لم تغزو العالم دعاية
بارعة كما غزته الدعاية اليهودية التي نالت عواطف الكثير من البشر
وخاصة الساسة وعلماء الاجتماع بل وحتى الفنانيين الذين راحوا يتغنون
حزنا وغضبا لما اصاب اليهود من موت جماعي على يد ما يسموه هم (المحرقة
Holocaust)حتى غشي على اعين الناس مئات المحارق التي طالت البشر هنا
وهناك ولم يتذكرها نفس العالم الذي ما زال يذرف دمعا احر من الجمر على
قتلى اليهود ابان الحرب العالمية الثانية.ليس هذا فقط بل نسي العالم
ذاته ملايين قتلاه من الاوربيين في نفس المعارك العالمية حتى اختصر
مأساة العالم بقتلى اليهود وكأن البشر الاخر الذي تم ايداع جثثه للهوام
او بين الحفر الجماعية ليس ببشرا له يوما ما طموحاته بالعيش وامنياته
بالوجود السعيد..فملايين قتلوا في اوروبا وملايين اختفوا في وهاد
الاتحاد السوفيتي السابق وملايين جمدوا شمال سيبيريا من الشيشان
بأطفالهم ونسائهم وشيخوهم وملايين تواروا في الصين وملايين قضوا في
كمبوديا والادهى من ذلك مئة مليون من البشر سكنة الولايات المتحدة من
الهنود الحمر قتلوا وتمت ابادتهم كما تتم ابادة الذباب بغبار الدي دي
تي ولم يبكي عليهم احد..لقد جاءت اغنية( بابلونBABYLON )المليئة
بالشفقة والنحيب لتصور مأساة اليهود التاريخية منذ عصر البابليين والى
اليوم وقد شغفت بها كثير من العواطف البليدة ووقفت رقم واحد No.1
ولاسابيع طويلة في بلاد الغرب..؟!
يقول الكاتب ديفيد ديوك((يكاد يكون من المستحيل ,في عالم متخم بالمحرقة
,حتى مجرد لفظ كلمة (يهودي)دون اثارة العواطف.ان ما اوصل الامر الى هذا
الحد هو وسائل اعلام العالم الغربي التي ما فتئت تسوق (المحرقة)باشكال
مختلفة,حتى ان الكلمة التي تعني المحرقة وهي(HOLOCAUST),صارت تكتب
بحرف(H)كبير,علامة تجارية لتلك الدلالة,كما يقول المؤرخ
البريطاني(ديفيد ايرفينغDavid Irving:ايرفنغ,ديفيد(1994)تقرير عمل,طبعة
خاصة):لقد تحولت المحرقة من حدث ثانوي في الحرب العالمية الثانية الى
موقع غدت فيه الحرب نفسها مجرد ملاحظة تاريخية هامشية للمحرقة.فخلال
السنة السابقة لنشر هذا الكتاب وحدها ,أي بعد اكثر من 50 سنة على نهاية
الحرب العالمية الثانية ,نشرت جريدتنا اليومية المحلية(ذا تايمز
بيكايون The Time-Picayune)عشرات من الاخبار والمقالات التي تصف جوانب
عديدة من المحرقة ,وفي تلك السنة ذكرت الصحيفة ذاتها بوضوح(القولاق
السوفيت)حيث مات 20-40 مليون نسمة ,وذكرت حكاية واحدة فقط عن مقتل
ثلاثة ملايين كمبودي ,ولم تنشر أية مقالة حول مذبحة 30-40 مليون في
الصين الشيوعية(الحمراء),)).
كما يضيف الكاتب ديوك((ولدى اطلاعي على الملف الصغري (مايكروفيش
Microfiche)للجريدة,اكتشفت انه نشر في اواخر تسعينات القرن العشرين من
المقالات الاخبارية عن المحرقة ما يفوق عشرة اضعاف ما نشر في اواخر
اربعينات او خمسينات القرن نفسه على الاقل.ومن النادر ان يزداد الحديث
عن واقعة ,او ان يكتب المزيد عن حدث كلما اوغل في القدم ,فمثلا,استغرق
موضوع الحرب العالمية الثانية جزءا كبيرا من الافلام السينمائية وبرامج
التلفاز والوثائق والكتب ومقالات المجلات في اواخر خمسينات القرن
العشرين اكثر مما استغرق اواخر تسعينات القرن نفسه,اما فيما يتعلق
بالمحرقة ,فالامر ليس كذلك:اذ كلما اوغلنا في الزمن مبتعدين عن لحظة
وقوع الحدث ,كان قرعه لرؤوسنا اكثر بفضل اتساع صناعة المحرقة.
