اضطر عاصي أن يعود من حيث أتى، هناك قطع في الشارع بجدران من الكونكريت
المسلح، انسحب للخلف واستدار للمرور في الشارع الآخر، قال والغضب استبد
به: قبل يوم، لم يكن الشارع مقطوعاً. سأل شخصاً كان يتمشى في الشارع إن
كان الشارع الآخر قد قطع ايضاً، أجاب الرجل: "عمي والله ما اعرف، ما
تعرف بأي ساعة يكطعون الطريق". وأردف قائلاٌ: انفجرت عبوة ناسفة في هذا
الشارع مساء أمس، وأصابت دورية للشرطة كانت مارة من هنا، فجلبوا
الكونكريت المسلح وقطعوا الطريق، لا أعرف مصير الشوارع الأخرى.
كانت سرب المتسولات لا تزال تتوالى على عاصي الغضبان، امرأة طاعنة في
السن ترتدي أسمالا بالية، تعصبُ عينيها بقماش أسود، تقودها صبية صغيرة
في الخامسة من عمرها، تقدمت نحو عاصي، وراحت تمد يدها وتستعطفه ليعطيها
بعض المال من مال الله. أهملها عاصي لكن زوجته هند مدت يدها من النافذة
وأعطت الصبية ألف دينار، واصل عاصي السير، عندما توقف خلف إحدى
السيارات التي كانت تجتاز (الطسّة)، تقدمت عجوز آخر نحو عاصي فصرخ بها
(الله ينطيج يمة). عندما حاولت هند أن تعترض على أسلوبه مع المتسولات،
قال عاصي: هناك شركات تتبنى عمل المتسولات، تقوم سيارات خاصة بتوزيعهنّ
على أحياء بغداد والمحافظات للتسول مقابل حفنة من الدنايير، تركن العمل
وشرعنا في التسول.
قالت هند وماذا يعملن، منذ متى وشقيقي كريم عاطل ويبحث عن العمل. انطلق
عاصي بأقصى سرعته عندما وجد الطريق مفتوحاً أمامه تاركا هند تلعك في
الكلام لوحدها.
عندما وصلنا شقة وئام، كانت سميرة شقيقة هند الأخرى قد وصلت للتو من
الفلوجة، كانت هي الأخرى قد رزقت بصبية قبل أقل من شهرين. قالت سميرة:
إن الصبية تعاني من تشوهات خلقية في الرأس والقدمين، والأطباء أبلغوها
أن أمر شفائها من سابع المستحيلات، فأغلب الأطفال الذين يولدون في
الفلوجة، يعانون من تشوهات خلقية حسب أخصائيين في الطب الإشعاعي، ويعود
إلى تعرض بعض المناطق في العراق إلى إشعاعات من اليورانيوم المنضب،
الذي يعتبر من الأسباب الرئيسة لهذه الحالة، والتي تعرضت لها الأمهات
في السنين الـ 15 الماضية؛ نتيجة الحروب والغزو الأخير لبغداد.
وقالت سميرة إن لجارتها فريال ابنة كتب الله لها أن تعيش بعاهة وتشوه
خُلقي حيث ولدت بأطراف صغيرة ورأس كبير، نسبة إلى جسدها الطفولي الذي
لم يتغير؛ وقال سيف زوج سميرة إن أميركا ألقت الأطنان من المتفجرات
والقنابل المحرمة خلال الــ 15 سنة الماضية على هذه المدينة وغيرها،
فكيف تلد النساء أطفال أصحاء بدون تشوهات.
سميرة تبكي بحرقة وتندب حظها العاثر وتقول بألم: لم يبق طبيب في بغداد
إلا وعرضتُ الصغيرة عليه، بعتُ أثاث بيتي وذهبي لعلاج هذه المسكينة
التي لا ذنب لها سوى إنها تلد في بلد محتل تهيمن عليها أميركا وتحيل
حياة أفرادها جحيماً لا يطاق: الأطفال ولدوا مشوهين، والشباب والرجال
أما قتلوا أو إنهم أسرى في المعتقلات، ومن بقي منهم في الخارج غير آمن
على حياته وحياة أسرته. النساء أرامل والفتيات عانسات: أي حياة هذه يا
رب وأي مصير أسود نواجهه اليوم وغداً وبعد غدٍ.
