، وفريق يوعز محنتها إلى تراجع أبنائها عن التمسك بالإسلام كمنهج حياة، أو يرى في الجهل و التخلف الاجتماعي والاقتصادي أُسّ البلاء، ولا يرى للمؤامرة وجود.
بين هذا وذاك وفي خضم ضجيجهما غُيِّب وتلاشى صوت فريق يرى الأمور على حقيقتها، لا على ما تفرضه رغباته ونوازعه وضروراته، فصار هدفا لهجوم كلا الفريقين المختصمين.
فالمؤامرة موجودة، حقيقة وليست خرافة أو محض خيال، حيكت حبائل سداها يوم أُخرج آدم وزوجه من الجنة، وكان الحائك إبليس، حاكها بمهارة الفرس في حياكتهم للسجاد، ولم ولن تُحاك مؤامرة إلا وكانت مهارة الشيطان ومكره فيها، لكن الذي لم يهتد إليه الفريقان المختصمان أن المؤامرات كما في أولاها لم تكن هي السبب الوحيد لما ينتج عنها، إنما هي عامل من ضمن عدة عوامل تؤدي بتعاضدها جميعاً إلى تحقيق نتيجة متوخاة، فآدم وحواء كانا طرفا آخر في معادلة المؤامرة، لأن الفعل بلا ردة فعل لا يأخذ مداه كاملا كناتج يترك أثاره في الواقع، وإلا لما وقع عليهما عقاب الله تعالى وأُخْرِجَا من الجنة كما طُرِد الشيطان، والله تعالى يقول: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }(1) فلو لم تلق مؤامرة إبليس من آدم وحواء استجابة وتفاعل لما حقق شيئا من أهداف مؤامرته، لكن شيئا فيهما أصغى وضعف فحققا لإبليس هدفه بأن نفذا ما أراد بهما من سوء بيديهما، هذه هي الحقيقة الغائبة عن فكر هؤلاء وهؤلاء ولم يهتدوا لشيء منها لقصورٍ في الرؤية.
وقد قلنا أن أفعى المؤامرة برؤوس أربعة، ثلاثة منها كانت من خارج كيان الأمة بعروبتها، فما كان بمقدورها أن تحقق شيئا من أهدافها النهائية إلا بوجود رأس الأفعى الرابع، فكان لا بد من ربط شرايينه بالعرب أنفسهم والذين تشكلوا من وعاء جاهليتهم، كما كان اثنان منها خارج عن كيان الأمة بإسلامها، وما كان بمقدورهما تحقيق شيء من أهدافهما النهائية إلا بوجود رأس الأفعى الثالث، فكان لا بدَّ من مجوس الفرس، يسهل الأمر أنهم يشتركون معهما في أسباب العداء للعرب واستهدافهم، فيما يكون عاملا في سياق المؤامرة من داخل الجسد الإسلامي وليس من خارجه، وإلا فإن أي شيء يحاك من قبل الصليبية والصهيونية لن تلتحم في سداه لُحمة المسلمين إن لم يكن بيدٍ تُعَدُّ مسلمة، بمعنى آخر أن هذين الرأسين تكلما بلسان عربي وإسلامي يُصغى له ولا يُستنكر، وهذه من حقائق التاريخ المكتسبة لدرجة الثبات، فالقلاع المحكمة حينما تتوفر فيها سبل المقاومة ودوافعها، تسندها متطلبات المطاولة لأمد محسوب، لا تتيح للمهاجمين اجتياحها مهما ملكوا من سبل القوة والإقدام ودوافع الاجتياح، فالحاجة إذن قائمة لمن هو بين صفوف المدافعين فيما هي قائمة أيضا على وجود من هو بين الممسكين بأقفال الأبواب ومفاتحها، فبابل حينما استجمعت قدرات التحصن داخل قلعتها استعصت على قوة وهمجية من تآمر على كيانها رغم كل وسائل وسبل القوة التي امتلكها الغزاة الأخمينيين، حتى تحقق لهم ما استكمل أسباب مؤامرتهم، بوجود يهود السبي البابلي داخل هذا الكيان المحكم. فتحقق ما لم يكن ليتحقق بدونهم وفتحت أبواب بابل لكورش الفارسي واستبيحت فضاعت ثمار حضارتها بعد تدمير كيانها عام 539 ق.م، وهي مدة كانت كافية لاكتمال تشكيل الرؤوس الأربعة بخلفياتها التاريخية. وقد تكررت هذه الحادثة بصيغة أفضل عام 1258م حينما اجتاحت الرؤوس الأربعة بغداد عاصمة الحضارة العربية الإسلامية من داخلها ومن خارجها، وإن كانت مسافة الزمن أطول، فلكل ظرف متطلباته.
كان رأس الردَّة قد بدأ بالتشكل حال وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه كان يُواجَه بصلابة وصرامة حتى السنوات الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، كما بينا في الفصل السابق.
ولعلنا نجد في الشاعر حنظله الكاتب الذي شهد تفاصيل الإعداد لتنفيذ تلك الفتنة فولى هاربا عائداً بأدراجه صوب الكوفة وهو ينشد أبيات شعره الشهيرة خير وصف لهولها الذي اعتصر فؤاده:
عَجِبْتُ لِمَا يَخُوضُ النَّاسُ فيهِ يَروُمُونَ الخِلاَفَةَ أَنْ تَزُولاَ وَلَوْ زَالَتْ لَزَالَ الخَيْرُ عَنْهُمْ وَلاَقَوْا بَعْدَهَا ذُلاًّ ذَلِيْلاَ وَكَانُوا كاليَهُودِ والنَصَّاَرَى سَواءً كُلُّهُمْ ضَلُّوا السَّبِيْلاَ
فقد كانت فتنة مقتل الخليفة الثالث وبروز القوى التي كانت قد تشكلت كأدوات لتنفيذها إيذانا ببدء هذه الأفعى التي اتخذت من العروبة جلدا لرأسها الرابع لتنفث سمومها في جسد الأمة، في وقت متزامن مع الرأس الثالث الذي اتخذ من الإسلام جلدا له لتكتمل مسيرة التخريب من الداخل، فالإمام علي بن أبي طالب عليه السلام صار خليفة للمسلمين، وهو العقبة التي كانت ستعود بالحال كما كان أيام الخليفتين الأولين، يتصدى للجاهلية أن تأخذ العقول والغرائز خارج نطاق الروح المؤمنة، ولهذا بدأ التعويق لمسيرته منذ اليوم الأول لخلافته، بل منذ اللحظة التي فرضت عليهم الإمام عليّ كخليفة للمسلمين، فعجلوا بحركة الفتن ووسعوا من مساحاتها لينشغل الخليفة الجديد عن أداء واجبه المرتجى في التصدي للردة من جانب فيما يشغله ذلك عن مواصلة الزحف نحو أوكار الشرّ والكفر، خاصة وأن الباب قد فُتح على مصراعيه أمام العرب المسلمين بمعركتي اليرموك والقادسية، فالقوتين الأكبر والأخطر حينها كانتا قد منيتا بهزيمتين منكرتين، يصعب عليهما استعادة الأنفاس في وقت قريب. فكان من بين أهم ما يسروا افتعاله لأجل ذلك هو بروز ظاهرة الخلاف والخروج على ولي الأمر، بما يشكل تهديدا خطيرا للأمة في أهم أسباب قوتها ويطعنها في مقاتلها، تلك هي وحدتها، وبما يساعد على تحقيق ما بيناه آنفا، فأبرزوا التشيع وسيلة لتعزيز الفرقة وتعميقها بعد أن وجدوا فيه أساساً وأرضية يمكن تشكيلها بأي صيغة شاؤوا، وتوجيهه بأي اتجاه أرادوا، فهذه شيعة لعلي وتلك شيعة لمعاوية وأخرى لأصحاب الجمل ورابعة للمعتزلين وشيعة أخرى للخوارج، ومشاريع تشيعٍ أخرى جاهزة عند الطلب إن احتاجوا، ورؤوس الأفعى يسري سمها في الجسد خفيا دافئا لا يُرى من مسيره إلا الألم، فكان واقعاً حلّ بالقوم كالصاعقة حتى أعمى أعين الناس أن ترى من أين أُخذوا وممن أُخذوا وفي أي مكان لُدغوا، فما أغنتهم وقاية ولا مناعة شيئا، فقد تحزّب الإسلام وانتقل إليه المرض الذي سبق له أن نفاه عن واقع العرب.
وما غيَّر الله تعالى ما كان بهم من نعمة حتى زلَّت أقدامهم فغيروا هم وبدَّلوا، لأنَّ قانون الله تعالى سارٍ فيهم وفي غيرهم إلى يوم الدين:{ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}(2) وما كان السوء الذي حاق بهم إلا من ثمار تخليهم عن نِعمٍ من أنعُم الله، ولن ينالوا خيرها حتى يعودوا ويرجعوا ويستمسكوا بها، والله غالب على أمره.
غزتهم الدنيا بمفاتنها بعد أن زينتها رؤوس الأفعى وعرَّتها أمام غرائزهم لتتمرد على الروح، فتهالك من تهالك عليها وما يدري أن فيها هلاكه وإهلاك أمته من بعده، نبشت في طيات عقولهم وخبايا أنفسهم كل مطمور فأنَّقته وجمَّلته وبرَّزته. ولعل عودة إلى الوراء ستعطينا صورة واضحة لما جرى في المقدمات، فمن حديث دار بين أب وابنه نستشف بعضا من فتنة الدنيا هذه، يرويه لنا خليفة المسلمين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، الرجل الذي أطلَّ على التاريخ في زمن كان فيه غريبا وعلى أهله ثقيلا، يقول: " وكان أبي إذا خطب فنال من عليٍّ رضي الله عنه تلجلج قلت: يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً قال: أو فطنت لذلك؟ قلت: نعم فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون مِنْ عليّ ما نعلم تفرقوا عنَّا إلى أولاده"(3) فما الذي منع على هؤلاء العودة إلى حق علموه إلا أن تكون الدنيا، كما أرادت لها الأفعى أن تكون، وليس كما أراد الله تعالى وأمر، وتلك واحدة من نتائج تمرد العقل والغرائز على الروح، لكن لِم هي الدنيا هكذا؟ أليست هي مضمار الحياة الممتحنة؟ بلا هي كذلك، لكنها أيضا هي المضمار الذي يجري فيه الشيطان ليُضِلَّ من أمكنه من نفسه، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ}(4) وهذا عدل الامتحان، فقد أمسك المُمْتَحَن بما جاءه من الحقّ وله الخيار فيما يختار، وهو يعلم أن الشيطان قد اتخذ منه هدفا لمكره وضلاله، {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً * قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً}(5) ولم يجعل الله تعالى حائلا بين الشيطان وبين تحقيق ما يبغي ويريد إلا من اتبع الحقَّ الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، فبلغه للناس أجمعين وبينه لهم، بَشَّرَهُم وأنذرهم وتركهم على أحسن صُوَرِه، فقد قال تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً}(6) وقد سُرَّ الشيطان بهذا لأنه جرَّب المكر والحيلة مع آدم وحواء فحقق مبتغاه كما ورد في قول الله تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى}(7).
فلننقب بآثار حادثةٍ زمانها نهايات الدولة الأموية، في عام 126ه، ففيها واحدة من الصورة الواضحة الجلية لأثر سموم الأفعى في الجسد الذي انتابه مرض الفرقة والخلاف وأهواء الدنيا بعيدا عن الحق الذي كان، في هذه السنة ثار يزيد بن الوليد بن عبد الملك على الخليفة وولي أمر العرب والمسلمين الوليد بن يزيد بن عبد الملك - وتشابه الأسماء هنا فيه من دواعي الدنيا وفعل العقل المنفلت من سطوة الروح كثير من المعاني، فهي نفاقٌ لصاحب الاسم الأول بقصد لا يتجاوز الدنيا ومصالحها، فالاسم الذي غاب قبل توفر مصلحته لم يتكرر إلا ما ندر، وإن كان هو الآخر بقصد مصلحة بحقٍ ضاع - فقتله، والداعي الظاهر لهذا هو أفعال الخليفة المقتول التي كانت تتسم بشراهة الإقبال على الدنيا ومفاتنها، وتولى يزيد الخلافة ونهض بأعبائها، بدأها بخطبة قال فيها: " لكم عليَّ أن لا أضع حجر على حجر ولا لبنة ولا أكتري نهرا ولا أُكثر مالاً ولا أعطيه زوجة وولداً ولا أنقل مالاً عن بلدٍ حتى أسدّ ثغره وخصاصة أهله بما يغنيهم فما فضل نقلته إلى البلد الذي يليه، ولا أجمركم في ثغوركم فأفتنكم، ولا أغلق بابي دونكم، ولا أحمل على أهل جزيتكم، ولكن أعطياتكم كل سنة وأرزاقكم في كل شهر حتى يكون أقصاكم كأدناكم، فإن وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن الوزارة، وإن لم أَفِ فلكم أن تخلعوني إلا أن أتوب، وإن علمتم أحداً ممن يُعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه مثل ما أعطيكم وأردتم أن تبايعون فأنا أول من يبايعه، أيها الناس لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "(8) المتمعن جيدا ببصيرته في مفردات الخطبة هذه، وهي خطبة بيعة مُلك على أهميتها، تقتضي عادة أن يكون سامعيها كثير، والحافظين لمفرداتها أكثر، فهي ليست كأي خطبة، وفوق هذا فقد قيلت في واقع معاش وليس تاريخا يمكن تزييفه، فإنه سيجد صورة حقيقية تعبر عن جوانب مهمة من ذلك الواقع المرير، وتُلفت الأنظار إلى ما لم يتجرأ على قوله مؤرخ، خاصة وأنَّ مفرداتها ليست مما يعتاد قوله في هكذا موقف إلا ما كان يتعلق بالولاية في آخر الخطبة، فهي إذن صورةٍ لواقع وليست شروطاً يضعها مكلَّف على نفسه، بل هي في حقيقتها خرجت لتبرر أسباب الجرأة على القتيل، وأي قتيل! خليفة المسلمين وابن عم القاتل.
فكم حجر وُضِعَ على غير إرادة الله والحق؟ وكم قصر باذخ بُني؟ وكم خطيئة أُجيزت كجزء من متطلبات القصور وفخامتها؟ وكم جاع بسببها من الرعية؟ وكم هم الذين أرهقتهم الجزية والغرامة حتى كرهوا العرب والمسلمين ولعنوا أيامهم؟.
وكم من نهرٍ أثقل شقه وكريه من كاهل الرعية، وهو من سياق خطبته يفيد أنه كان لغير مصالح الرعية يُكرى، فالنهر إذن لأهل الأمر وليس للمأمورين، وإلا بما كانت تُزين القصور وبم يتنعم أهلها؟ بل وإلى أي شيء سيدفع بهم المتربصون؟
ثم صورة أخرى للفساد الذي كان قد استشرى، تلك هي استحواذ من لا يستحق بشرع الله لما أّخَذ أو أُعْطِى، فقد انتُهكت حرمة بيت المال الذي كان للمسلمين كلٌّ حسب حقه واستحقاقه، فصار قسمة ضيزى وفريسة للحاكمين والمتنفذين والممسكين بقوائم المُلك، لا يتلقى منها الرعية إلا فتاتها، هذا البيت الذي كانت الشملة البالية لو خرجت منه بغير حقها تشتعل بصاحبها في النار ولو كان قتيلا في سبيل الله، فهل بإمكاننا أن نقيس المسافة بين نقطة الانطلاق وهذه النقطة التي نقف عليها والتي لا تبعد عنها سوى قرن واحد من الزمن؟
استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه وتولى أمر المسلمين، فاشتهت زوجته حلواً، لكنه ليس لديه ما يشتري به الحلو، فاجتهدت المرأة تستفضل من نفقتهم كل يوم شيئاً تدخره ليشتروا بثمنه الحلو بعد اجتماعه " فاجتمع لها في أيام كثيرة شيء يسير، فلما عَرَّفته ذلك ليشتري به حلواً أخذه فردَّه إلى بيت المال، وقال: هذا يفضل عن قوتنا، وأسقط من نفقته بمقدار ما نقصت كلَّ يوم وغَرِمَه لبيت المال من مِلْكٍ كان له"(9) ولما حضره الموت قال لابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما: " أما إنَّا منذ وُلينا أمر المسلمين لم نأكل لهم ديناراً ولا درهماً، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم، ولبسنا من خشن ثيابهم، وليس عندنا من فيء المسلمين إلا هذا العبد، وهذا البعير، وهذه القطيفة فإذا مِتُّ فابعثي بالجميع إلى عمر" فلما مات بعثت بهم إلى عمر فقال عبد الرحمن بن عوف: " سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدا وناضحاً وسحق قطيفة ثمنها خمسة دراهم! فلو أمرت بردها عليهم، فقال: لا والذي بعث محمد صلى الله عليه وسلم لا يكون هذا في ولايتي ولا يخرج أبو بكر منه وأتقلده أنا"(10).