تلك هي البراعة في صناعة الاعلام الخادم للقضية اليهودية ووجود تلك
المجموعة البشرية التي استأثرت بعواطف دهاقنة سياسة العالم واقتصادييه
وعلماء اجتماعه بل وراحت تحاكي بالخطاب الفني الرومانسي الاخاذ من خلال
اختطاف ابرع الفنانين ليتغنوا حزنا على محرقة اليهود وليستميلوا اسماع
واذان البلايين من البشر نحو مأساتهم التي نحتوها نحتا مذهلا في ذاكرة
الاجيال البشرية وفي كل العالم بل وما زالوا يحسنون صنعا لواقعة
المحرقة ويوضفوها لصاحهم وكأنهم الشعب المقهور بين الشعوب لا الشعب
الذي يتمدد اليوم بين اضلاع السياسة العالمية ويسيطر عليها حتى امسى
اليهود اليوم يقودون العالم من حيث يدري او لا يدري والدافع لاجر تلك
القيادة والمنفق عليها هو عالم اخر يمتلك الغنى ويفتقر الى الاسلوب
والحساسية الفكرية ومنه العالم العربي السياسي الذي فشل تماما في توضيف
محرقته المتواصلة ومنذ نهاية الحرب العالمية الاولى والى اليوم في
تبريز مأساته واستعطاف العالم لقضيته وهو يخسر كل يوم الاف البشر ومئات
الهكتارات من اراضيه لكنه عاجز غاف عن ايصال رسالته الى العالم والى
ملتقيات هذا العالم من خلال الاعلام الموجه الذكي ومن خلال ديمومة
الطرق والتذكير بمسببي مأساته من جهابذة ساسة العالم بدأ من تقسيم
الوطن العربي الى كانتونات الى استلاب فلسطين واجزاء اخرى من الوطن
العربي وانتهاءا بصدمة احتلال العراق ..
ان احتلال العراق ومجازره وتدمير بنيانه وبشكل لم تألفه البشرية من قبل
لهو اكبر محرقة تطال العالم العربي وتتربع كأبشع جريمة اقترفها الانسان
بحق الشعب العراقي..اذا ما قارنا محرقة العراقيين بمحرقة اليهود فسوف
تتقزم الحالة التي يدقون عليها الصهاينة وسوف تنبري مأساة العرب كأفدح
مأساة وافجع جريمة اقترفتها اميريكا بحقنا وبحق الكتلة العربية التي ما
زال سياسيوها غافين عن الحقيقة وما زال اعلاميينا العرب ابعد ما يكونون
عن اعطاء مأساة ومحرقة العرب ابعادها وتجذيرها في عقل البشرية علها تعي
الجريمة الكبرى التي اقترفتها بحقنا وعلها تستهون محرقة اليهود التي
حصلت في زمن محدد وليست بالضخامة التي يصفونها قياسا بمأساتنا نحن
العرب.الفنان العربي والوثائقي العربي نكاد ان نقول عنه ان فشل في
اشغال الفكر العالمي بقضيتنا بل وكل المحاولات الاعلامية التي جرت
والتي تجري اليوم ما زالت في طفولتها تبحث عن طريق ما تظهر من خلاله
محاولة تأسيس وجودها وتلمس طريقها على استحياء..
