تعدد الأصوات الواردة
لأذني من خلف باب الغرفة، أيقظتني من النوم مذعورة، وجعلتني أثبٌ من
السرير وثبة الأسد، لكني عدت وألقيت بنفسي فوق السرير عندما طرق مسامعي
صوت الدلالة حمدية، فاستنتجت أنها زائرة الصباح، جاءت لتنقل الأخبار
إلى أمي، وتمتص منها الأخبار، أو أنها جاءت باستدعاء رسمي منها
لتكليفها بمهمة خاصة ، أم إيجاد عروس أو عريس.
وقبل أن أغمض جفني وأغرق في النوم مرة أخرى، اقتحم سرمد ابن عاصي باب
الغرفة، ورمى بجسده الصغير فوق جسدي وأنا ممددة فوق السرير مثل
الأموات، فليالي نيسان باردة ساعة وحارة ساعة أخرى، علاوة على نشاط
البعوض الذي يبدأ يتقاطر علينا من كل فج عميق، ويزعزع نومي في الليل،
ولاسيما حينما تنطفئ الكهرباء، ويشح الهواء، فانتظر ساعات إلى أن يرد
التيار.
أظل أتقلب على السرير، وتردُ إلى رأسي عشرات الصور والمشاهد، ترد إلى
ذهني صورة رئيس الدولة وهو يغطٌ في نومٍ عميق لا تجرؤ أية بعوضة من
الاقتراب من نافذة الغرفة التي يرقدُ فيها ولا يعرف من أين يأتيه
الهواء، أو ربما أنه لا يشعر بالحر إطلاقاً، لأنه يسكن في قصر مبرَّد
أربعا وعشرين ساعة.
ترد إلى ذهني صورة ثري من الأثرياء، لا تنطفئ الكهرباء عنه، وإذا
انطفأت بطريقة خطأ، فلديه ديزل، يعمل إلكترونياً، ينام وتتحاشى البعوضة
والنملة الاقتراب منه.
أتقلبُ وعيناي تلمعان في الظلام، تقرصني بعوضة، بعوضتان، فأشتمُ رئيس
الحكومة، والوزراء، أرِّطب مكان القرصة بالماء البارد وأخرجٌ إلى
الحديقة، أجلس في الأرجوحة، أهزها ببطء ثم أسرع بها وأنا مغمضة
العينين، تنقلني صبية، تارة ألعب التوكي في باحة الدار إلى وقت من
الليل، فتخرج جدتي سُكينة لتسحبني من يدي بقوة وتجرِّرني إلى الداخل.
وتارة أخرى نلعب (الختيلة)، يصحبنا أبي إلى حديقة الزوراء، نحلِّق في
المراجيح وسكة الموت والسفينة والصحن الطائر ودولاب الهواء حتى وقت
متأخر من الليل، ليس هناك ما يخيفنا ولا يعكرّ صفوة حياتنا: لا مفخخات،
لا عبوات، لا قنابل يدوية، لا صواريخ طائشة، لا عصابات، لا مسلحين
مجهولين، لا ملثمين، لا قوات شرطة، لا صحوة، لا ميلشيات، لا فرق موت،
لا أرتال أميركية، لا همرات عراقية.
أصوات الطلقات النارية وأبواق سيارات الشرطة والنداءات الصوتية الصادرة
من (الميكروفونات) تزجني إلى الداخل تاركة الأرجوحة تتهزز وأوراق
الأشجار تتحرك باعثة حفيفاً ناعماً، وتعكرّ علي (خلوة) في الليل.
أتمدد في السرير، وأغفو دون شعور، أصحو في الليل لأجد (السبلت) مشتغل
والغرفة باردة وجسدي قد تصلبّ من البرودة.
أيام الجمع والعطل، يزيلُ سرمد الغطاء عن وجهي ويلسع خدي بلسانه، قال
لي هذا الصباح وهو يتلعثم ويلفظ (السين بالثاء): عمة ثرى، ببيبي تكول
خلي ُتكعد.
ثم دخلت شقيقته رند، وصعدت فوق السرير، واحتدم الصراع بينهما، يتصارعان
مثل الفأر والقط الشهيرين في كارتون (توم وجيري). ورغم أن سرمد هو
الأكبر إلا أنه يتلقى لكمات من رند الصغيرة لأنها مدللة والدها عاصي
الذي يعشق الصبايا، بينما سرمد هو مدللة (البيبي) في البيت.
وجود الأطفال في البيت يضفي نوعاً من المرح والنشوة، ولاسيما في هذه
الأيام التي يحيا فيها العراقيون منهكين، أنهكتهم فواجع الاحتلال.