ثم جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان شديد الحرص على تتبع أثر الخُطى، وهو الذي شُوهِدَ يطوف بالكعبة خلال خلافته عليه إزار فيه إحدى وعشرون رقعة فيها أّدِم، ثم يسمو بحرصه حتى كان يقول: " لئن عشتُ إن شاء الله لأسيرنَّ في الرعية حَولاً فإني أعلم أن للناس حوائج تُقطع دوني، أمّا عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إليَّ فأسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنعم الحول هذا"(11) ومن عدله أنه إذا منع الناس عن شيء بدأ بأهله وتوعدهم بضعف العقاب لمن يأتيه منهم، ومن فطنته وحرصه رغم صراعه مع ألام الطعنات وغمرات الموت كان يوصي أهل الشورى مع علمه ويقينه بصلاحهم وتُقاهم وعدلهم بقوله: " أنشدك الله يا عليّ إن وليتَ من أمور الناس شيئاً أن لا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس أن لا تحمل بني أبي مُعَيْط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن لا تحمل أقاربك على رقاب الناس..."(12).
وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه يكتب إلى الأمصار حين شبَّت الفتنة وأينعت: " فإني آخذ عُمالي بموافاتي كل موسم، وقد رفع إليّ أهل المدينة أنّ أقواماً يُشْتَمون ويُضْرَبُون، فمن ادَّعى شيئاً مِنْ ذلك فليوافِ الموسم يأخذ حقه حيثُ كان مني أو مِنْ عمالي، أو تَصَدَّقُوا فإنَّ الله يجزي المتصدقين"(13).
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يروي هارون عن أبيه عنترة أنه قال:" دخلتُ على عليّ بن أبي طالب بالخورنق وعليه قطيفة وهو يُرْعِدُ من البرد، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قد جعل لكَ ولأهل بيتك نصيباً من المال، وأنت تفعل بنفسك هذا؟ فقال إني والله لا أَرْزَأُ من مالِكُم شَيئاً، وهذه القطيفةُ هي التي خرجتُ بها من بيتي"(14).
وذلك هو الجهاد الأكبر، فعن جابر رضي الله عنه قال: قدم النبي الله صلى الله عليه وسلم من غزاة له فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم"قدمتم خير مقدم وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قالوا وما الجهاد الأكبر يارسول الله قال: " مجاهدة العبد هواه"(15) فتطويع العقل والغرائز لفطرة الروح إذن هو الجهاد الأكبر وليس الانتصار على الأعداء، فقدرة الانتصار على الأعداء هي بعض من قدرات جهاد النفس والانتصار على أهوائها.
والإمام علي وإن كان رمزاً ومثلاً للشجاعة والعلم ورجل حربٍ من الطراز الأول لكنه، وكما قال له ابن عباس، لم يعد يتقن إدارة حربٍ تغيرت متطلباتها وتبدلت ثوابتها وزُيفت شرائعها بما استحدثته بوادر الانحراف، فعادت بها قريبا من جاهليتها، خاصة وأنه لا يختزن في تجربته العملية شيئا من تجارب الحرب بأعرافها الجاهلية لأنه نشأ في ضلِّ الإسلام، وذلك ليس مردّه قصور في شخصية الإمام علي أو حاجة به لخبرة مطلقاً، بل هي المفردات التي استجدت على أخلاقيات الحرب ومستلزماتها التي لا تطاوعه نفسه الطاهرة على إتيانها لأنها دخيلة عليها، فالحرب خدعة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه المتحوط على دينه كان يأبى أن يمارسها ضد من يوحد الله ويؤدي فرائض الإسلام وإن جنحت به الدنيا، فما كان ليحسب لدنياه حساباً، وهو من أزهد الزاهدين فيها، ومن فرط إيمانه وتقواه، وليست الخدعة من أسباب الظفر في الحرب فحسب، فحتى المال صار في تلك الأيام طرفاً هاماً وحاسماً، خاصة في زمن خلافته بعد أن بدأت بذور الردة بالنمو، وقد أنبتت من قبل، فكان في منهجه رضي الله عنه غير مناسب لزمن خلافته الذي استجدت فيه أمور لم تكن في زمن الخليفتين الأول والثاني لتحدث، فقد كان الحرص على أوجه صرف الأموال شديداً وقاسيا، فما كان الخليفة الأول ليمنع فدك عن ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لا ذلك الحرص الشديد على تطبيق سنة أبيها بعيداً عن العواطف والتأثير، لكن هذا الحرص قد تبدد في السنين الأخيرة من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأن الأفعى أمسكت عليه كل السبل ووسائل الإصلاح، فصارت تُقطع الأموال للأمراء وقادة الجيوش والحاشية أمام أنظار الناس، وهم أيضا تحفزت في كثيرٍ منهم الدنيا فما رَغِبوا عنها، ولنا في عبدالله بن سعد بن أبي سرح والأقاويل التي حيكت عن خُمس أفريقيا مثلا، فابن أبي سرح لم يكن أحد أهم أسباب إنبات الأرض المصرية لفتنة ابن سبأ اليهودي فحسب، بل كان أحد أسباب النقمة الناجمة عن فتنة من فُتن بالدنيا. وذلك كان بسبب التهاون في إخضاع القادة والأمراء لشروط الاختيار القاسية التي كانت عليها قبل خلافة ابن عفان، فابن أبي سرح كان من المنفيين عن المدينة النبوية لأنه ارتد وعاود الكفر حتى عهد ابن عفان، لم يكتف بإعادته بل ولاه أمر مصر وأفريقيا، والدولة فيها آنذاك المئات ممن هو أفضل وأكفأ وأكمل إيماناً منه.
فكان الإمام عليّ أمام امتحان عسير حقا، بين أن يعطي من آخرته لدنياه فيكسب جولتها، وبين أن يتمسك بآخرته فتجفو عنه دنياه ويفوز بأخراه، وقد اختار فأحسن الاختيار، رغم أن مغاليق الفتن والمحن التي واجهت خلافته كلها كانت في يده لو أراد، فلو أقرَّ معاوية بن أبي سفيان على الشام كما أشار عليه المغيرة بن شعبه وبذل بيت المال للطامعين بما فيه ومسايسة المعارضين والمفسدين لأخمدها كلها، لكنه كما قلنا كان يرى الموت أهون عليه من أن يعطي من دينه شيئا لدنياهم ولو كان يسيرا، فقد أيقن أن ما يمكن أن يعطيه سيكون غذاءً للفتنة ودافعاً للمزيد من التفريط والغلو في آنٍ معا.
وهذا ما أرادت له رؤوس الأفعى أن يكون، فهي كانت خلف التمهيد لتلك الأرضية التي وقف المسلمون عليها عام 35ه، إن لم تكن هي التي اختطت مسيرها، لأنها من جانب ما كانت لتسمح للدولة أن تعود إلى حيث كانت تقف قبل ثلاثة أيام من غياب شمس عام 23ه، وهي التي بذلت في سبيل ما آلت إليه الأحوال الكثير الكثير، من جانب آخر كانت تضع في حساباتها على الدوام أن لا يكون آل بيت النبي سوى ذريعة تبرر ظاهر معارضتهم وليس تولية أحدهم من أمر المسلمين شيئا، وحيث إن الإمام عليّ قد وُلِّيَ أمر المسلمين وسيشرع بتصحيح المسار لا محال لو أمكنه ذلك، فكان لا بد من تأجيج الفتن التي حِيكت دسائسها مسبقاً، كي تمنع عليه أي محاولة للعودة إلى حيث كانت الأمة سليمة معافاة من أمراضٍ استجدت فاستشرت في جسدها.
فانظر ماذا فعلوا به وهم في ظاهرهم شيعة له وليسوا شيعة لغيره، واستغلوا فكرة التشيع له أبشع استغلال لينفرط عقد الأمة بمقتل الخليفة عثمان بن عفان، أهل الكوفة عاصمة خلافته ومن اجتمع إليهم، لقد فعلوا به الأفاعيل وخالفوه حتى أخذ المُصْحَف فوضعه على رأسه، ثم قال: " اللهم إنهم مَنَعوني ما فيه، فأَعْطِني ما فيه. ثم قال: اللهم إني ملَلْتُهم ومَلُّوني وأبْغَضْتُهم وأبْغَضوني، وحمَلوني على غيرِ طبيعتي وخُلُقي وأخْلاقٍ لم تَكُنْ تُعْرَفُ لي، اللهم فأَبدِلني بهم خيراً منهم وأبدلهم بي شرّاً مني..."(16).
وليس في ذلك مبالغة أو خيال، فما كان يُدري المغيرة بن شعبة أن معاوية بن أبي سفيان سيتمرد على الخليفة الجديد، حينما ربط خلافة عليّ بإقراره لمعاوية على عهده وعلى ما في يديه خلال المشورة والنصيحة التي قدمها للخليفة الجديد، ولم يكن حينها قد ظهر ما يشير لخلاف معاوية، ثم لِم اختار معاوية دون سواه من عمال الأمصار الأخرى؟ أليس في هذا ما يشير بوضوح تام إلى أنه كان يعلم بما سيحدث ولا يتوقع، فحتى الذين ثاروا بالخليفة وقتلوه كانت أهواؤهم منقسمة بين عليّ والزبير وطلحة ولم يكونوا كلهم يرغبون بولاية عليّ، فالكوفة كان هواها للزبير والبصرة كان مرادها طلحة ومصر كانت لعليَّ، وإن كان هذا أيضا في أخذهم الناس بالفرقة وصياغة وعيهم وسلوكهم باتجاه ما يعززها من صُلب أهداف المؤامرة كما بينا.
وقد آن لنا أن نشير إلى ملاحظات هامة تحوم شبهاتها حول المغيرة بن شعبة تعزز ما سبق ذكره بما فيها قيام غلامه الفارسي أبو لؤلؤة باغتيال الخليفة عمر بن الخطاب:
فقد كان للمغيرة صلة بالثقافة الفارسية، يتكلم شيئاً من لغتهم، لذا فقد اتخذ منه الخليفة عمر بن الخطاب مترجما بينه وبين الهرمزان حينما بعث به القائد العربي سعد بن أبي وقاص أسيرا عام 17ه(17).
اتهمه الصحابي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بالنفاق لما وجد فيه من هوى الفتنة يوم الشورى مستهل عام 24ه(18).
أشار على الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حين توليه بالإبقاء على عمال الخليفة السابق، ولما رفض علي ذلك اقترح عليه استثناء معاوية من العزل فأبى، ثم عاد إليه مرة أخرى فنصحه بنصيحة مغايرة أراد منها غشه فيها بقصد الفتنة، فكان يقول: " نصحته فلما لم يقبل غششته"(19)، مع إن أغلب المؤرخين يدعون أن المغيرة لم يبايع لعلي، فكيف يذهب إليه أكثر من مرة ليشير عليه وهو لم يبايع له.
في عام 40ه حج بالناس وافتعل كتاباً على لسان معاوية بن أبي سفيان ولتفادي اكتشاف أمره قدم مناسك الحج يوما(20).
فأيُّ مسالك وعرة هذه التي وُضِعت عليها أقدام هذا الرجل وأمثاله بإرادتهم أو دون علمٍ منهم، وأي قوى خفية هذه التي كانت تنسج خيوط الفتنة بلُحْمَةٍ ليست من سُداها؟
أما الأشعث بن قيس فإنَّ الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يعبر عن ندمه حين وفاته أن لم يقف الموقف اللائق حين ارتد وجيء به أسيراً، فقال"فوددت أني يوم أتِيت بالأشعثِ بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنه تخيَّل إلي أنه لا يرى شرّاً إلا أعان عليه"(21) وقد فعل هو وأولاده من بعده، فقد خاضوا في كل الفتن.
وعبدالله بن سعد بن أبي سرح الذي هاجر و أسلم ثم ارتد فكفر بعد نعمة الإسلام، فأنزل الله تعالى فيه:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(22)فكان أحد الذين استثناهم الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة من الأمان وأمر بقتلهم وإن وجد أحدهم متعلقاً بأستار الكعبة، وهم ثمانية رجال وأربع نساء، وقد كان يقول لقريش: "إني أكتب أحرف محمدٍ في قرآنه حيث شئت ودينكم خير من دينه فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة فغيبه عثمان حتى اطمأن الناس ثم أحضره عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب له الأمان فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلًا ثم آمنه فأسلم وعاد فلما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لقد صمتُّ ليقتله أحدكم. فقال أحدهم: هلا أومأت إلينا فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة إن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين"(23) وحين تولى عثمان الخلافة أقره على مصر خلفا لعمرو بن العاص، فكانت المأوى لإبن سبأ ومنها أخرج فتنته والمؤامرة التي أرادت الإطاحة بالدولة فكان اغتيال ابن عفان.
والإصرار هنا على تسميتها مؤامرة فلأن الأطراف التي اجتمعت على عداء العرب المسلمين والكيد بهم لا يجمعهم رابط سوى هذا، أطراف خارجية وأخرى داخلية تآزرت على الإطاحة بكيان الأمة، فبِمَ نسميها إن لم تكن مؤامرة؟
ثم لِمَ هرب عبيد الله بن عمر بن الخطاب من المدينة بعد مقتل عثمان وتولي عليّ؟ هل حقاً كان يخشى الخليفة الجديد على نفسه أن يقتص منه فيُقتل بدم ثلاثة رجال قتلهم إثر اغتيال أحدهم لأبيه الخليفة؟ وهم فيروز أبو لؤلؤة قاتل أبيه أو منفذ عملية الاغتيال أو أداتها، ومن كانا يجلسان معه قبل يوم الاغتيال وبيد أحدهما الخنجر الغريب المسموم الذي طُعِنَ به الخليفة، وهما الهرمزان الفارسي الذي أُسِرَ فأسلم مجبرا وجفينة النصراني، مع إن الخليفة الجديد غير قادر على الاقتصاص من قتلة من هو أهم من هؤلاء الثلاثة الذين أدى ديتهم الخليفة المقتول حين توليه الخلافة، فالاقتصاص من قتلة خليفة المسلمين وولي أمرهم والذي كان من بين الذائدين عنه الخليفة الجديد وابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما أوجب بكثير من كل الوجوه، لكنهم يملكون أمره ولا يملك ما يدفعهم به، فقد فرقوا عنه حتى من يُعَوِّل عليهم أن يكونوا عونه وسنده، وهم بقية الشورى، وقد تبين ذلك جليا من جوابه عليه السلام على طلب طلحة والزبير بإقامة الحدود على قتلة عثمان بن عفان بقوله: "...كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم وهم خلاصكم، يسومونكم ما شاؤوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيءٍ مما تريدون؟ قالوا: لا قال: فلا والله أرى إلا رأياً ترونه أبداً، إن هذا الأمر أمر جاهلية، وان لهؤلاء القوم مادة وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض آخذ بها أبدا"(24).
لكن الحقيقة التي لم يسترشد لها أحد أن هروب عبيد الله بن عمر إلى الشام كان سببه معرفته بانتصار إرادة رؤوس الأفعى الفرس واليهود والنصارى وأهل الردة من العرب على مقدرات الأمة بنجاح مؤامرتهم بقتل الخليفة عثمان، وليس خوفاً من الإمام عليّ عليه السلام، فحريٌّ به متابعة أمر هؤلاء وتقصي حقيقتهم ومتابعة نشاطاتهم في مسار فتنتهم الذي امتدَّ أعواماً وليس أيام لأنهم موتورين منه، يطلبون به ثأرهم، وبخاصة الفرس فمن بين قتلاهم أحد زعماء إمبراطوريتهم الفارسية المهزومة توا، فهو إذن أقدر من غيره وأحرص على قراءة الواقع الجديد واستيعاب تفاصيله فكان هروبه. وهناك شيء أخر، لِمَ اختار عبيدالله الشام ومعاوية دون سواهما؟ أليس في هذا ما يشير إلى أن الشام قد حُسِم أمرها باتجاه الخلاف قبل هذا الزمن بما يكفي ليعلم به الخائف على حياته من الثأر، فالشام وإن لم تكن مع ابن سبأ في غزوته على العرب والإسلام بداية دعوته، فقد كان عليها أن تكون أداة في تنفيذ مراحل مخططهم اللاحقة شاءت أم أبت، وقد كانت. وهذا يؤكد أيضاً أن ابن سبأ لم يكن سوى أداة تحركها جهات مختلفة.
