جميعنا يذكر كيف أثار الاحتلال السريع لبغداد لغطا لمّا ينته بعد،
وشكوكا ما زال بعضنا يثيرها، واتهامات يحرص كثيرون على استعادتها
والترويج لها تشفّيا أو استنقاصا أو تيئيسا. مثلما يحرصون في كلّ
مناسبة على تناول مسألة المتطوّعين العرب الذين شاركوا في الدفاع عن
بغداد بنبرة فيها الكثير من التجنّي والنيل من أولئك الذين ارتضوا
مقاتلة العدوّ الغازي.
من الضروريّ في ذكرى أليمة كهذه التي نعيشها اليوم التذكير بأنّ مشاركة
العربيّ في الدفاع عن أيّ جزء من وطنه الكبير ليست بدعة، ولا هي أمر
طارئ استدعته طبيعة المرحلة، أو اقتضته ظروف مؤقّتة أو مصالح محدّدة.
ولنا في التاريخ القريب والبعيد أمثلة ساطعة لا تقبل النقض. فالذين
شاركوا في الدفاع عن فلسطين منذ الانتداب البريطانيّ وحتّى حرب 1973
أكثر من أن يحيط بهم عدّ. جاؤوها من كلّ فجّ عربيّ عميق هدفهم صدّ
العدوّ والمشاركة في الدفاع عن الأرض العربيّة وعن الشرف العربيّ. بل
إنّ قوافل العرب الذين أسهموا في الدفاع عن فلسطين ومقاتلة
العدوّالصهيونيّ لم تتوقّف حتّى بعد قرار النظام الرسميّ العربيّ إلغاء
الحرب من قاموس علاقاته مع "إسرائيل" واعتماد السلام خيارا استراتيجيّا
وحيدا.
كذلك كان الشأن مع لبنان أثناء الغزو الصهيونيّ سنة 1978، ثمّ أثناء
الاجتياح الشامل لها في صائفة 1982، وهو ما جعل مفهوم وحدة النضال
القوميّ يتعزّز واقعا معيشا وممارسة يوميّة بعيدا عن الشعارات الآسرة،
وبعيدا عن العواطف المتوهّجة.
كلّ ذلك حدث في محطّات كثيرة.. ولم يكن أحد يجرؤ على التشكيك في صدق
نوايا المقاتلين العرب، ولا في نبل المقصد، أو شرف المهمّة. فما الذي
حدث في العراق سنة 2003 وما تلاها حتّى ينقضّ المناوئون للعروبة ولوحدة
النضال القوميّ يرمونهما بسهام الحقد والتشكيك والاستنقاص؟
لا أحد كان يعرف على وجه الدقّة أعداد هؤلاء المتطوّعين العرب. ولا أحد
يستطيع أن يؤكّد أنّهم بعثيّون أو وهّابيّون أو... أنّهم تحمّلوا مخاطر
السفر إلى العراق للدفاع عن نظام الرئيس الشهيد صدّام حسين، تماما
كأولئك الذين خاطروا بأرواحهم وهم يَعْبرون الحدود إلى أفغانستان بعد
الغزو السوفياتيّ، أو أولئك الذين هبّوا على عجل لمقاتلة القوّات
الصربيّة في البوسنة والهرسك في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
كلام كثير قيل عن أولئك المتطوّعين العرب الذين لبّوا نداء عروبتهم،
واستجابوا لأشرف مهمّة واستُشهدوا دفاعا عن أرضهم. وكثير منهم يرقد
الآن في مقابر تضمّ أجسادهم الطاهرة في طول البلاد وعرضها. وكثير من
العراقيّين لا يعرفونهم بأسمائهم لأنّ بعض القبور لا تحتفظ بالأسماء.
لكنّهم لا يذكرونهم إلاّ مسبوقين بآيات الثناء والإعجاب، ولا يتناولون
موضوع الفدائيّين العرب إلاّ ليجدّدوا العهد على وحدة النضال ووحدة
المصير بين أبناء الأمّة الواحدة.
من غير المدهش حين نعرف مكانة هؤلاء المقاتلين العرب في نفوس
العراقيّين الشرفاء أن نجد أبناء منطقة الأعظميّة في بغداد يكرّمون
شهداء العروبة والوحدة ويخلّدون ذكراهم، فيهيّئون لأجسادهم الطاهرة
مساحة مخصوصة لهم وحدهم دون سواهم اختاروا أن تكون مباشرة في حديقة
جامع (أبو حنيفة النعمان).. وهي المقبرة التي أصبحت مزارا يوميّا
لأبناء الأعظمية والقادمين إليها ليقرؤوا سورة الفاتحة على أرواح هؤلاء
الذين سقوْا أرض الرافدين بدمائهم الزكيّة.
أمّا أولئك المقاتلون العرب الذين قيل إنّ عراقيّين اعتقلوهم وقتلوهم
ومثّلوا بجثثهم وتركوها أيّاما في العراء قبل دفنها، أو سلّموهم إلى
القوّات الأمريكيّة المحتلّة، فإنّنا أصبحنا اليوم على يقين أنّ
"العراقيّين" الذين ارتكبوا كلّ تلك الشنائع والفظائع وخانوا الدّم
والعروبة والأرض لم يكونوا هم الممثّلين الحقيقيّين أو الشرعيّين
للعراق، فهم أنفسهم الذين جيء بهم لإحراق المكتبات ونهب المتاحف وسرقة
كل الممتلكات العامّة وتخريبها وإحراقها وتدمير كلّ مؤسّسات الدولة بل
هم الذين لم يَسلم من أذاهم حتى مستشفى الأمراض العقليّة في بغداد.
أمّا الفدائيّون العرب فقد أرّخوا سفرا خالدا في تاريخ المقاومة
العراقيّة لن يستطيع الأتباع والأنذال التشكيك فيه وفي صدقه وعظمته.
|