فالأطفال يلهّون الجد والجدة ويخففون عنهم وطأة فقد ابن أو بنت أو
اعتقال أو اختطاف.
وفي بيت تكثر فيها العوانس، يكون الأطفال نعمة ونغمة، فعندما يهرم
الوالدان ويصفرّ عود البنت أو البنتين، وتصبحان مثل شجرة ذابلة أوراقها
في حديقة المنزل، حتى السقي لا يعيد الحياة لهما، تحتاج إلى بترها من
الجذور.
هكذا أشعر وأنا اُقبل على عنوسة قاسية في وقت قاسٍ حيث يهيمن الموت
والدمار والخراب على كل شيء حولنا. العنوسة تهيمن حتى على الأماكن التي
تحتوينا.
حملتُ رند وخرجت مع سرمد إلى المطبخ، كانت ٌأمي تجلس مع الدلالة
ّحمدية، تستلم منها أخبار بيوت المنطقة: هذا اعتقل، ذاك اغتيل، ابن
فلان يعمل مع الأميركان، وفلان ابنه مجاهد، نسميها وكالة أخبار الحي بل
أحياء بغداد.
كانت حمدية دلالةّ قبل الاحتلال، تلتقط الأخبار من السوق المركزي الذي
كانت تتردد إليه بشكل يومي، لتتسوق منه سلعا كثيرة بسعر، وتبيعها بسعر
آخر على نسوة المحلة لتؤمّن عيش أسرتها، تطلع على أسرار أغلب أسر الحي.
عندما رأيتها جالسة مع أمي، توقعتُ أنها تنقل أنباءً لأمي. ففي اليوم
الذي تزورنا فيه، تكون أمي مكتنزة بأخبار المنطقة برمتها.
بعد الغذاء، غيرت أمي ثيابها وارتدت عباءتها وطلبت من عاصي أن يأخذها
معه في السيارة إلى حي العامل، قالت: نصر ابن جارتنا سلوى، قتل وهو
يلعب البليارد في الصالة.
قالت هند: (شودىّ للبليارد).
رد عليها عاصي بغضب: يعني شنو، نبطل ما نلعب.
وقال عاصي: قبل يومين، سمعت خبر الانفجار من قناة الشرقية، وقع انفجار
بعبوة ناسفة داخل صالة لعب البليارد في حي العامل، تبعه انفجاران
بعبوتين أخريين، آخر عند باب الصالة مما أدى إلى مقتل شخصين وجرح 14
آخرين.
عندما عادت أمي، كانت عيناها حمراوين من شدة البكاء، قالت إن أمه
تولول، وتنوح (وتلطمُ على رأسها)، نصر آخر العنقود، وتحكي أن نصر كان
مستاءً من الجلوس في البيت، خرج في الساعة الرابعة والنصف مع صديقه
كمال ليلعب بليارد لفترة نصف ساعة ويعود ليقرأ، عنده امتحان صعب في
مادة الرياضيات التي يكرهها، بعد ربع ساعة، سمعنا انفجارا ورجع نصر
وكمال جثثا.
قالت أمي، وهي تقص علينا حالة أم نصر: قبل يوم، كان مستاءً ومنزعجاً،
وقال (كل يوم هناك موتى في بغداد). وكان يسمع الأخبار من الفضائيات.
انفجرت أربع سيارات مفخخة واستهدفت مساجد في مناطق الدورة والحرية
والأمين والصدر والرحمانية وقتلت 54 شخصاً و180 جريحا آخرين. تصاعد صوت
أمي في الصالة، وهي تزجر سرمد ويتشاجران بسبب التلفاز، سرمد استلم
(الكنترول) وأدار على قناة (space toon) وأمي تود سماع الأخبار، عندما
دخلت، فشلت في التفاوض مع سرمد وإقناعه بتغيير القناة.
قلت لأمي: اتركي الصبي يستمتع بتوم وجيري، لا جديد في الأخبار، بغداد
غارقة في الدم، هناك قتل واختطاف واعتقال.
ردت: (لا يمة)، أريد أسمع، هذولة (الكواويد) شكلوا حكومة لا.
أقول لها: لم يشكلوا، ولن يشكلوا.
تردٌّ وعيناي تسرقان مشهدا لمطاردة بين توم وجيري: مو راحو للسعودية
يمةّ، ولمصر، ولإيران.
يقهقه سرمد ضاحكاً وهو يبحلقٌ في الكارتون، وأكركر معه في الضحك وأقهقه
بصوتٍ عال، ونظرات أمي مصوبة نحوي مثل خنجر مسلول.
|