فما الذي حدث بعد خطبة الخليفة الجديد يزيد بن الوليد بن عبد الملك؟ أمر عجيب وأعجب من أمر الخليفتين القاتل والمقتول، فقد انتقضَّت ولايات الدولة ومدنها ضدّ الخليفة الجديد هذا على ما أعطى من نفسه وعليها وما اشترط بما تستقيم له الدنيا وتُحرز الآخرة لو صدق فأوفى وطابق عمله كلمات خطبته، فقد وثب سليمان بن هشام في عمان، وثارت حمص بعد الحداد على الخليفة المقتول وجيشوا الجيوش وولوا عليهم أبو محمد السفياني، ووثب أهل فلسطين وولوا عليهم يزيد بن سليمان بن عبد الملك وأجابوه لحرب الخليفة الجديد، وثار أهل الأردن وولوا عليهم محمد بن عبد الملك، وثار أهل اليمامة وولوا عليهم المهير بن سلمى بن هلال، واشتدت القلاقل في العراق، ودب الخلاف في خراسان، ثم أعقب كل هؤلاء مروان بن محمد فثار هو الآخر يريد رأس الخليفة الجديد.
فهل كانت كل هذه غضبة لمقتل خليفة متهم بشرب الخمر والغناء والتجاوز على حقوق الرعية أم ماذا؟ فالذي يرتضي من ولي أمره ما ارتضوه من الوليد بن يزيد لا يدفعهم ولا يحفزهم أمر الله لكل هذا، ومن فرَّط بكل موجبات القتل لا يحرص على الاقتصاص من قاتل، لكن السبب الأساس والدافع كان التخريب المنظم والممنهج الذي قادته رؤوس الأفعى بالخفاء والسر والعلن، اتخذوا من حرص البعض على الدنيا وسيلة وسببا ظاهرا، فقد آن لفعلهم أن يأتي ببعض ثماره، بما بذلوا للعقل والغرائز من وقت طويل، أغروها ودربوها وحصنوها من عودة الروح لسطوتها عليها، حتى كانت الأسباب التي قُتل بموجبها الخليفة الوليد بن يزيد صورة مُثلى لما أرادوا وخططوا، فالدنيا التي استحوذت عليها الغرائز والعقل وجفتها الروح كانت قد أوصلت هذا الخليفة المقتول إلى ما وصل إليه حتى غلب عليه، حتى ذمه الشعراء وفضحوا أمره:
أنت سكران ما تُفيق فما تر تق فتقاً وقد فتقتَ فتوقا
وكيف يُفيق وقد سلبه هوى الدنيا من دنياه وآخرته، وهو الذي " أُشتهر عنه أنه فتح المصحف فخرج { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}فألقاه ورماه بالسهام وقال:
تهددني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيد إذا ما جئت يوم حشر فقل يارب مزقني الوليد" (25)
على إن هذا السلوك لم يكن شاذا أو خارجاً عن المسار الذي اختطته الأفعى لمن أرادت لهم السير فيه، فلا يستبعد أن يكون خالد بن عبد الله القسري الذي قُتل في عام 126ه بعد مقتل الخليفة الوليد ممن ساهموا في صياغة مفردات سلوك وحياة هذا الخليفة، فقد عمل للخلفاء الأمويين خمس عشرة سنة، وأمه نصرانية ولم تُسلم، ومن فرط تأثير ثقافتها النصرانية فيه ابتنى لها بيعة، ومما كان منه قوله: " إن الخليفة هشاما أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم"(26) مستندا في ذلك إلى عقله الذي أخرجوه من فطرته وسطوة الروح عليه، فكان يرى أن خليفة الرجل في أهله أفضل من رسوله في حاجته، كما لا يخرج عن ذلك المسار استلهام الشاعر الفارسي أبو نؤاس لمفردات ودلائل شعر هذا الخليفة في الخمر والغناء والنساء حتى أفسد فيه خلقا وجندهم في مسار الأفعى اللعينة، ولا يخرج أيضاً عنه حتى من هم أعلى مرتبة وأوفر علما ضمن منطق الردة هذا، فقد ذُكر الوليد بن يزيد في مجلس الخليفة العباسي المهدي فقال: " كان زنديقاً فقام أبو علاثة الفقيه فقال: يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل أعدل من أن يولي خلافة النبوة وأمر الأمة زنديقا لقد أخبرني من كان يشهد في ملاعبه وشربه عنه بمروءة في طهارته وصلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المطائب المصبغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ويُؤتى بثياب نظاف بيض فيلبسها ويصلي فيها فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب فلبسها واشتغل بشربه ولهوه..."(27) كل هذا وهو يُحسن الوضوء، فهل يُرتجى ممن يفرّط بحق ربه أن يصون حقوق عباده؟ وذلك هو الذي صير الناس لما هم فيه، فالتفريط يبدأ من حيث بدأ لكنه لا يتوقف عند نقطة بدايته مطلقا، فهو فتق يستطيل رويداً رويدا حتى يأتي على نهايته فيفصل بين الطرفين إن لم يُرتق من نقطة بدايته، وهي أوهن ما فيه، ولولا ذلك لما انفتقت. ودلائل الفتق كثيرة، فالخليفة المقتول ما كان يهمه من الثلاثين ألف مسلم الذين يسومهم الولاة والعمال على دفع الجزية وهي ليست فيهم إنما على من لم يُسلم، حتى عادوا للكفر أو كادوا بسبب هذا الظلم والجور، لكنه كان مهتما بتحصيل الأموال بأي سبيل لحفظ الملك ومتطلبات الدنيا، وكان مما قرره زيادة العطاء عشرة دراهم، لكن الخليفة الجديد على ما اشترط على نفسه ألغاها وأعاد العطاء إلى أصله، فنبّت الدنيا وغرائزها فثارت به الرعية وألصقوا باسمه (الناقص) حتى يومنا هذا، وما دام حكمه إلا ستة أشهر وأيام، ولم يكن لأحد من الذين تمردوا عليه سببٌ ودافع إلا الدنيا وإنقاص العطاء، وما علمنا أن أحدا من المؤرخين والباحثين المنصفين استنكر هذا أو رد عنه النقص بأسبابه لا بتزكية نفسه، وقد يكون السبب باعث نفسي بما أصاب العرب من خبث الفرس وعداوتهم، فأم يزيد بن الوليد بن عبد الملك ( الناقص) هي شاه فرند بنت فيروز بن يزدجرد بن شهريار بن كسرى، أو لأنه أتُهم بالقدرية.
فالمال الذي تجاسر عليه الولاة والعمال بعد اغتيال عمر بن الخطاب وتصرفوا فيه على غير وجوه صرفه وإنفاقه المشروعة كان احد أهم أسباب نجاح الأفعى في مسعاها، إن لم نقل كان السبب الحقيقي لفتنة قتل الخليفة عثمان بن عفان حينما اتخذت الحاشية الدنيوية لها موقعا فاستبدت بخزائنه حتى أفقدت الناس بعض حقوقهم مما جعلهم فريسة سهلة بأفواه الأفعى بكل رؤوسها حيث قادتهم إلى ما أقدموا عليه، وفتحوا أبواب الشرِّ كلها على العرب والإسلام معاً.
إذا كانت تلك بعضٌ من سموم الرأس الجاهلي، فما بالك بسموم الرأس الفارسي المجوسي؟ وما الذي أغرى الفرس لأن يندفعوا كل هذا الاندفاع في عدائهم وبغضهم وحقدهم على العرب المسلمين ويصطفوا مع النصارى واليهود ويجندوا من العرب من استجلبه هواهم وغواية الشيطان، مع إن العرب ما جلبوا لهم إلا شريعة رب العالمين بعدلها وإنصافها وخيرها.
عند اكتمال فتح بلاد فارس وانهيار مُلْكِهم عام 16ه، لم يكن بمستطاعهم أن يجاهروا بعداء العرب والإسلام حيث كانت الجيوش التي فتحت تلك البلاد عربية خالصة وقادتها عرب أيضا حتى عام 133ه. كما لم تكن مؤامرة التشيع قد أُنجزت تفاصيلها كاملة آنذاك، فما كان بمقدور القائمين على هذا التشيع الدخيل المجاهرة على نطاق واسع وخارج دائرة التآمر بأمور كبيرة وخطيرة وآل البيت وعدد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم التابعين أحياء، كالقول بتحريف القرآن الكريم والنص والوصية وتكفير الصحابة وغيرها. ولذلك فقد اعتمدوا في بادئ أمرهم على حركة الخوارج بشكل أساس، وجعلوا من مواطنهم مأوى وملاذ لهم، ولا يستبعد أن يكون الخوارج فصيلاًً من فصائل المؤامرة على العرب والإسلام، وفي مقدمتهم من اتخذوا من التشيع ستارا وقناعا لتمرير مؤامراتهم، للأسباب التالية:
إنهم كانوا في أصلهم ممن شايع الإمام علي أو ادعى مشايعته، وجردوا سيوفهم للقتال إلى جانبه في واقعتي الجمل وصفين.
هم ممن تحمس للتحكيم تمريرا لخدعة عمرو بن العاص التي أنجد بها جيش معاوية الموشك على الهزيمة برفع المصاحف على الرماح وطلب الاحتكام إلى كتاب الله.
بعد قبول الإمام علي بالتحكيم مرغما نتيجة إلحاحهم بدلوا مواقفهم ورفضوه ثم رفضوا نتائجه، ووضعوا أمام الصلح الذي أراده أمير المؤمنين عليّ وعودتهم إليه عقبة لا يمكن للإمام تجاوزها مهما كانت النتائج، ذلك أنهم وصموه بالكفر ولكي يعودوا لصفه عليه أن يُقِرَّ بكفره ثم يتوب منه.
كان من أهم أهداف المتشيعين للإمام علي وآل بيته أن لا يتولى أحد منهم أمر المسلمين كي لا تبطل دعواهم ومعارضتهم. لذلك كان الخوارج من أكثر الأخطار على خلافة الإمام علي ومن أشدها تعويقا لمسيرته.
بعض ممارسات الخوارج كانت تشير إلى أنهم لا يمكن أن يكونوا إلا جزءاً من نطاق التآمر، فقد كانوا يقتلون المسلمين ويبيحون قتل أطفالهم ونسائهم، فيما يحرمون قتل اليهودي والنصراني والمجوسي. ففي مناظرة للخليفة عمر بن عبد العزيز مع الخوارج قال: "فاتقوا الله فإنكم جُهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قَبِل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أَمِنَ عنده، فإنكم يخاف عندكم من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وكان، من فعل ذلك عند رسول الله آمنا وحقن دمه وماله وأنتم تقتلونه، ويأمن عندكم سائر أهل الأديان فتُحَرِّمون دماءهم وأموالهم"(28).
كما إن خروجهم في ذلك الظرف العصيب الذي أشارت بوادره بوضوح إلى إمكانية تمزيق شمل الأمة بعد أن تُسلب وحدتها التي كانت فيما مضى مصدرا لقوتها، بل القاعدة الأساس التي حققتها رسالة المصطفى فحرروا بفضلها أرض العرب وراحوا يطاردون فلول الظلام والضلال خارجها.
تلطفهم بالمجوس والنصارى واليهود رغم تكفيرهم للمسلم بذنب واحد، فلأجل كذبة واحدة يستحلون قتله، فيما كانوا يمنعون أخذ الجزية من المجوس، كما ورد عن ابن حزم، حيث يقول " ولا يرون أخذ الجزية من المجوس... ويقولون أن أهل النار في النار في لذة ونعيم"(29).
تقاسم الشيعة والخوارج العداء للخلفاء الراشدين، فالشيعة تكفر الأول والثاني والخوارج تكفر الثالث والرابع، كما اشتركوا معهم باعتماد اسلوب القتل غيلة وغدرا.
ومما يتشابهون به أيضا اختصار الشيعة للصلاة فيجمعون الظهر بالعصر والمغرب بالعشاء ويستبدلون القرآن بالدعاء في صلاتهم، فيما ذهب بعض الخوارج إلى مثل هذا " فقالوا إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط وآخرون استحلوا نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات بني الإخوة وبنات بني الأخوات وقالوا إن سورة يوسف ليست من القرآن"(30)وذلك مما يقربهم كثيراً من المجوس واليهود وقبل ذلك إلى التشيع الفارسي.
وقد ترادف التمرد في بلاد فارس على الدولة العربية الإسلامية مع بروز مظاهر جديدة للانحراف، كان من بينها إشعال الفتن بين العرب أنفسهم ممن كانوا في الجيش الإسلامي الفاتح، منها ما وقع في عام 106ه بين القبائل المضرية واليمنية من حروب طاحنة، كنتيجة لما أذكته بين صفوفهم رؤوس الأفعى وخاصة الفرس المجوس من عادات الجاهلية المقيتة وبما فتحوه عليهم من أبواب الدنيا وملذاتها، كما ساهمت أحوال بعض الأمراء والعمال وقادة الجيش من خلال سلوكهم وتعاملهم مع الرعية في البلدان المفتوحة في خلق فجوات بين العرب والإسلام من جهة وبين شعوب هذه البلدان من جهة أخرى، مما اضعف حماسها للإسلام والعرب وأجج مشاعرها بالحيف والعسف، فتراجع حماسهم للتخلي عن ثقافاتهم الاجتماعية وأرصدتهم الحضارية لصالح الإسلام وحكم العرب.
ذلك أن بعضاً من القادة والعمال والأمراء نهجوا منهج الدنيا التي اشرأبت بأعناقها مع مرحلة الحكم الأموي، فلم ينهجوا نهج الأمراء والعمال الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم من بعده، وإن كانت فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه والظروف التي أحاطت بالدولة وعصفت بكيانها بعد تلك الحادثة قد فرضت عدداً من هؤلاء القادة والأمراء ممن تجردت نفوسهم للدنيا وأهوائها بفعل التآمر وشدة وطأته، وما أتاحت لهم من التحلل من بعض قيود الشريعة وثوابتها، فيما كان عدد منهم في الأصل من رواد الفتنة وأدواتها، فلم يكن بعضهم لينقل إلى البلاد المفتوحة سوى بعضٍ من فرائض الإسلام وشجاعة العرب، فتحولوا من منهج الدعوة إلى دين الله بقيمه وعدله وإنصافه إلى جباية الأموال بشتى الوسائل والأساليب، وما رافق هذا من جور وقع على الناس من قبل بعض العمال، وبخاصة بلاد فارس وما جاورها مما ترك أثراً وعزز سببا في نشوء روح التمرد بين صفوف أبناء هذه البلدان، والتي سعت أطراف التآمر لاستغلالها وتهويلها، مما صيّر هذه الشعوب ملاذاً لكل من أراد التمرد على هذه الدولة وهذا الدين أو أراد بهما سوء، وذلك أحد أهم أسباب نشوء كل الحركات الهدامة والشاذة، على إن روح التمرد اتخذت مشروعيتها المزيفة أصلاً من أحداث التمرد على الخليفة الثالث ومقتله وما تلاها على الإمام علي عليه السلام، فقد كان أغلب العمال والأمراء وقادة الجيوش فيما بعد ممن شارك في عمليات التمرد المتلاحقة تلك أو عايشها فتأثر بها.
بالإضافة إلى أن العهد الأموي شهد تغلغلاً للنصارى في مواقع الدولة وأعمالها، فقد اتخذ الخليفة معاوية بن أبي سفيان إحدى الأسر المسيحية ليعهد إليها بالإدارة المالية في الدولة الأموية ظلت تتوارثها مدة من الزمن، اشتهر منها المؤرخ المسيحي يوحنا الدمشقي، كما عهد إلى طبيبه المسيحي ابن آثال جباية خراج حمص، كما اشتهر في بلاطهم الشاعر الأخطل(31). فيما دفع جور بعض الولاة وظلمهم وبخاصة الحجَّاج بن يوسف الثقفي أهل العراق لأن يكونوا مأوى لكل صاحب سوء وأرضهم مرتع لكل فتنة ودسيسة.
