الساعة الحادية عشرة ليلاً
بتوقيت بغداد، وطائرة أميركية تجوب السماء وتحوم بجنون، صوت محركها
مزعج يسبب الصداع، ولا يبعث على الطمأنينة، منذ نصف ساعة تقريباً،
ونظرات بعضنا تفترس سحنات البعض، لا أحد منا يجرؤ على التعبير عن خوفه،
يكسر سرمد ابن عاصي صمت الصالة وهو يتحدث إلى جدته: بيبي ضوجني صوت
الهيلكوبتر.
ترد الجدة: بيبي، الله يلعنهم وينتقم منهم.
يدبر هزيع من الليل والهليكوبتر لا يزال يحوم في سماء بغداد مثل مجنون
ظلّ طريقه. تؤذن مساجد اليرموك والطائرة لا تزال تنطَّ من مكان إلى
مكان، تسبقني أمي إلى الوضوء وأسمع صوتها، وهي تستغفر وتسأل الله أن
تهوى أرضاً وتصير ركاماً وتشوى لحوم الجنود الأميركان وتحترق في داخلها
وتتناثر في الحقول والمزارع.
يعلو صوت مؤذن جامع أم الطبول القريب من المنزل: (الله أكبر .. الله
أكبر
لا إله إلا الله)، يوسد قلبي بشيء من الخشوع والطمأنينة.
في الصباح، أخذت إجازة من الدائرة وركبت سيارة تاكسي لتوصلني إلى
عراصات الهندية في الكرادة. رفع السائق صوت المسجل وكان سعدي الحلي
يشدو مثل طائر حزين أغنيته الشهيرة (عشك اخضر)، أطفا المسجل حين انتهت
الأغنية، وظهرت موسيقى أغنية (لا يولدي).
السائق ليس كبيراً في السن لكن الشيب الذي غزا مفرقيه يوحي بأنه (شايب)
في أواخر عمره. طلبت منه إعادة تشغيل المسجل فابتسم، ثم قال ضاحكاً وهو
يتلصص في المرآة: إني مو شايب بس الضيم شيّبني!
فأجبته: وأنا عانس من ضيم الاحتلال وجوره.
سألني: خمنيّ كم عمري! خمسون .. خمسة وخمسون .. ونحن نتحاور، تعالى صوت
سعدي الحلي من مُسجل السيارة، فتوقف السائق عن الحوار برهة والحلي ألجم
صوتي أنا بأغنيته التي تهزّ البدن حين تسمعها:
لا يولدي تدري الكبر هدني
إني أتعبت ردتك تساعدني
مو تالي شيبي يا ولدي تذبني
ربيتك وأنت التعذبني
لا يولدي بان الكبر بان
وهذي جزات الزين نكران
قال السائق: أغنية معبرة. فيه آسى عميق. فيه هذا الحزن العراقي
المشهود. كل شيء في هذا البلد مميز حتى الحزن والألم.
رنّ جوال السائق فانقطع الحوار، ثم أطفأ السائق المسجل وشغَّل الراديو
حين طال صمتي وشارفت الأغنية على الانتهاء، أردف قائلاً: اتصلوا بي من
البيت ليطمئنوا أني لست ببعيد عن موقع الانفجار، أنا سائق تاكسي، أهلي
يقلقون عليّ إذا وقع انفجار في أي منطقة ببغداد، (إحنا ملجومين ست)،
ابني رائد كان سائق تاكسي قتل بانفجار عبوة ناسفة في المنصور، ظهر صوت
المذيع وهو يقرأ في خبرٍ عاجل لانفجار سيارة مفخخة قرب إحدى السفارات.
قال المذيع وهو يتلو نص الخبر: "قتل ما لا يقل عن ثلاثين شخصاً وأصيب
أكثر من مئتين بجروح بهجمات انتحارية بواسطة سيارات مفخخة هزت بغداد في
أعنف هجمات منذ انتهاء الانتخابات، واستهدفت سفارتي مصر وإيران في حين
وقع الثالث بين السفارتين الألمانية والسورية".
رنّ جوالي وظهر رقم أمي على الشاشة، قالت حين ضغطتُ على زر المكالمة:
سُرى، تعالي بسرعة إلى البيت، المفخخات غزت بغداد من كل جهة، الله يستر
اليوم.
قلتُ لأمي: أنا في السيارة والسيارة محصورة، لا تسير إلى الإمام وليس
بإمكانها التراجع، أمامي أكثر من مائة سيارة والطريق مقطوع، أمامنا
سيارات الشرطة وخلفنا سيارات الحرس الوطني، وقوات المالكي استحلت
الشارع الآخر. وأبواق السيارات كلها تزمر.
قالت: بنتي انزلي من السيارة وسيري على قدميك، هذا أحسن لك وأسرع.
فتح السير وتقدمت السيارة خطوتين إلى الإمام، وقطع الاتصال مع أمي،
وكان المذيع لا يزال يواصل تكملة بث خبر الانفجار: "وقالت مصادر أمنية
إن (تأكد مقتل ثلاثين شخصاً وإصابة 224 آخرين بثلاثة هجمات انتحارية
استهدفت اثنتان منها سفارتي مصر في حي المنصور (غرب)، وإيران في منطقة
الصالحية (وسط). وتابعت أن الهجوم الثالث وقع في مكان مجاور لمقر سكني
تابع للسفارة الألمانية في حي المنصور غير بعيد عن سفارة سوريا أيضا.
واستهدف الانفجار الأول سفارة مصر في شارع الأميرات في حي المنصور
الراقي".
أطفا السائق الراديو وأعاد تشغيل المسجل وكانت المقدمة الموسيقية
لأغنية (أجيب الصبر) قد بدأت فألزمتنا بالصمت بدأت تحلّق بنا في سماء
بغداد الحزينة المثقلة بغيوم الاحتلال وعواصفه الترابية المغبرة.
|