توقفت عن كلمة العانسات التي قالتها سميرة وهي توجه بصرها نحوي كأنها
تقصدني إنا بالذات. قلت لها: هذا هو المحتل، هل كنتن تتوقعن أن يجلب
لكن المحتل، باقات الفل والياسمين والجوري الأحمر، ويقوم بإيصال السلع
الغذائية إليكنّ في البيت، ويضيف أربعين مادة غذائية على البطاقة
التموينية وتنعمن بالكهرباء على مدار الأربعة وعشرين ساعة؟!
جلس عاصي وسيف وحازم زوج سميرة في غرفة الاستقبال بعد أن أصر حازم على
عدم مغادرة عاصي قبل تناول الغذاء، يتبادلون الأحاديث ويقهقهون بصوت
عالٍ، يسمع صداها في الصالة التي جلسنا إليها نحن النسوة الأربعة. دقّ
جوال حازم وتحدث إلى الشخص المتصل مبدياً اعتذاره عن الخروج من المنزل
قبل ثلاث ساعات بسبب الضيوف.
وقص حازم على ضيوفه قضية نصب واحتيال تعرض له صديقه رحيم فقال إن هناك
شبكات كبيرة للنصب والاحتيال تقوم بالاحتيال على المواطنيين وتستخدم
أسالييب ذكية بهدف سحب مبالغ طائلة منهم ولاسيما في الأحياء الراقية
والتجارية من بغداد مثل اليرموك والمنصور والكاظمية وباب المعظم وشارع
فلسطين والبياع.
وقال حازم إن صديقه رحيم وقع في الفخ عندما استولت العصابة على مبلغ
كبير يقدر بخمسة ملايين دينار عراقي فقد تعرض إلى عملية نصب من قبل شخص
ادعى أنه طبيب قادم من دولة الإمارات العربية ويتكلم اللهجة الإماراتية
وعرض عليه جملة من البضائع يروم بيعها، وأخرج من جيبه بسرعة كمية من
المال وقال إنها باونات إنكليزية، ويريد أن يستبدلها بالدولار
الأميركي، وفي تلك الأثناء جاء شخص آخر من أفراد العصابة أو الشبكة
وعرض هذا المحتال عليه الأمر ذاته، وسرعان ما نظر إلى ساعته وقال إن
اجتماعاً ينتظره مع بعثة الصليب الأحمر في إحدى فنادق بغداد الراقية،
فاستأجر سيارة وعرض علي الذهاب معه فذهبت وأنا مذهول.
وأشار إلى أن السائق الذي استأجره اتضح فيما بعد أنه أحد أفراد العصابة
وأقنعه بطريقة ذكية أن الموضوع سري، وذهب السائق معه إلى البيت حيث جلب
النقود وكذلك إلى المصرف حيث سحب النقود الأخرى التي في دفتر توفيره
وبقي معه السائق أكثر من خمس ساعات إلى أن أوصله إلى مكان أحد الفنادق
في بغداد حيث لم ينزل السائق، وإنما ركب معه الدكتور والشخص الذي تكلم
معه وعندما تحركت السيارة خطوات أعطاه النقود (الباونات) واكتشف فيما
بعد إنها مزيفة وأنزلوه من السيارة في الشارع وتبين أن النقود التي
تسلمها عملات لا قيمة لها.
وقال حازم إن رحيم ذهب إلى مركز الشرطة وسجل إفادته أمامهم وأمام قاضي
التحقيق وهو يائس حيث فقد (تحويشة) العمر، ويتأمل أن تلقي الشرطة القبض
على العصابة ويسترجع نقوده.
أسمع صراخ ابنة سميرة المريضة وأتامل وجهها البرئ، أتساءل أي ذنب
ارتكبت هذه الطفلة يا إلهي لتتعذب وهي لا تزال صغيرة وتشقى عندما تكبر،
رحماك يا ربي، ارحم هذا الملاك الصغير، فإما أن تعيد لها عافيتها
وتشفيها من علتها، أو أن تتكرم عليها وتأخذها بجوارك؛ لكني أعود
واستغفر الله واسأل منه التوبة وألعن المحتل وكل من سار في ركبه، فقد
جلبوا لنا العاهات والأمراض والعنوسة والموت الأبيض والأصفر والأسود
وبكل إشكاله وألوانه.
|