هكذا تآزرت الهفوات والأخطاء والأطماع فأفزعت الشعوب المفتوحة وأصابتها بالخيبة نتيجة سلوك هؤلاء العمال، يهوِّله ويضخِّم من حجمه رواد التمرد والردَّة، ولم تكن خلافة عمر بن عبد العزيز لقصر مدتها بقادرة على إعادة العمال إلى المسار الصحيح، فهو كما قال إياس بن معاوية بن قرة: "ما شبهت عمر بن عبد العزيز إلاَّ برجل صناع. حسن الصنعة، ليس له أداة يعمل بها، يعني لا يجد من يعينه"(32). وفي جوابٍ لسالم بن عبد الله بن عمر على كتابٍ ورده من الخليفة عمر بن عبد العزيز يتضح لنا حجم الردة وأثرها على العرب والمسلمين، يقول فيه: "...فإنك قد وليت أمراً عظيماً ليس يلي عليك أحد دون الله عز وجل، إن استطعت أن لا تخسر نفسك وأهلك يوم القيامة فافعل، فإنه قد كان قبلك رجال عملوا ما عملوا، وأحيوا ما أحيوا، وأتوا ما أتوا، حتى ولد في ذلك رجال، ونشأوا فيه، وظنوا أنها السنة، فسدوا على الناس أبواب الرخاء، فلم يسدوا منها باباً إلا فتح عليهم باب بلاء، فإن استطعت - ولا قوة إلا بالله - أن تفتح على الناس أبواب الرخاء، فافعل، فإنك لن تفتح منها باباً إلاَّ سدَّ الله الكريم عنك باب بلاء، ولا يمنعك من نزع عامل أن تقول: لا أجد من يكفيني عمله؟ فإنك إذا كنت تنزع لله، وتستعمل لله، أتاح الله لك أعواناً فأتاك بهم...فمن بعثت من عمالك إلى العراق فانهه نهياً شديداً شبيهاً بالعقوبة عن أخذ الأموال وسفك الدماء إلا بحقها.المال المال، ياعمر! والدم..."(33) كما تحولت بلاد فارس وما وراء النهر وكأنها المغنم الذي تهالك عليه العمال والقادة، مما أنفر الكثير عن الإسلام معتقدين أنه هو الدافع لسلوك هؤلاء النفر المنحرف إلى الدنيا وملذاتها.
فعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان بصيرا بالداء وعنده الهمة على الدواء، يعلم أن اختلاف أمته ليس في ربها تعالى ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم ولا في كتابها القرآن الكريم "...وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم"(34) حقا لقد كان ابن عبد العزيز خبير أمته والعالم بحالها، ففي ثلاث كلمات لا غير اختصر محنة الأمة وشخَّص دائها ودوائها في آن معاً، فكل مفردات الانحراف التي سبقته زمنياً والتي جرّد سيفه لحربها والتي تراكمت بعده حتى يومنا هذا كانت لا تتعدى الدينار والدرهم، وإلا لما كان بإمكان اليهود والنصارى والمجوس أن ينالوا منها شيئاً لو لم يكن عشاق الدينار والدرهم لهم عوناً وسنداً وأداة تنفيذ، فحتى غزو العراق عام 2003م ما كان ليحقق أهدافه وأغراضه، بل وما كان القائمون عليه ليفعلوا لولا هؤلاء العشاق من العرب المسلمين وأدوارهم، رضي الله تعالى عن أبي حفص الذي صرخ صرخته المجلجلة فما التفت إليه ولا عاد إليه أحد من أهل الدنيا عبيد الدينار والدرهم، وما أَجْدَته وديان دموعه إشفاقا على أمته لعلها تستفيق من غفلتها، فما فعلت، والله تعالى : {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}(35) فلنتعقب ما فعله منذ أول ساعات ولايته لنستدل منها على أثر الدينار والدرهم بعد زمن لم يبعد كثيراً عن عصر الخلفاء الراشدين، نستلها من بعض مواقفه التي تعطينا صورة جلية عن ذلك الواقع، كما وردت في سيرته التي وثقها الحافظ ابن الجوزي 510-597ه بكتابه" سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد":
- لما دفن عمرُ بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك ، "وخرج من قبره، سمع للأرض هدة، أو رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين. قربت إليك لتركبها.فقال: مالي ولها، نحُّوها عني، قربوا إليَّ بغلتي". فهذا مظهر للانحراف كان قد استجد مع الدولة الأموية تأثراً بالروم والفرس.
- جاء صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة، فقال: "تنحَّ عنِّي، مالي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين". وذاك مظهر أخر يشير إليه الخليفة الزاهد.
- دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع إليه الناس فقال: "أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين. وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين". وهو بذلك كان يحاول تصحيح أخطر الانحرافات بالعودة إلى الشورى.
- دفع عنه عشاق الدنيا بغير حقها فقال:"إني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً". وهذه إشارة واضحة لانحرافٍ آخر.
- أمر الرعية بأن تمارس دورها وواجبها في الرقابة:"أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله، فلا طاعة لي عليكم".
- أمر بالستور فهُتِكت، والثياب التي كانت تُبسط للخلفاء، فحُمِِلت، وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين. وهذه إشارة أخرى لانحرافٍ آخر.
- ثم توجه لينام قليلا، فأتاه ابنه عبد الملك فقال:" يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أي بني، أقيل. قال: تقيل ولا ترد المظالم؟ فقال: أي بني، إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان، فإذا صليت الظهر رددت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: أدن مني أي بني. فدنا منه، فالتزمه وقبّل بين عينيه، وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني.فخرج ولم يَقِلْ، وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها. فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان وفي يد أهل بيته من المظالم إلاَّ ردها مظلمة مظلمة". فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية، يطالب بأرضه التي اغتصبها منه العباس بن الوليد بن عبد الملك فردها عليه. وذلك كان دليلاً أكيداً على الانحراف عن جوهر العقيدة ونظام حكمها.
- وصعد يوما على المنبر فقال: أيها الناس إني أنساكم هاهنا، وأذكركم في بلادكم، فمن أصابته مظلمة من عامله فلا إذن له عليَّ، ومن لا، فَلاَ أرينَّه، وإني والله إن منعت نفسي وأهل بيتي هذا المال وضننت به عنكم، إني إذن لضنين، ولولا أن أنعش سنّة، أو أعمل بحق، ما أحببت أن أعيش فواقاً.
- خرج في جنازة، فأتي ببُرد كان يلقى للخلفاء يقعدون عليه إذا خرجوا إلى جنازة، فألقي له فضربه برجله، ثم قعد على الأرض. وهو يصحح لسلوكٍ كان قد انحرف.
- سمع الناس في منزل الخليفة بكاء عالياً، فسُئل عن البكاء، فقيل " خيَّر أمير المؤمنين امرأته بين أن تقيم في منزلها - وأعلمها أنه قد شُغِل عن النساء بما في عنقه - وبين أن تلحق بمنزل أبيها، فبكت، فبكى جواريها لبكائها". وذلك هو القدوة والنموذج المشع برز بعد كم من الانحرافات الخطيرة.
- غُلت فيه الغرائز وسُجنت يوم توليه الخلافة، فكما قالت زوجته فاطمة بنت عبد الملك: "ما أعلم أنه اغتسل من جنابة، ولا من احتلام، منذ استخلفه الله إلى أن قبضه".
- لما ولي الخلافة جاءه الناس، فلم رأوه لا يعطيهم إلاَّ ما يعطي العامة، تفرقوا عنه، ثم قرَّب إليه العلماء الذين ارتضاهم. وذلك من أسباب الحصانة والحماية الحقة من الزلل والشطط، وليست الحواشي العسكرية المدججة بالأسلحة.
- أتى رجل من أهل أذربيجان عمر بن عبد العزيز، فقام بين يديه، يشكوه عامل أذربيجان الذي عدا عليه فأخذ منه اثنا عشر ألف درهم فجعلها في بيت مال المسلمين، فقال عمر: اكتبوا له الساعة، إلى عاملها حتى يرده إليه. تصحيح أخر لانحراف عمق الفجوة بين العرب وعقيدتهم وبين الأقوام التي كانت أحوج ما تكون لشريعتهم وعدلهم لتغير واقعها المريض، لكن العمال الذين انحرفوا لدنياهم كانوا كمستعبدي تلك الشعوب في حبهم للمال فذهب العدل بأطماعهم.
- كان من تحسبه وأمانته أن حدد حجم الكتاب الذي يرسله العمال إليه بكف ونهاهم عن المدِّ في الخط، اقتصادا بالورق والمداد.
- كتب إلى عامله عدي بن أرطأة يقول: " أما بعد فإني كتبت إليك بكتب كثيرة أرجو بذلك الخير من الله تعالى، والثواب عليه، وأنهاك فيها عن أمور الحجاج بن يوسف، وأرغب عنها وعن اقتدائك بها، فإن الحجاج كان بلاء وافق خطيئة قوم بأعمالهم، فبلغ الله، عز وجل، في مدته ما أحب من ذلك، ثم انقطع ذلك وأقبلت عافية الله، عز وجل، فلو لم يكن ذلك إلا يوما واحدا، أو جمعة واحدة، كان ذلك عطاء من الله، عز وجل، ونهيتك عن فعله في الصلاة، فإنه كان يؤخرها تأخيرا لا يحل له، ونهيتك عن فعله في الزكاة، فإنه كان يأخذها في غير حقها ثم يسيء مواقعها. فاجتنب ذلك منه، واحذر العمل به، فإن الله، عز وجل، قد أراح منه، وطهَّر العباد والبلاد من شره، والسلام"(36)وهي عودة لمسار الدرّة لا السيف.
- كتب أحد عماله إليه يعلمه أن مدينتهم خربت ويطلب مالا لترميمها، فيجيبه: " أما بعد؛ فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت. فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل. ونقِّ طرقها من الظلم. فإنه مرمتها. والسلام"(37)
- في أحد أيام خلافته جمع بني مروان فقال: " إنكم قد أُعطيتُم حظاً وشرفاً وأموالاً. إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم" (38) وذلك تشخيص أخر لجانب من الانحرافات التي اتسمت بها سلوكيات عشاق الملك العضود.
لكن غياب عمر بن عبدالعزيز السريع أعاد الموكب إلى مسير المؤامرة سريعاً وكأن شيئاً لم يحدث،ففي عام 110ه وفي خلافة هشام بن عبد الملك وبعد أن تولى أشرس ولاية خراسان خلفاً لخالد بن عبد الله القسري وأخيه أسد، خرج أبو الصيداء صالح بن طريف والربيع بن عمران التميمي إلى سمرقند، فدعا أبو الصيداء أهلها ومن حولها إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية، فسارع الناس وأسلموا، لكن القائد الذي يجبي الجزية لم يرقه الأمر، وبناءاً على طلبه وُضِعت شروطاً، من توفرت فيه أُسقِطت عنه الجزية، كالختان وإقامة الفرائض وحسن الإسلام وقراءة سورة من القرآن الكريم، وقد أسلم الناس حقاً وحسن إسلامهم وبنوا المساجد، ولما وجد هؤلاء الأمراء والقادة الذين لا يهم بعضهم من عملهم سوى إرضاء أولياء نعمتهم بالدنيا، أن الأموال التي كانوا يحصلون عليها قد قلَّت فقد قرروا أن تعاد الجزية على من أسلم وإن حسُن إسلامه، فسلبوهم ما يملكون من قليل أو كثير، فافتقروا وكانوا يرجون في الإسلام الغنى، فعادوا إلى الكفر واستجاشوا الترك للثورة فكانت نتائجها معارك ودماء وعداء للعرب والإسلام معاً.(39)
وبعد عقد من الزمن أي في عام 120ه تولى يوسف بن عمر الثقفي أمر العراق فتولى نصر بن سيار تحت إمرته خراسان، وذهب عام 121ه إلى نفس المنطقة فوجد فيها ثلاثين ألف مسلم يعطون الجزية وثمانين ألف مشرك أُسقطت عنهم الجزية، فأعفى المسلمين من أدائها وفرضها على المشركين، لكن هذا لم يدم طويلا فقد رفضه يوسف بن عمر الثقفي وأعاده على المسلمين، وقد كان الحجَّاج بن يوسف الثقفي أول من فرض هذا العرف المخالف للشريعة.
ولعل حرمان الجند من الموالي من العطاء أسوة بالجند العرب المشاركين بالجهاد قد أضاف مشكلة أخرى، يضاف إلى كل ذلك أن الخلفاء الأمويين باستثناء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قد أبعدوا العلماء والفقهاء عن شؤون الدولة وأداروها بالسياسة التي كانت عدتها القادة العسكريين في الغالب.
ولعل الحادثة الآتية تشير بوضوح إلى الطريقة التي استغلت بها رؤوس الأفعى ظلم وعُسف بعض العمال والولاة في الدولة الأموية ليشوهوا صورة العربي ويفقدوا العباسيين الثقة بهم عموما كي يتوجهوا لغير العرب في تولي أمورهم، فقد ورد في الموفقيات للزبير بن بكار في حديث عن معن بن زائدة يقول: " كنا في مجلس ننتظر الإذن فيه على المنصور، فتذاكرنا الحجَّاج فمنا من حمده، ومنا من ذمه، فكان ممن حمده معن بن زائدة وممن ذمه الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عليهم السلام، وأذن لنا فدخلنا على أبي جعفر، فابتدأ الحسن بن زيد فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنت أحسبني أبقى حتى يُذكر الحجاج في دارك وعلى بساطك، فيُثنى عليه، فقال أبو جعفر، وما تُنكِر من ذلك؟ رجلٌ استكفاه قومه فكفاهم، والله وددت أني وجدت مثل الحجاج حتى أستكفيه أمري، وأنزل الحرمين حتى يأتيني أجلي، قال: فقال له معن بن زائدة: يا أمير المؤمنين، إن لك مثل الحجاج عددا من أصحابك، لو استكفيتهم كفوك، قال: ومن هم؟ كأنك تريد نفسك؟ قال: وإن أردتها فمه؟ قال: كلا لست هناك، إن الحجاج ائتمنه القوم فأدى إليهم الأمانة، وائتمناك فخنتنا".(40)
ومع بداية العصر العباسي تغيرت الأحوال كليا، فقد تراجعت حركات الخوارج واضمحل دورهم في بلاد فارس التي كانت تموج بفتنهم من كل حدب وصوب طيلة العهد الأموي فاستنزفت من المجاهدين جل وقتهم وقوتهم والكثير من أرواحهم، وأفرزت متطلبات مواجهتهم الكثير من أهل الدنيا وعشاقها.
وبدأت مرحلة جديدة اتسمت بدعوتين متلازمتين في بلاد فارس، هما التشيع والتخلص من حكم العرب، إن لم تكن في حقيقتها دعوة واحدة اتخذت من التشيع سبيلا وستارا.
ولعل أفضل من أفصح عن هذه الحقيقة وحقيقة الفرس هو عمار بن يزيد ( خداش ) ففي عام 118ه كان واليا على شيعة بني العباس في خراسان، أرسله بكير بن ماهان إليها، وبعد أن تجمع حوله الأتباع وكثرت أعدادهم بدعوى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أظهر حقيقته الخرمية التي هي مزيج من اليهودية والمسيحية والمجوسية، فهي تؤمن بالتناسخ والحلول والإباحة كما في المزدكية، فجعل الشراكة في النساء، واتخذ لكل ظاهر باطناً، ذلك الذي اتسم به التشيع فيما بعد، فقال إن الصلاة إنما هي الدعاء فلا صلاة، والصوم هو الصيام عن البوح باسم الإمام وكشف سره فلا صيام، والحج هو قصد الإمام فلا حج لبيت الله الحرام، كما جاهر وأوجب سبّ الخلفاء الراشدين. ولو عدنا إلى خلفية هذا الرجل لوجدناه " نصرانيا بالكوفة فأسلم ولحق بخراسان".(41)
في فتنة الأمين والمأمون كان الفعل فيها والأثر فارسيا، فوزير المأمون " وصاحب رأيه كان فارسي الأصل، وهو الفضل بن سهل... وهذا الرجل كان منذ البداية كارها للعرب، وراغبا في نزع الخلافة من الأمين العربي وجعلها في المأمون الذي كان يراه فارسيا أو نصف فارسي، فان أمه مراجل الفارسية، وكان يصفه بأنه ابن أختهم، أما الأمين فكان عربيا هاشميا صرفا، فان أباه هارون الرشيد وأمه زبيدة بنت جعفر الأكبر بن أبي جعفر المنصور فهو هاشمي من الأب والأم"(42) وكان يعاون الفضل بن سهل فارسي آخر هو طاهر بن الحسين بن مصعب.
ولم يمض وقت طويل حتى تحقق الهدف، ففي عام 205ه أُجْبِر المأمون على تعيين الفارسي الشعوبي طاهر بن الحسين والياً على خراسان، وبذلك فقد كانت عودة الحكم الفارسي وتأثيره المباشر على مقر الخلافة ومصدر قرارها حتى عام 260ه- 873م،وقد رافق الطاهريين الصفاريون في سيستان من عام 247ه - 861م حتى 287ه - 900م، والسامانيون من عام 288ه - 900م حتى 390ه - 999م.
ومنذ ذلك التاريخ عادت الثقافة الفارسية للسيطرة والإزاحة التدريجية لقيم الإسلام والعرب، أو مزجها مزجاً مشوهاً، وعادت تبعاً لذلك اللغة الفارسية هي اللغة الرسمية لبلاد فارس.
وقد سبق أن اعتمد الخلفاء الراشدون والأمويون ولاة عرب يعيِّنهم أمراء البصرة أو الكوفة " لكن في عهد بني العباس اختلف الأمر فقد كان يؤمر الحكام في دار خلافتهم مباشرة، وكان العنصر الإيراني غالباً فيهم كما ظهر حينما ولي أبو مسلم الخراساني وقتا في عهد السفاح والمنصور والفضل البرمكي في عهد هارون الرشيد وطاهر ذو اليمينين والحسن بن سهل السرخسي في عهد المأمون وقد حكم بعضهم جميع إيران والبعض الآخر أجزاء هامة منها. ولما كان هؤلاء – خلافا لحكام إيران قبل بني العباس – جميعا إيرانيين فقد كانوا يجمعون الإيرانيين حولهم وينيبون إليهم الأعمال الإدارية وصالح البلاد والحكم ويحيا كل منهم في بلاط يقام فيه كثير من الآداب الإيرانية القديمة مقلدين بذلك المرازبة وقادة الجيوش في العصر الساساني... والحق انه باستثناء الدين الإسلامي واللغة العربية في بلاط العباسيين وحكامهم فإن كل شيء بعد ذلك كان تقاليد الإيرانيين قبل الإسلام ومراسمهم وتشكلاتهم الحربية والحكومية والحضارية فبقيت روح القومية الإيرانية فيهم أكثر حياة وأعظم قوة وكان كلما سنحت فرصة لهؤلاء السكان الغيورين الذين لم يفرحوا بسيطرة العرب ولا بحكامهم الجائرين كانوا يثورون عليهم ويجلّون بقاء الوجود والقومية الإيرانيين"(43) وهذه شهادة من فارسي لا تخلو كتاباته من شعوبية واضحة وصريحة يؤكد فيها كل ما قلناه.
وقد تحققت بعض نواياهم في عهد الخليفة العباسي المأمون فنالوا استقلالهم وعادوا إلى حيث كانوا قبل الإسلام عن طريق أسر عديدة تصدت للمهمة وحملت رأس الأفعى المجوسي منها الأسرة الطاهرية والتي وجدت في التشيع - وفقاً للصياغة التي صاغتها رؤوس الأفعى وأقلمتها مع الواقع الفارسي العنصري - ضالتها كوسيلة لخلاف الدولة العربية الإسلامية والخروج عليها وتبرير العداء لها.
وهذا الثمن الذي جناه طاهر بن الحسين - الذي يدَّعي انه من نسل رستم بطل الشاهنامة الفارسية – كان جراء قيامه بنحر الخليفة محمد الأمين لكونه كان رئيسا لشرطة المأمون، والذين كانوا جميعاً من الفرس، فكان الكرسي الذي التاعت له نفس المأمون بفعل دسائس الفرس ومكرهم ملطخاً بدماء أخيه الأمين هو المقابل الذي استحق به الفرس استعادة إمبراطوريتهم بشكل من الأشكال، وما كان الفرس جناة على المأمون فهم أطمعوه بكرسي أخيه وهم طمعوا بكرسي إرثهم الفارسي المجوسي الذي دمره العرب بالإسلام، لكن الأمر ما كان ليتحقق لولا استجابة المأمون لما أرادوا.
ولم يكن طاهر بن الحسين مبتدعاً في ذلك، بل كان مواصلاً لمسيرة سلفه، فقد كان جده مصعب بن زريق يعمل فيما سبق ضمن تشكيلات أبو مسلم الخراساني الذي أراد تحقيق ما لم يستطع تحقيقه حتى جاء الأتباع فأنجزوا المهمة، ومصداق مسعى طاهر هذا أنه أعلن استقلال بلاد فارس عن الدولة العربية الإسلامية وقطع الخطبة للخليفة المأمون والدعاء له رغم أنه هو الذي حقق له مبتغاه. لكن الذي يصعب تصديقه أن المأمون كان يتخذ من عبد الله بن طاهر واليا على الشام مرة وأخرى على مصر رغم إعلان أبيه التمرد والانفصال.
ولم تكن ادعاءات الفرس بتوليهم آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا من باب التستر على نواياهم الحقيقية المتمثلة بعداء العرب والإسلام الذي توحدوا به فأزالوا إمبراطورية أسلافهم الساسانية، فقد كان محمد بن أوس البلخي مساعد سليمان بن عبد الله بن طاهر وهما من الشيعة يأخذ من أهالي قريتين " كان يحكمهما الخراج ثلاث مرات كل سنة، مرة له وثانية لأحمد ابنه وثالثة لمساعديه المجوس"(44). وهذه الشهادة الصادرة عن فارسي شيعي شعوبي تؤكد بما لا يقبل الشك أن عتاة الفرس رفضوا التخلي عن مجوسيتهم، لكنهم ما كان بمقدورهم المجاهرة بذلك، فعملوا على تلطيف المجوسية ببعض المفردات الإسلامية وأطلقوا عليها اسم التشيع.
ودليل آخر على استغلال الفرس لآل البيت كذريعة أن الطاهريين الذين رفعوا شعار نُصرة آل البيت واستعادة حقهم هم نفسهم جيشوا جيوشهم وحاربوا الحسن بن زيد وهو من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم حينما استفحلت دعوته في إيران.
فقد شهدت الفترة بين عام 304ه وعام 316ه استغلالاً بشعاً ومكشوفاً لأشخاص ينتمون أو يدعون الانتماء للحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب عليهم السلام في مسيرة استحواذهم على تحرير كيانهم القومي وإخراجه من دولة الخلافة الإسلامية، فأشعلوا بين الحسن بن القاسم وهو من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب وبين أبناء عمومته من ذرية الحسين بن علي حروبا طويلة ومكائد نصبها كل واحد منهما للآخر في سبيل نوايا الفرس، وكان من بين من استغلهم لتحقيق مآربه المجوسية الفارسية علي بن بويه الذي لُقِّبَ فيما بعد بعماد الدولة وأسس دولة فارسية خالصة من الإسلام، ولم يولِّ علويا في ملكة قط، رغم انه حقق مبتغاه بدعوى نصرتهم واستعادة حقهم، فمن عام 316ه حيث قُتل الداعي الصغير (العلوي) حتى"عهد تسلط الديالمة الكامل على طبرستان كان عدد من العلويين بطبرستان وجيلان مجرد آلات بيد الأعداء السابقين لكن لم يك لأحدهم السيادة الفعلية"(45).
أما الديالمة الفرس الذين ادعوا أيضا أنهم أتباع لآل البيت فهم كغيرهم من الفرس كان بينهم وبين الإسلام حاجزا عظيما "وسبب الطبيعة الجبلية لمساكن الديلم وصعوبة السيطرة عليها فقد عاش الديلم مستقلين دائما وكان لهم آداب وحياة خاصة بهم قل أن وقعت تحت تأثير من الخارج ولم تنفتح مساكن الديالمة أمام المسلمين مع شدة حروبهم لهم ولم تستسلم لهم هذه الجماعة فبقوا على مذهبهم القديم وآدابهم المتوارثة"(46) أما اسفار بن شيرويه فقد كان احد أهم أتباع وقادة العلويين خلال الفترة بين عامي 304و316ه " بدأ أمره بحياته في خدمة علويي طبرستان...ثم تحول عنهم في النهاية ولحق بالأمير نصر الساماني وعماله في خراسان، وقتل بعون منهم الداعي الصغير في 316ه وجعل ماكان بن ماكي يتوارى، ونتيجة لهذا استولى على جرجان وطبرستان وقزوين والري وقم وكاشان ولرستان، وبعد أن حاز أسفار هذه القوة ثار على الخليفة والأمير نصر. وكان الأمير نصر عازما على ضربه لكن الأمر انتهى بالصلح وقبول أسفار أن يدفع خراجا سنويا وان يحكم المناطق التي استولى عليها، لكن الرجل، ولم يكن قد أسلم واستمر على دين آبائه، ولم يحسن معاملة رعيته المسلمين" (47) فياللعجب من شخص يستهلك شطراً من حياته ينصر آل البيت وهو لم يُسْلِم بعد!! وهذا دليل آخر على أن التشيع الفارسي ليس إلا قناعاً للمجوسية.
ولم يكن أسفار بن شيرويه يدعى الولاء لآل البيت وهو على مجوسيته فحسب بل كان أحد أتباعه وهو مرداويج كذلك, فقد بدأ عام 316ه بالسعي للسيطرة على بلاد فارس وتمكن من ذلك في عام 320ه حيث احتل إقليم الأحواز العربي وضمه إلى مملكته الفارسية، ثم قايض الخليفة العباسي المقتدر على مائتي ألف دينار كخراج سنوي"ولم يكن مرداويج مثله مثل أخيه وشكمير وسيده الأول أسفار بن شيرويه، في الأصل مسلما، أو قبل الإسلام في الظاهر لكنه كان متعلق في الباطن بالآداب الإيرانية القديمة ومراسيم المذهب الزرادشتي، لهذا كان شديد الكره للخليفة العباسي وولاته العرب وكان يهدف إلى إحياء دولة الساسانيين الخالية وتخريب بغداد وتعمير المدائن"(48) ولهذا فقد كان يضع على رأسه تاجا مرصعا كعادة ملوك الفرس انو شروان وغيره وكان يجلس على عرش من الذهب، ويقيم الاحتفالات بمناسبة الأعياد القومية الإيرانية "في شتاء عام 323ه حينما كان في أصفهان أمر في ليلة عيد النور أن يجمع وقود كثير وأسباب الإضاءة وإشعال النيران على شاطئ نهر زاينده"(49) وهو عيد مجوسي مشهور يحتفل به الفرس حتى يومنا هذا بإصرار عجيب.
أما البويهيون الذين ادعوا أنهم من نسب يزدجرد الثالث الساساني أخر ملوك الفرس وتظاهروا بأنهم من دعاة العلويين والمتشيعين لهم وتحالفوا في سبيل إخراج بلادهم من حكم الدولة العربية الإسلامية مع مرداويج حتى عام 323ه حيث تمكنوا من السيطرة على اغلب بلاد فارس، أما مقر الخلافة فقد كان وزرائهم من غلمان الترك وحلفاءهم آل حمدان والذين تذرعوا بذات الذريعة التي توسلوا هم بها يتحكمون في مصير الخلافة، ينصبون هذا ويعزلون ذاك، يقتلون هذا ويحبسون ذاك. ففي عام 295ه نصبوا المقتدر بالله بن المعتضد خليفة للمسلمين، وكان عمره ثلاثة عشر عاما وفي عام 296ه عزلوا المقتدر ونصبوا المرتضي بالله بن الخليفة المعتز، ثم ما لبثوا أن خلعوه بعد يوم واحد وقتلوه وأعادوا المقتدر مرة أخرى. وفي عام 321ه قام الوزير ابن مقلة وهو فارسي كذلك بعزل الخليفة القاهر بالله وعين بدلا عنه ابن المقتدر الراضي بالله. فكانت نتائج هذا التآمر وهذه المكائد المتواصلة قد أفسدت الرعية وأوصلت بغداد عاصمة الخلافة إلى حافة الانهيار، اجتمع على الكيد بها غلمان الترك إلى الفرس المجوس يؤازرهم من ركب موجات غدرهم وحربهم على العرب، فبنو حمدان التغالبة كانوا في النهار مع الخلافة وفي ظلام الليل يتقلبون بين الفرس والترك والفاطميين، ولو ألقينا نظرة على واقع بغداد عام 332ه لتجمعت لدينا مكونات الصورة البشعة والمهينة لذلك الواقع المرير، فقد تفشت فيها السرقة وتعددت لأجل ذلك العصابات وتنوعت أساليبها ووسائلها حتى غطت ساعات النهار والليل، وكان من بين تلك العصابات عصابة ابن حمدي التي تحارس الناس منها بالبوقات "وعظم أمر ابن حمدي، فأعجز وأَمَّنه ابن شيرزاد وخلع عليه وشَرَطَ معه أن يوصله كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه هو وأصحابه"(50) مع إن أبو جعفر بن شيرزاد هذا كان قبل ذلك وزيرا، فأي انحطاط هذا الذي جعل من بيده السلطة ومقادير الأمور يقتسم مع اللصوص سرقاتهم وهو المسؤول عن أمن الرعية، خاصة وان هذا كان يحدث وبغداد تعيش أسوأ أحوالها من ضنك العيش وشدَّة الفاقة.
أما الدوافع لفرض ذلك الواقع المزري على بغداد فإننا سنعرفه من نتائج أحداث عام 334ه حيث تمكن البويهيون الفرس من الاستيلاء على بغداد وخلع الخليفة المستكفي بعد أن سملوا عينيه ونصبوا بدلا عنه المطيع، ومع إنهم كانوا يتوسلون لتحقيق نواياهم بالتشيع لآل بيت النبي فإنهم لم يولوا أحداً من العلويين خلافة ولا إمارة أو حتى شأناً من شؤونها رغم غلوهم في ذلك التشيع، فمن اجل ماذا إذن كانوا يستغلون التشيع؟ لتدمير بغداد وإنهاء الدولة العربية الإسلامية، ذلك هو الجواب الحق، فقد جرد البويهيون المجوس المتسترين بالتشيع سواعدهم للنهب والسلب والإفساد حتى خربت بغداد وعم الفساد واشتد فيها البلاء والغلاء" حتى أكل الناس الميتة والكلاب والسنانير، واخذ بعضهم ومعه صبي قد شواه ليأكله، وأكل الناس خروب الشوك، فأكثروا منه، وكانوا يسلقون حبه، ويأكلونه، فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانت الكلاب تأكل لحومهم، وبيعت الدور والعقار بالخبز"(51)
هذه الأعمال لا شك كانت تمهيدا للسيطرة على عاصمة الخلافة، وقد تحقق لهم ذلك عام 334ه، لكنهم لم يولوا علويا أو شيعيا عليهم ولو من باب التغطية، أما آل حمدان فان تحالفهم مع هذه التيارات الشعوبية رغم عروبتهم يتجلى في أنهم انضموا عام 394ه بقيادة سيف الدولة الحمداني إلى الدولة الفاطمية حتى عام 414ه. ويعزز ذلك لجوء عضد الدولة البويهي إلى آل حمدان عام 367ه حين اختلف مع ابن عمه عز الدولة البويهي.
لقد كان معز الدولة البويهي يأمر بنشر التشيع في بغداد والعراق حتى إن احد أمراءه الفرس أمر في عام 351ه أن يُكتب على أبواب مساجد بغداد لعن معاوية بن أبي سفيان وغاصبي حق آل علي بن أبي طالب، وأوجد مراسم التعزية بشهداء كربلاء في العاشر من محرم. لكنه مقابل ذلك لم يُسَلِّم الخلافة لأحدٍ من أصحاب الحق الذين ثار باسمهم، بل ولم يقرِّب أحداً منهم طيلة احتلاله لبغداد الذي دام حتى عام 447ه، لكنه فعل كل ما يسوء آل بيت النبي فقد أضفى على التشيع كثيرا من موروث المجوس واليهود والنصارى، أو هو في الحقيقة قد كشف عنه وجاهر به.
أما عضد الدولة فقد كان أول من نقل ثقافة الفرس وغيرهم إلى ديار العرب والإسلام في مجال البناء على المشاهد والقبور، ولهذا وضع لنفسه مكانا بجوار علي بن أبي طالب عليه السلام بعد أن بنى على قبره القباب والأبنية وقد دُفِن فيه عام 372ه ليتخذ منها الرعاع أوثاناً تُعبد.
ويفصح الفرس عن شعوبيتهم رغم تسترهم بالتشيع ضد كل من يقف بوجه استعادة الإمبراطورية الفارسية وإن كان فارسيا، فهذا مؤسس الدولة السامانية إسماعيل بن احمد 279-295ه يزكيه المؤرخ الفارسي أيما تزكية فيقول:" كان إسماعيل فوق شجاعته وهمته وفتوته رجلا كثير الورع والخشية من الله تعالى ديِّنا، وكان جنده يشغلون أنفسهم بالدعاء والصلاة والعبادة ليلهم ونهارهم. أما هو فقد سعى إلى أن تتسم حروبه كلها بسمة الجهاد والغزو في سبيل الله"(52) لكنه لعدم سعيه للتحرر من التبعية للدولة العربية الإسلامية والخلافة العباسية يقول عنه "ومع إن إسماعيل كان رجلا بلا شائبة وامرءاً ديناً يحترم علماء الدين ويجلهم إجلالا لكنه بسب تعصبه الشديد للمذهب السني كان في الحقيقة تابعا صميما وخاضعا مطيعا للخلفاء العباسيين، ولهذا فلم يكن له ولأخلافه إحساس حب إيران والاستقلال قط كما كان عند الصفاريين والديالمه"(53) وهذه شهادة صادقة أفصحت عن كل مكنونات الفرس وعبرت بدقة عن غاياتهم الحقيقية من ادعاء التشيع. مع إن هؤلاء الصفاريون والديالمة الفرس ما كانوا يسعون لإنصاف آل عليّ واستعادة حقهم إنما اتخذوا منهم وسيلة لتحقيق أهدافهم القومية، فأحمد بن سهل المتوفى سنة 307ه ثار باسم التشيع لكنه في الحقيقة كانت مراميه غير ذلك، كما يصفه الفرس أنفسهم: " إذ أنس احمد في نفسه ادعاء الإمارة والاستقلال وكان فاضلا أريبا أصيلا في نفسه وابنا للعظام. خاصة وإنه كان يضمر حقداً خاصاً للعرب لقتل عمالهم إخوته الثلاثة وكانوا جميعا منجمين وكتابا، وكان دائما يسعى لتجديد أساس الدولة الإيرانية وكلما سنحت له الفرصة كان يثور على العمال والأمراء الطائعين لأمر خليفة بغداد"(54) وقد لا يكون تبني الفرس لمذهب معين والذهاب به بعيداً عن حقيقته الأصلية وبعيداً حتى عن الإسلام كما فعلوا مع التشيع الذي استغلوه أبشع استغلال، سلوكاً جديداً، بل كانت لهم خبرات سابقة وخلفية رصينة، فقد مارسوا قبل الإسلام على ديانتهم الزرادشتية هذه الأفعال، حين اشتقوا منها عدة أديان مولدة مثل المانوية والمزدكية وجعلوا منها أديانا مختلفة ومغايرة عن الديانة المولدة عنها.
وقد كان من إفرازات نصير المغول ( نصير الدين الطوسي) وسندهم ودليلهم على خراب ديار العرب المسلمين تلميذه جمال الدين الحسين بن مطهر الحلي، أحد أبرز أئمة التشيع الفارسي ومصادره، والذي قام بدوره مع أتباعه بتحويل السلطان محمد خدابندة الالخاني إلى مذهبهم عام 709ه بعد أن كان نصرانيا على دين أمه. وقد رافقه المطهر الحلي وأقام في معسكره أينما حل وجمع له المتشيعين من كل مكان، ثم دفعوا به نتيجة أحقادهم على العرب المسلمين إلى التوجه إلى ملوك الصليبيين طالبا منهم التحالف معه في سبيل القضاء على حكم المماليك المسلمين في بلاد الشام ومصر، فكتب رسائل إلى البابا كليمنت الخامس وملوك فرنسا وبريطانيا بهذا الشأن " وكان له علاقات مع البابا وسلاطين أوربا المسيحيين والروم الشرقية وأرسل عنه مبعوثين لفرنسا وانكلترا وايطاليا ولعله كان يهدف من وراء ذلك إلى تجميع حلفاء له لمهاجمة الشام ومصر وكان بعض المسيحيين في جزيرة قبرص وارمنية يحرضونه على هذا الهجوم"(55) لكن هذا السلطان تراجع في أيامه الأخيرة عن التشيع فتحول في نظر الفرس من سلطان عادل وبطل قومي إلى رجل " يفرط في الشراب والشهوة"(56) فأي تشيع هذا الذي يفرط قادته بالشرب والشهوة؟مع إنه اتخذ هو وأخوه محمود غازان من قبله القباب على القبور وهي البدعة التي أُلصقت بالتشيع حتى يومنا وصارت عمودا من أعمدة دينهم.
وهذا ديدن الفرس في كل مراحل زمنهم، تتبدل صفات الأشخاص وتتغير تبعاً لقربهم من مصالحهم أو بعدهم عنها، فانظر كيف يتحدثون عن خليفة المسلمين، وكيف ينبز من بين حروف كلماتهم فحيح الشعوبية والحقد الأسود، فعن أخر خلفاء بني العباس المستعصم بالله يقول قائلهم: "كان دينا خيراً هادئ الطبع عفيفاً طيب السيرة محباً للعلم حسن الخط لكنه خائر العزم واهن الرأي يجهل أمور السياسة والإدارة يمضي وقته في سماع الأغاني والمطربات والملهين أو في مكتبته الخاصة دونما الاستفادة الحقة، ومع إن المغول كانوا على أبواب بغداد فقد كان يراسل سلاطين الأطراف يطلب منهم المغنين والمطربين بدلاً من أن يتدبر أمره إزاءهم وكان يأمن الوضعاء في أعظم مناصب بلاطه وديوانه ورئاسته وحكومته، وكان رجال بلاطه قاطبة من الأراذل ومستولين تماما عليه كامل الاستيلاء، بغير كفاءة ضعافا مغرضين حاشا وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي"(57) فكيف لعاقل أن يوائم بين تلك الصفات وهذه المثالب التي سطرها هذا المؤرخ الشعوبي؟ بل كيف ينسى وهو قد قرأ تواً ما سطرته يداه من مؤامرات وتحالفات وأكاذيب واستجلاب العداء في سبيل تقويض دولة الخلافة، و كيف سيصدق أن هؤلاء الرجال الجاثمين على صدر الخلافة من الأراذل والمغتصبين لمصدر القرار بغير كفاءة هم ليسوا من ثمار استيلاء الفرس والترك على بغداد وتهميش الخليفة ومنعه عن أداء دوره، وقد شهد التاريخ كم خليفة من بني العباس خلعوا وكم منهم قتلوا أو سجنوا أو سملوا. وإن مرَّ كل هذا فلن يمرّ على أحد المديح الذي كاله هذا المؤرخ الشعوبي الحاقد باسم الإسلام والتشيع لمهندس الغزو المغولي وسبب نجاحه الأول والمباشر بالتعاون مع الشيعي الفارسي الأخر نصير الدين الطوسي الذي أشار على هولاكو بتعجيل الزحف نحو بغداد بعد قراءته للطالع فقد كان منجما، وهو بالمناسبة نصير للدين، لكن أي دين؟ انه دين أبائه وأجداده المجوس وليس الإسلام. فذلك هو ابن العلقمي الذي ركب التشيع مطية في سبيل قوميته الفارسية وكاد باسمه وهو في حقيقته عدو لآل بيت النبي ودينهم وأصلهم ونسبهم، حتى تكلل غدره بفناء الدولة العربية الإسلامية واستعاد بعد ذلك تاج الفرس المجوسي كاملاً غير منقوص،والذي كان ثمنه أرواح الملايين من المسلمين شيعة وسنة، فأي حاشية يتكلم عنها هذا المؤرخ الشعوبي وهي ليست إلا حاشية الوزير ابن العلقمي الذين مهدوا الطريق سالكا للمغول بعد أن أضعفوا قوة الدولة بقلاقل الفرس طيلة خمسة قرون متواصلة وبعد أن نقلوا وباءهم إلى عاصمة الخلافة بغداد ففرقوا أهلها بالنزاعات المذهبية التي أوجدوها وأججوها بين أهل بغداد حتى احتدم الصراع بين الناس باسم التشيع مرات، تلك الحقيقة التي ترسخت في واقع بغداد بفعل الاحتلال البويهي والسلجوقي وما تلاهما، العلقمي الذي سرح جيش الخلافة تمهيدا للغزو.
والأصعب من كل ما فات أن الفرس أرادوا إظهار ابن العلقمي والطوسي ومن كان على شاكلتهم على أنهم ما استجلبوا المغول إلا لإنصاف الشيعة، وأنسوا أنفسهم أن هولاكو حينما دخل بغداد عام 656ه لم يبق فيها سنيا ولا شيعيا إلا قتله، وهدم مرقد الإمام موسى الكاظم بعد أن سلبه، ثم اتخذ من الطوسي مستشارا ومن ابن العلقمي وزيرا، فلم تكن الشيعة إلا وقوداً للنار المجوسية وقرباناً أُريق دمه على أعتاب الكسروية.
ها قد توضحت صورة الأفعى وتشكلت قسمات رؤوسها، ببروز أثر الحلف الصليبي مع دعاة التشيع على يد خدابندة والمطهر الحلي الذي أنجزه المغول، فهذا الحلف هو الذي دفع السلطان المغولي منكو لإرسال هولاكو على رأس الجيوش التي اجتاحت مقر الخلافة للتوجه بعدها إلى الشام دعماً للغزو الصليبي الذي كان القائد صلاح الدين الأيوبي قد حقق عليهم انتصارات باهرة، فقد كان السلطان قوبيلاي واقعاً تحت تأثير النصارى من جانب والفرس من جانب آخر. حيث تعززت العلاقات بين المغول والصليبيين ليتزوج أباقا خان بن هولاكو من ابنة أحد أباطرة الروم الشرقيين، وبفضل ذلك تمكن من تجنيد الكثير من النصارى الشرقيين في جيشه لقتال المسلمين في الشام ومصر دعما للغزو الصليبي.
وقد سبق للفرس أن أجهدوا أنفسهم للتوغل في بلاد الشام بالتعاون مع الفاطميين تمهيدا لإسناد الصليبيين في غزوهم لبلاد العرب، تبين ذلك من خلال ارتباط الحروب الصليبية على غير العادة بظاهرة خطيرة جدا في الواقع العربي، تلك هي ظاهرة بروز الصراعات المذهبية والعقائدية والعصبية العنصرية وبخاصة في بلاد الشام لكونها مسرح العمليات الحربية والهدف المباشر للغزو الصليبي " فمن الناحية العقائدية بلغت الخلافات المذهبية في بلاد الشام في عصر الحروب الصليبية درجة من التناقض سبب شرخاً عميقاً بل شروخاً متشعبة في المجتمع الإسلامي"(58) فقد اندفع المتشيعون(النصيرية) والكسروانيون منهم تحديدا إلى الوقوف مرارا إلى جانب الصليبيين في حروبهم، فخلال حصار السلطان قلاون لطرابلس عام 1289م توجه هؤلاء للوقوف مع أمير طرابلس بوهيموند الصليبي. وكذلك فعلت العشائر التنوخية بعد اعتناقها للدرزية.
وقبل هذا نهض الخليفة العباسي المسترشد 1118-1135م، 512-529ه يريد مقارعة الصليبيين بعد أن أوهنه السلاجقة عن القيام بواجبه، لكن غلاة التشيع ( الباطنية) كانوا اسبق فاغتالوه.
أما المغول فقد امتدت علاقاتهم بالفرس إلى أبعد مما فعله الصليبيون، ففي عهد قوبيلاي كان الفرس جزءا هاما في كيان دولته"وظهور نفوذ الإيرانيين في بلاطه انتشار اللغة الفارسية بالصين، فقد استدعى هذا الخان حينما كان يريد فتح البلاد الحاكمة في الصين الجنوبية أشهر المهندسين في إيران والشام لصنع المنجنيقات والعرادات الحربية، وكان يصاحبه دائما في معسكره وبلاطه عدد من إيرانيي ما وراء النهر وخراسان، وكان بعض هذه الجماعات ممن نقلهم المغول من ما وراء النهر وإيران حينما كانوا يفتحون بلادها لأنهم أصحاب حرفة وصناعة إلى بلاد المغول، وقد بلغ عدد هؤلاء الناس مبلغا عظيما إلى درجة أنهم شيدوا في بعض البلاد مدنا جديدة لهم على شكل أوطانهم الأولى. وكان بين أمراء قوبيلاي وعماله الإداريين في الصين عدة من الإيرانيين وقد عظم نفوذهم إذ استوزرت أسرته بعد محمود يلواج احدهم لقب بالسيد الأجل وظل وزيرا مدة خمسة وعشرين عاما658-683ه"(59) وكان اوكتاي قد اتخذ قبل ذلك أي في عام 633ه من بهاء الدين الجويني صاحبا للديوان على جميع البلاد الخاضعة للمغول، وكان الأمراء المغول ينيبونه على الحكم عند السفر، ثم جاء من بعده علاء الدين بن بهاء الدين الجويني الذي حكم بغداد لمدة أربعة وعشرين عاما للمغول، وكان قد ألف كتابا عن تاريخ المغول أسماه(تاريخ جهانكشا) عام 658ه وأكمل نهايته نصير الدين الطوسي حول سقوط بغداد بيد المغول. وكان الفرس يتشوقون إلى أي وسيلة لإسقاط الدولة العباسية، وكان الشيعة اسبق الفرس لدعم المغول وإغرائهم باجتياح مقر الخلافة، فقد سبقت الإسماعيلية وهي إحدى فرق الشيعة كل الإيرانيين في طاعة المغول وتوليهم " قبل الإسماعيلية في عهد جنكيز طاعة المغول وكان جلال الدين حسين إمامهم أسبق إلى ذلك من كافة أمراء إيران. وكانوا أسباب تقدم أمر المغول بطريق غير مباشر في عهد جلال الدين المنكبرني"(60) والغريب أن هؤلاء المتشيعين والمعتقدين في ظاهرهم بولاية آل بيت النبي الأطهار كانوا يوصفون من قبل مؤيديهم ومؤرخيهم لهم بالملاحدة " في 653ه أصاب ركن الدين خورشاه عن طريق أحد الحجّاب والده خداوند علاء الدين محمد (618-653ه)إمام إسماعيلية إيران الذي كان يصرف غالب أيامه في الفسق والخمر وكان خلوا من كل كفاية وعقل أصابه بالمقتل واستقر في منصبه وغدا الإمام العام لملاحدة إيران والشام"(61) ومع أن احد جناحي المكر الذي أُسقطت به بغداد نصير الدين الطوسي وكان شيعيا إسماعيليا ومن أتباع علاء الدين الذي قال فيه مؤرخهم عباس اشتياني أنه ملحد، وتلقى العلم على يديه، يقول عنه الخميني " ويشعر الناس بالخسارة أيضا بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام"(62) مع إنه لا يتعدى أن يكون جاسوساً ماكراً سعى بكل الوسائل والسبل ليطيح المغول بالإسلام، أما ناصر الدين محتشم الشيعة في قهستان والذي ألف باسمه نصير الدين الطوسي كتابه "أخلاق ناصري" عام 633ه في الأخلاق النظرية التي جاء بها فلاسفة اليونان فقد أعطى بيده لهولاكو هو الأخر فبعثه حاكما على إحدى المدن، والطوسي هذا يحق للخميني أن يأسف على فقدانه فقد كان من المجددين للفكر الشيعي الفارسي بعد أن استقى من الفلسفة اليونانية والثقافة الغربية والديانة المسيحية كل ما يمكن أن يسعف الإرث المجوسي واليهودي.
في عام 654ه افتتح هولاكو حصون الإسماعيلية ولما أراد إحراق مكتبة الحسن بن الصباح مرجعهم طلب منه علاء الدين الجويني عدم إحراقها بحجة اختيار المفيد منها ففعل، لكنه حينما دخل بغداد لم يفعل مثل ذلك بل أتى على كل أخضر ويابس فيها. أما الفارسي ابن العلقمي فلم يكن أقل أثرا من الطوسي، فحين أراد هولاكو فتح قلعة الموت وهي من حصون الشيعة الإسماعيلية أرسل الخليفة العباسي المستعصم بالله يستمده بجيش يسانده في فتح بلاد الإسماعيلية، ولما استشار الخليفة مساعديه وكان أبرزهم وصاحب القرار والحيلة والمكر فيهم وزيره ابن العلقمي الفارسي مدعي التشيع فقد أثناه عن تلبية الطلب بحجة أن هولاكو يبغي من ذلك أن تفرغ بغداد من الجيش كي يغزوها، وهو يضمر في داخله تحقيق هدفين في آن معا، أولهما: منع الخليفة من تجنب غزو المغول كما أعد هو والطوسي ومن يحركهما وأتباعهما وخططوا لبغداد وإسقاط الخلافة نهائيا، وثانيهما: منع تقوية هولاكو على فصيل من فصائل حزبهم الذي اتسعت وتوسعت أطرافه، وبذلك تحقق لهم ما أرادوا فسقطت الخلافة. وكان هولاكو في زحفه على بغداد قد استصحب معه قادة الشيعة وأمرائها وأئمتها في رفقته ومنهم نصير الدين الطوسي وعلاء الدين(عطا ملك)الجويني الذي عمل وآباءه في خدمة المغول من قبل عشرات السنين.
ولم يكن المتشيعين ليكتفوا باحتلال عاصمة الخلافة فحسب، بل كان تخطيطهم أكثر عمقا وأشدّ خطرا وأبعد أثرا، فقد أثنى ابن العلقمي الخليفة العباسي عن الهرب وأقنعه بأن يستصحب معه أولاده الثلاثة وجميع العلماء والأئمة والقضاة والقادة والصلحاء ووجوه المدينة وما يمكن أن يكون ذخرا للدولة وعدتها والذين تجاوز عددهم الألف ومائتان على أقل التقديرات ليذهبوا بأقدامهم إلى هولاكو ليفنيهم جميعاً باستثناء ابن الخليفة الأصغر، كما يقضي الاتفاق.
وذهبوا إلى أبعد من ذلك فبعد أن مزقوا العرب وأذهبوا وحدتهم ودمروا عاصمة دولتهم بغداد، وأبادوا العلماء والقادة والقضاة ووجوه الناس وأفرغوا البلاد من كفاءاتها، فقد سلب الطوسي كل الأجهزة العلمية والمعدات المبتكرة التي كانت محفوظة في خزانات الخلافة من ساعات وأجهزة تحديد القبلة والاتجاهات وغيرها الكثير الكثير مما كان من ثمار عصر النهضة الكبرى وبخاصة في العصر العباسي الأول، وقام بنقلها إلى بلاد فارس ليقيم فيها مرصد مراغة الفلكي هناك.
وقد تأكد من غزو المغول لبغداد حقيقة الحلف الكبير بين الأطراف التي من فكرها استُخلص التشيع، فقد استُبيحت بغداد أربعين يوماً وقتل من أهلها زهاء المليون، لم يفرِّق بين عربي وعربي آخر لمذهبه أو عمله، لكنه أحسن معاملة النصارى والفرس ولم يعترضوا أحداً منهم.
وإن كان هولاكو قد اعتنق البوذية لكن ابنه كيتوبوقا حينما احتل الشام عمد إلى تحويل مساجدها إلى كنائس للنصارى، ولهذا يُعِدُّ الفرس هولاكو ومن أعقبه من خانات المغول الإلخانيين طبقة من طبقات ملوك الفرس.
أما أخوه الآخر ارغون فبعد تنصيبه على عرش الإلخانية اتخذ من الطبيب اليهودي سعد الدولة وزيرا، ذلك الصهيوني الذي استبد به الحقد فكشف عن مكنون نفسه فاستصدر من ارغون ابن هولاكو قرارا بمهاجمة الحرمين الشريفين وتحويل الكعبة إلى معبد للأصنام وقتل علماء المسلمين لكن الموت عاجلهما فلم ينفذ قرارهما. عند ذاك أصبح الولوج في تنفيذ فصول المخطط التالية أمراً ممكنا، وما يمنعهم من ذلك؟ فدولة العرب قد ذهبت بعد أن شُوِّهت في شخوصها، فكان الصفويون لها، فمن هم الصفويون وما هي المهمة الجديدة التي سينهضون بها؟
ينحدر الصفويون من ناحية أمهم إلى النصارى اليونانيين، وهي كاترينا إبنة أخ الحاكم اليوناني لطرابزون، تزوجها الأمير حسن بيك بن علي بن قرا عثمان البايندر مؤسس الآق قوينلو، وأم هذا الأمير إحدى الأميرات المسيحيات من عائلة الحاكم اليوناني ذاته، أما كاترينا فقد ولدت للأمير حسن ولداً وبنتين، إحداهما تدعى مارتا تزوجها الشيخ حيدر الصفوي، وهي أم إسماعيل شاه مؤسس الدولة الصفوية.
واستكمالاً للمهمة التي تنتظر الدولة الصفوية وهي الصورة المتكاملة لدولة الفرس كما أرادها الطوسي وابن العلقمي لتنهض بها فقد ألصقوا أنفسهم بالإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق وهم كاذبون في ذلك، فحتى الفرس المتشيعين لم يتقبلوا هذا منهم ذلك " إن هذه النسبة كاذبة ولم ترد في المؤلفات التي أُلِّفت قبل عهد الشاه طهماسب الأول وفي أيام الشاه إسماعيل وأجداده"(63) ثم التف حولهم صنيعة أخرى من صنائع خليط الأفكار الأفعوية وهم المتصوفة، فالتصوف ذاك لم يكن ليختلف عن التشيع الفارسي كثيرا، هو أيضا خليط من الفكر اليهودي والصليبي والمجوسي والبوذي،وقد كانت بلاد فارس أخصب منابتها نتيجة تعلق الفرس بالأساطير والخرافات والشعوذة،فكانوا يضعون على رؤوسهم قلنسوة حمراء تيمنا بعادات الزرادشتية، فقد كان أتباع زرادشت يميزون أنفسهم عن سائر الناس بالملابس الحمراء، ولقد كان خروج إسماعيل الصفوي في تلك الفترة مطلبا هاما للنصارى بالدرجة الأولى للأسباب الآتية:
كان السلطان العثماني محمد الثاني قد بدأ زحفه باتجاه أوربا فاحتل طرابزون وطرد منها أباطرة الروم الشرقيين، وقبلها في عام 857ه فتح القسطنطينية(استانبول) وعزم النية على اجتياح البلقان، ولما كان العثمانيون مجاورين للروم وليسوا أقوام طارئة تغزو ثم سرعان ما تعود إلى مواطنها أو قريبا منها كما فعل المغول من قبل، فإن احتلالهم لأي جزء من أوربا سيشكل تهديدا خطيرا للصليبيين.
خلال تلك الفترة كانت إيران والمناطق المجاورة لها في حالة فوضى واضطراب، ولا يوجد نظام سياسي قوي يوحدها بعد ذهاب ملك تيمور لنك (الأعرج) مما سهل على رؤوس الأفعى إخراج النظام المرجو بالصيغة المثلى التي تلبي الأهداف بمراحلها النهائية.
إعلان التشيع كان السبيل الأمثل لنجاح إسماعيل الصفوي في مهمته الكبيرة والخطيرة، فهو معتقد نضجت تفاصيله وأصبح جاهزا ليؤدي دوره كاملا في هذه المرحلة بعد أن أدى دوره في تدمير الدولة العربية الإسلامية بنجاح وتمزيق شمل وحدة العرب، خاصة وأنه استكمل فكره بالإضافات الكبيرة التي تمت عليه، فالشعوب الإيرانية العديدة لا يمكن توحيدها وجعلها قوة كبيرة تؤدي أغراضها المنشودة والتصدي للدولة العثمانية بما يمنع عليها التقدم في العمق الأوربي أو الاستقرار فيه، وما كانت هذه الشعوب المتنافرة المقتتلة فيما بينها لتتحد بدون نظام سياسي يوحدها فكان التشيع الصفوي بكل تفاصيله.
ولهذا فقد سقطت جميع بلاد فارس في قبضة إسماعيل الصفوي خلال عامين من الزمن 907-909ه، وخلال عام 914ه أخضع العراق كاملا تحت سيطرته دون قتال نتيجة الفراغ السياسي الذي أنضجته فصول المؤامرة، ولم يتبق سوى خراسان التي استخلصها من الأوزبك عام 916ه هي الأخرى.
وقد أثبتت الأيام الأثر الصليبي في الصفوية ليس من ناحية النسب والخؤولة فحسب بل من خلال أمتن العلاقات التي أقامها مع ملوك المجر وسائر الدول الأوربية " وقد مالت سياسة الملوك الصفويين بعداوتهم الدينية للسلاطين العثمانيين دون انخداع أهل إيران بهذه الدعوة وانخراطهم بفقد استقلالهم في المجتمع السني بل إنهم خلافا لذلك كانوا دائما يتوددون ويرتبطون ببلاد المسيحيين الأوربيين وهم أعداء السلاطين العثمانيين في دفاع عن أنفسهم، وكانوا يستقبلون سفراءهم ويبعثون إليهم بمبعوثيهم"(64) واستمرت العلاقات الصفوية مع أوربا تتطور بسرعة مذهلة، واستمر تحالفهم فاتخذ أبعاد واسعة وخطيرة في عهد طهماسب ثم جاء عباس الصفوي ليبدأ بمعاهدة مع البرتغاليين عام 920ه في منطقة ميناب يتخلى بموجبها عن إمارة هرمز للبرتغاليين مقابل تعهد الحاكم البرتغالي البوكرك إمداد الشاه عباس لغزو البحرين وان تتحد البرتغال مع إيران ضد الدولة العثمانية. وتأكيد هذا الحلف أن السكان ثاروا ضد الاحتلال البرتغالي لسواحل الخليج العربي الشرقية والجزر خلال الفترة بين عامي 925-928ه ولم يجدوا في ثورتهم أي دعم أو إسناد من الشاه عباس الصفوي، لأنهم عرب وليسوا فرس، بل ولم يستنكر عدوان البرتغاليين على الثوار، وفي عام 1023ه تحول التحالف باتجاه بريطانيا عن طريق شركة الهند الشرقية، فكان من نتائجها أن احتلت بريطانيا مواقع البرتغاليين في الخليج عام 1030ه ثم احتلت بالتعاون مع القوات الصفوية قلعة هرمز وسمحوا للفرس بقطع رؤوس سكانها العرب وإرسالها إلى بندر عباس، وفي عام 1016ه كان روبرت شرلي يطوف أوربا سفيرا عن عباس الصفوي لتعزيز العلاقات مع دولها فزار المانيا واسبانيا وبريطانيا والفاتيكان، فيما كان هو وخمسة وعشرون بريطانيا ينهضون بمهمات تدريب الجيش الصفوي وتسليحه.
ثم جاء نادر شاه ( طهماسب قلي) ليتولى مقاليد السلطة والقرار في المرحلة الحاسمة لاقتراب الفرس من تحقيق أهدافهم وأهداف اليهود والصليبيين وأسلاف المرتدين من العرب معا، فقد تمكن الفرس من استعادة كيانهم السياسي والقومي وزادوا عليه مواقع جديدة من كل الجهات، فيما حقق اليهود والصليبيين مبتغاهم بأن مزقوا العرب شراذم بين الفرس والترك والروم، فيما أضافوا مكسبا آخر قد لا يقل أهمية عن سابقاته ذلك هو إضعاف الدولة العثمانية وإيقاف زحفها باتجاه أوربا.
كان نادر شاه قد تسلق قمة السلطة في إيران بطريقة توحي تماما بأن هناك أيد خفية كانت خلف حركته في الصعود من بائس فقير غير ذي شأن إلى الموقع الأول لدولة الصفويين الذين سبق وأن بنوا دولتهم بقميص التشيع، وأزهقوا في سبيل ذلك ملايين الأرواح التي أبى أصحابها التخلي عن الإسلام، وكان لابد وأن يفعلوا هذا فما كان بإمكانهم توحيد الشعوب الإيرانية إلا بفرض فكر يوحدهم، ولا يقربهم من العرب والأتراك، وكان التشيع الفارسي متشبعا بموروث الفرس و القوميات الأخرى، ومعززا بجملة واسعة من الخزعبلات والأساطير والموروث الشعبي بما أخرج التشيع بعيدا عن جادة الإسلام، مهمة نهض بها مجموعة من الفرس من أمثال ملا محمد تقي المجلسي الذي عاش في كنف عباس الصفوي، فوحدوا هذه الشعوب بالقسر والقسوة والإجرام على هذا التشيع الجديد.
ولما كان التشيع الصفوي قد أدى أغراضه في مرحلته الأخيرة فقد انتفت الحاجة للصفويين ولهذا تم عزل الشاه طهماسب الثاني بخديعة يتضح من تفاصيلها الجهات التي وقفت خلفها، خاصة وإن سبب الخلع كان اتفاقية أراد الشاه توقيعها مع العثمانيين بوقف الحرب بينهما، فقد وجه نادر دعوة للشاه طهماسب للقدوم إلى معسكره في أصفهان واستقبل الشاه"استقبالا فاترا وخلع على أركان دولته خلعا نفيسة، وأمضى الشاه الليل في المعسكر بناء على رغبة طهماسب قلي (نادر) وانشغل بشرب الخمر والسكر وارتكب في حاله هذه أمورا قبيحة فكشف طهماسب قلي هذه النتائج لهؤلاء الأركان الذين رأو منه قبل ذلك الخلع والإكرام، وبحجة أن مثل هذا الشاه لا يليق بالسلطة أعلن عزل الشاه طهماسب الثاني عن العرش"(65).
فبدأت مرحلة جديدة، هي مرحلة إعادة البناء الإمبراطوري الفارسي، تطلبت التخلي عن بعض مفردات بغض العرب والإسلام في التشيع انسجاما مع المتطلبات الجديدة التي يقتضيها الأمن القومي الإيراني، فعقد معاهدة مع الدولة العثمانية عام 1060ه تراجع فيها عن جوانب مهمة من التشيع بحلته الصفوية، يلتزم فيها تجنب الإيرانيين سب الخلفاء الراشدين.
طيلة هذا الزمن الذي تجاوز الألف وأربعمائة سنة لم يُمسك أحد من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم حقاً أسماه الفرس مغتصباً ولم يتول منهم أحد ملكا ولا حكما ولا ولاية دين أو دنيا، وهنا تجلت الحقيقة الأكيدة التي تفيد أن ليس لآل البيت في التشيع ناقة ولا جمل، بل كانوا وسيلة وأداة على غير رغبتهم وإرادتهم، اتخذها كل ذي غرض لتحقيق أغراضه، ولهذا لم يذكر العرب في هذه المعاهدات التي عقدها الفرس مدعي التشيع رغم أن أرضهم كانت حينها مقسمة بينهما، لكن الذي كان حاضرا دوما هي المصالح القومية.
وحين وجد نادر شاه أن التشيع بصيغته الصفوية صار شاذا، كشف عن وجهه القناع ونزع عنه جلباب الإسلام فظهر على حقيقته الأولى دينا لا صلة له بالإسلام وآل بيت النبوة، إضافة إلى أسباب أخرى، نفض يديه منه وقرر تحجيم دوره وتأثيره، مما حدى بدهاقنة التشيع للخروج من أوكارهم وتكدير الواقع الإيراني بالقلاقل بسبب " إصرار نادر على القضاء على المذهب الشيعي "(66) وهذا القول يُعدُّ من أصدق الأقوال لأن كاتبه كان قد رافق نادر شاه طيلة فترة حكمه.
ولم يكن نادر شاه معاديا للتشيع فيما مضى فقد كان شديد التعلق بالتشيع حتى تحققت كامل الأهداف التي كان يرى فيها الكفاية، وقد عمَّر مشهد وذهَّب قبتها وأضاف لها قبة أخرى ووسع أبنيتها ونظم فيها الحدائق ثم جعلها عاصمة ملكة، وكان فيما مضى يقايض العثمانيين على الاعتراف بالتشيع كمذهب من أجل الصلح.
أما الذي دفع به إلى ما أراد بالإضافة لما سبق فإن الأفعى برؤوسها أرادوا طرح سلَّم تسلقوا عليه حتى أوصلهم غاياتهم الرئيسية، وأصبح وجوده يشكل خطرا على الرؤوس الأخرى لأنه استحوذ على العقل الإيراني وسخره لأضاليله، فكان لا بد من أن يتراجع إلى حيث يجب أن يكون، فهو وُجِد أصلاً للهدم والتخريب لا للبناء والتعمير، لتقويض السلطات لا لتعزيز وجودها، لكن الذي لم يكن نادر شاه ليستوعبه أن أطماع الفرس لا تقف عند استعادة مجدهم الإمبراطوري، بل تتعداه إلى أبعد من ذلك بكثير، فالأطماع الفارسية لا تنتهي عند حد، وأرض العرب وخيراتها صارت مرة أخرى مطمعا ومطمحا، ولهذا تمسكوا بالتشيع.
وهكذا كانت المرحلة اللاحقة، فقد تعزز وجود الفرس على الساحل الشرقي للخليج العربي والجزر بعد أن أفرغوها من أهلها العرب ثم ألحقوا به إقليم الأحواز العربي الذي كان قبل اكتشاف النفط مع سواحل الخليج العربي مصدر تكالب الصليبيين على حلفهم الذي ابتدأ مع البرتغاليين ثم البريطانيين والفرنسيين والأمريكان فيما بعد، وقد منح كريم خان عام 1177ه للبريطانيين حق احتكار تجارة ميناء المحمرة عن طريق شركة الهند الشرقية، ثم استولوا على ميناء ريك وجزيرة خرج بعدما طردوا الأمير العربي مهنا عنها عام 1179ه، ثم توجهوا عام 1180ه نحو عمان ومسقط وحاصروا البصرة عام 1189ه واحتلوها عام 1190ه، وكانوا قبل ذلك قد احتلوا البحرين وهرمز.
تلك هي الأسباب التي أدت بساسة الفرس التمسك بالتشيع وتسفيه رغبات نادر شاه الذي قصُرت به المطامع عن هذا. رغم أنه تلمس فيهم ذلك العناد حينما جمع علماء السنة والشيع في النجف عام 1156ه-1743م وأقام مناظرة بينهم تمخضت عن انصياع الشيعة لمنهج السنة فتقرر التوقف عن السب والشتم والتكفير للخلفاء الراشدين والصحابة لكنهم بعد قليل ثاروا ضد هذا الأمر وأفشلوه لما شعروا بأنهم سيفقدون مكاسبهم المادية الهائلة.
ثم راحوا يستبدلون لفظة التشيع بالجعفرية وتنكروا لنادر شاه رغم تثبيته لدعائم دولتهم التي ابتدعوا التشيع أصلا في سبيلها، وتعذروا بأن كل حاكم أو ولي أمر قبل ظهور المهدي مغتصب لحقٍّ ليس له وإن كان متشيعا، مما دعا الخميني أن يجتهد ليجد حلا لهذه المعضلة، فتفتقت قريحته عن نائب الإمام التي أسماها ولاية الفقيه، وسيأتي زمن تكفره الشيعة كما كفروا البويهيين والفاطميين والحمدانيين والصفويين بعد أن تنعموا بما قدموه لهم من مكاسب، ولعل الخميني من الذين أرهقهم طول الانتظار فشنَّ غارته على الكرسي كنائب للمهدي وليس المهدي بعينه، ولولا علمه بحال الذين ادعوا ذلك قبله لما كان نائبا.
عام 1325ه أقدم حكام الفرس وسادة التشيع على خطوة أفصحت بجلاء عن حقيقتهم" فقد ازداد اعتماد الشاه على البهائيين والماسونيين واليهود، وكان إلغاء التقويم الهجري واستبداله بالتقويم الشاهنشاهي المجوسي "(67) فأي دليلٍ بعد هذا يجعل الذين توسخت عقولهم وتعفن وعيهم وشذَّ سلوكهم بمكر الفرس من أعراب العرب كي يهرعوا إلى البحار والأنهار فيتطهروا من دنسها؟
رأينا فيما سلف كيف يتقلب هؤلاء الفرس مُدَّعي التشيع من حال إلى حالٍ آخر حيثما تطلبت مصالحهم القومية وعدائهم للأمة والإسلام، فهذا الخميني تجده وكأنه مسلم حريص على الأمة العربية الإسلامية ووحدتها والدفاع عن شوكتها حين كان بحاجتها في خلافه للشاه وطمعه بعرشه فكان من أقاويله المسألة 2826 التي نصها" إذا هجم العدو على بلاد المسلمين، فمن واجب كل المسلمين الدفاع عنها بكل وسيلة ممكنة من بذل الروح والمال، ولا حاجة هناك لأذن من حاكم الشرع في هذا الأمر" ثم يؤكد هذه المسألة بالمسألة 2827 فيقول:" إذا خاف المسلمون أن يكون الأجانب قد رسموا خطة للاستيلاء على بلادهم سواء عن طريق مباشر أو عن طريق عملائهم في الداخل والخارج، فمن الواجب عليهم الدفاع عن بلادهم بأي وسيلة ممكنة" لكنه بعد ارتقاء العرش الشاهنشاهي عام 1979م بالقصة المعروفة نفى عن نفسه تقيتها وتنكَّر لكل هذا وأفصح عن حقيقته الفارسية الحاقدة على الإسلام والمسلمين وإشهار العداء لهم والكشف عن كل نواياه الخبيثة تجاههم مقتديا بسلفه مؤسس الصفوية إسماعيل شاه الذي فرض على آذان الصلاة بدعة الشهادة أن عليا ولي الله، وهو وأولاده المعصومين حجج الله، ففرض هو الأخر عبارة "خوميني رهبر"، وتحولت السلطة الغاشمة إلى "شعبة من ولاية رسول الله المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج" فالفقيه واجب الطاعة لأنه يمثل الإمام، ومن خالفه فقد خالف الإمام، ومن خالف الإمام فقد خالف الرسول، ومن خالف الرسول فقد خالف الله، فالخميني ومن بعده خامنئي هما الناطقان باسم الله، وقولهما مقدس كقول الله، وكما فعل الصفويون فعل الخوميني وأتباعه فتحولوا من تقية جهاد الأجانب الكافرين من يهود وصليبيين "الشيطان الأكبر" إلى توليهم والتكاتف معهم في سبيل ضرب العرب المسلمين حملة رايات الإسلام وعدله إليهم ولكل شعوب الأرض، فما تمكن الصهاينة والصليبيين من اجتياح العراق وتدميره إلا بعد أن أدى الخميني وشيعته الفرس دورهم كاملا، فقد كان الرأس المجوسي كما في المراحل السابقة فاعلاً بسمومه التي تغذت بكل أحقاد التاريخ وعقده يغرز بأنيابه في خاصرة العرب منذ عام 1979م ومابرحت حتى نجاح الغزاة في مسعاهم عام 2003م، ثم راحت بعد ذلك تنهش بلحمهم نيئا طريا.
إنَّ أدوار التشيع الفارسي في تسهيل غزو العراق عام 2003م والمساهمة الفاعلة في صفحاته كانت تعبيرا صادقا عن حقيقة إسلام الفرس وتشيعهم، والإسلام والتشيع منهم براء.
ولعل أهم ما استند إليه العملاء والجواسيس الذين عاشوا في أحضان الفرس قرابة الربع قرن من الزمن وتغذوا من أثداء حقدهم ومكرهم وكفرهم، هي الفتوى التي أطلقها الخميني ورسم بها لهم طريق الخيانة والجاسوسية والعمالة مواصلةً للحلف مع الصليبيين والصهاينة، رغم كل الخداع والأكاذيب وإدعاء العداء، الفتوى التي رسم فيها الخميني طريق أتباعه منذ كان يقبع في دهاليز النجف في العراق،الفتوى التي قال فيها:"وإذا كانت ظروف التقية تلزم أحد منا بالدخول في ركب السلاطين فهنا يجب الامتناع عن ذلك، حتى لو أدى الامتناع إلى قتله، إلا أن يكون في دخوله الشكلي نصر حقيقي للإسلام والمسلمين مثل علي بن يقطين، ونصير الدين الطوسي رحمهما الله"(68)أي التآمر بالمكر والخداع، ولو أن الخوميني تجاوز الأمثلة ولم يسم ابن يقطين والطوسي لمرَّت الفتوى على من لا يفقه حقيقة الفرس والخوميني، لكن الله أراد فضحهم بأمثلتهم القبيحة الذين شهدت عليها أفعالها ببراءة الإسلام منها، فابن يقطين هذا الذي يضعه الخوميني قدوة لحكومته المجوسية ويترحم عليه ويفخر بنصره للمجوس وليس للإسلام كان وزيرا لهارون الرشيد وكان شيعيا فارسيا، أمر غلمانه بهدم سقف السجن على خمسمائة سجين من غير الفرس وليسوا من شيعتهم فقتلهم كلهم غيلة، وادعى أنه كتب للإمام موسى الكاظم بن جعفر الصادق يستعفيه من وزر دمهم، وكأن ابن جعفر هو خالقهم، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ* قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً }(69)ثم يلفق جوابا على لسانه وهو براء منه، فيدعي أن الإمام أجابه: لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث أنك لم تتقدم إلي فكفِّر عن كل رجل قتلته منهم بتيس والتيس خير منه. كما روى علماء التشيع الفارسي ومنهم نعمة الله الجزائري في كتابه الأنوار النعمانية 2/308 طبعة تبريز، على أن مجزرة كهذه لم تكن لهم من تبريرات لها إلا لأنهم ليسوا من شيعة الفرس. ومع أن موسى الكاظم عليه السلام أجلّ من أن تُلصق به تهم باطلة من مثل هذه فإن ابن يقطين كان يملك من النفوذ ما يسهل له قتل الخليفة هارون الرشيد لأن الكاظم حبيس سجنه وذلك كان أوجب عليه لو كان حقا يحب آل بيت النبي أو يقتدي بهم. هذا إذن الذي يترحم عليه الخوميني، وهذا هو النصر الذي حققه للإسلام والمسلمين، أما الطوسي نصير المغول على غزو بغداد ومنجِّم هجومهم فغني عن التعريف وقد مرَّ ذكره.
فإذا كان قدوة الخوميني هؤلاء الذين ذكرنا ممن يفخر بهم فلا عجب أن يكونوا هو وإياهم قدوة لجواسيس الأمريكان مدعي التشيع لآل بيت النبي وهم منهم براء، الذين امتطى الغزاة طهورهم أو جاؤوا يزحفون خلف الدبابات الصليبية ليجتاحوا العراق بشرهم وحقدهم على العروبة والإسلام حين شعروا واستيقنوا أن العراق نهض من كبوته وقرر الانطلاق ومواصلة المسيرة الخالدة لأمة العرب برسالة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
فبشراهم قول الله تعالى: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}(70) دليل نفاقهم وكفرهم أرض العراق ودماء رجاله ونساءه وأطفاله التي أُريقت على ثراه، لا لشيء إلا لأنهم من شعب قاتل في سبيل الله طواغيت الأرض الذين جاءوا عبر المحيطات والبحار بافتراءاتهم وأكاذيبهم ليحتلوا أرضهم ويمنعوهم جهاد اليهود الكافرين الغاصبين ولينهبوا خيراتها، فكان هؤلاء الأدعياء عيون الطواغيت التي أبصرت له وجوه المجاهدين وأيديهم التي سفكت وأقدامهم التي دنست، فحق عليهم قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}(71) كلَّ يوم يضعون أمام الأنظار دليلاً جديداً على كفرهم، وها هم اليوم يريدون أن يحتكموا إلى الطاغوت ليجد الغزاة سبيلا على العرب والإسلام في الشام وديار العرب الأخرى كما فعلوا من قبل في العراق، والله تعالى مخزيهم ولو طال الأمد فجهنم لهم بالمرصاد.
------------------------------------ سورة البقرة، الآية: 36. سورة الرعد: من الآية11. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، م4، ص314، دار هجر ط1، القاهرة 1998م. سورة يونس، الآية: 108. سورة الإسراء، الآيات:62-64. سورة الإسراء، الآية:65. سورة طه، الآية: 120. ابن الأثير، مصدر سابق، ص487. ابن الأثير، مصدر سابق، م2، ص271. ابن الأثير، مصدر سابق، ص276. ابن الأثير، مصدر سابق، ص451. ابن الأثير، مصدر سابق، ص447. ابن الأثير، مصدر سابق،م3، ص47. ابن كثير، البداية والنهاية،ج11،ص104،دار هجر، ط1 القاهرة 1998م. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج13، دار الكتب العلمية بيروت. ابن كثير، مصدر سابق، ص124. ابن الأثير، مصدر سابق، م2، ص392. ابن الأثير، مصدر سابق، ص465. ابن الأثير، مصدر سابق، م3، ص88. ابن الأثير، مصدر سابق، ص268. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3،ص430،ط2، دار المعارف مصر. سورة الأنعام، الآية: 93. ابن الأثير، مصدر سابق، م2، ص124. ابن الأثير، مصدر سابق، ص86. ابن الأثير، مصدر سابق، م4،ص486. ابن الأثير، مصدر سابق،ص478. ابن الأثير، مصدر سابق،ص486. ابن الأثير، مصدر سابق، ص318،319. ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج3، ص190. ابن حزم، المصدر السابق. د.إبراهيم احمد عدوي، نظام المواطنة في الإسلام ومنجزاته للحضارة العربية، ص176، مؤسسة شباب الجامعة، الإسكندرية 2000م. ابن الجوزي، سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ص88، دار الكتب العلمية ط1،بيروت 1984م. ابن الجوزي، مصدر سابق، ص150. ابن الجوزي، مصدر سابق، ص66. سورة الرعد، من الآية:11. ابن الجوزي، مصدر سابق، ص107. ابن الجوزي، مصدر سابق، ص110. ابن الجوزي، مصدر سابق، ص136. ابن الأثير، مصدر سابق، مجلد4، ص 384-385. الزبير بن بكار، الأخبار الموفقيات، تحقيق د.سامي مكي العاني،ص37،38، عالم الكتب، ط2،بيروت 1996م. ابن الأثير، مصدر سابق، ص420. د. حسين مؤنس، تنقية أصول التاريخ الإسلامي، ص148، ط1، دار الرشاد القاهرة 1997م. عباس اقبال اشتياني، تاريخ إيران بعد الإسلام، ت، د.محمد علاء الدين منصور، ص9-10، دار الثقافة، القاهرة 1990م. المصدر السابق، ص19. المصدر السابق. المصدر السابق، ص33-34. المصدر السابق، ص35. المصدر السابق، ص40-41. المصدر السابق، ص41. ابن الآثير، مصدر سابق،مجلد7،ص184-185. المصدر السابق،مجلد7،ص217. عباس إقبال اشتياني، مصدر سابق، ص137. المصدر سابق، ص138. المصدر سابق، ص142. المصدر السابق، ص485. المصدر السابق، ص484. المصدر السابق، ص432-433. د.سعيد عبد الفتاح عاشور، بحوث ودراسات في تاريخ العصور الوسطى، ص9، دار الأحد البحري بيروت 1977. عباس إقبال اشتياني، مصدر سابق، ص423. المصدر السابق، ص428. المصدر السابق، ص429. الخميني، الحكومة الإسلامية، ص128، المكتبة الإسلامية الكبرى، طهران. عباس إقبال اشتياني، مصدر سابق، ص640. المصدر السابق، ص647. المصدر السابق، ص704. المصدر السابق، ص720. فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص31، مركز الأهرام ط4،القاهرة1991. الخوميني، الحكومة الإسلامية، ص142. سورة الفرقان، الآية: 17-18. سورة النساء، الآيات:138،139. سورة النساء، الآية:60. |
|||||||
|
|||||||
للإطلاع على مقالات الكاتب إضغط هنــا | |||||||
|
|||||||