ان الثورة الاعلامية الشرسة العربية وعلى بساطة بداياتها الحقيقية
والتي تحاول الوصول الى العقل العالمي قد بدأت فعليا على اثرصدمة
احتلال العراق تلك الهزة العنيفة التي ايقضت الضمير العربي وجرجرت بعض
كتابه النبهين والشجعان والفدائيين كي يحاولوا الكتابة العالمية
ويتعلموا كيفية كتابة الرسالة القضية التي يمكن لها ان تلامس الفكر
العالمي وتلويه كي يقرأها بعد غياب طويل عن ميدان الكتابة العالمية
والولوج في النادي الاعلامي الاممي..صحيح ان تاريخ الاعلام العربي
العالمي قد سجل حضوره سابقا لكن هذا الحضور كان مقتصرا على عدد قليل
جدا من الكتاب العرب والذين ظهروا ليس من خلال الكتابة عن المحرقة
العربية بل من خلال الكتابة عن الشخصيات العالمية التي برزها اصلا
الاعلام العالمي حتى اصبحت جواز السفر والهوية لتبريز أي كاتب في زمن
مضى..هنا فشلت فلسفة الكتابة العربية في خدمتنا حيث توجهت الى الزيادة
في ابراز الشخصية والواقعة غير العربية من ناحية ومن ناحية اخرى امسك
الكاتب العربي سابقا بأذيال الاعلام العالمي وبأبطاله ليتعلق وبسرعة
صانعا مجده من خلال تسهيلات ذات الشخوص العالمية ومؤسساتهم غير العربية
التي كتب عنها فكانت له الطريق والخيط المعلق كي يظهر عليه الكاتب
العربي..
اليوم العرب بحاجة الى كاتب يجعل من اهليته الاعلامية ماكنة دقيقة
وثاقبة للفكر العالمي حتى يولج فيه ومن ثم يغذيه بالمحرقة العربية التي
طالت كل شئ والتي اصبحت بضاعة اعلامية بور لمن يريد ان يزرعها كي يحصد
العالم العربي ثمراتها النقيعة بدم الكاتب الثائر والمقاوم لكتاب محرقة
اليهود والكاتب العربي الفدائي المقاوم لالة الاعلام الغربية واليهودية
التي استطاعت ان تصطاد منا قضيتنا وتضللها بمأساتها كي تقزم قضايانا
وتحرمنا من الاطلالة الذكية على مطالبنا التي تنازلنا عنها زمنا طويلا
وما زلنا خجلين من هذا الاجحاف بحقنا بعد ان تخاذل الاعلام العربي عن
معركته الحقيقية ولم يسعفه ساسته على الاتيان بما يوازي مأساتنا
والتدهور الذي نحن فيه والذي لا يمكن تقدير نتائجه المفجعة..
انظر الى اعلامنا الفاشل في كثير من الاحيان والذي يسبب خسارتنا في
اذهان العالم اذا ما قارنا الية كتابة وطريقة عرض المحرقة اليهودية
والتي تركز على الاذى(المصنوع)يهوديا ضد اليهود وكيفية ارتكاب ابشع
الجرائم واساليب الموت التي عانا منها اليهود على ايدي الغربيين وكأن
اليهود شعب اعزل لا حراك له ولا قوة متناسين قدراتهم ومراكزهم العليا
السياسية والاقتصادية والعلمية التي اعتلوها في اوروبا..هذا هو فن
التمسكن وفن الجذب الرومانسي نحو مأساة اليهود وقد نجحوا في الحبكة
الاعلامية الرهيبة.
كل الحروب العربية الهامشية والوقتية وهنا اصفها بتلك النعوت لان أي
حرب عربية لا تحرر ارضا او تدمج امارتين عربيتين بعد معاهدة سايكس-بيكو
فهي تدخل في مضمار الحروب الهامشية والوقتية والدفاعية ضد طارئ ما وقع
على قطر عربي ما..المهم هنا ان الاعلام العربي في تلك الحروب ركب نظرية
التكوين والقوة العربية وكأننا دولة عربية موحدة وجيش عربي لا
يجارى..حصل ذلك منذ وقوع حروب العرب في فلسطين مرورا بالحروب العراقية
الاخيرة ..لقد صور الاعلام العربي من خلال النظرية اننا الدولة الاعظم
التي تستطيع تدمير اعداءها في ساعة وانها تمتلك القدرة الهائلة على لوي
ذراع الاعداء ومهما كانت قوتهم في حين كان المطلوب وهذا رأينا ان يصور
الاعلام بمجمله اننا امة مفترى عليها ومهضوم حقها ومدافعة عن وجودها
وبحاجة الى عون ومساعدة القوى الخيرة في العالم..اذن ما معنى ان يقول
الاعلام العربي في معاركنا في فلسطين اننا جئنا من اجل ان نقذف باليهود
في البحر ومن ثم نعطيهم كل الحق العالمي في التعاطف معهم وهذا ما
لمسناه لدى الامم والشعوب الاخرى ,ثم هل نحن فعلا في موقف وقوة كي نطلق
مثل تلك التصريحات التي تجمع ضدنا كل من يتعاطف مع اليهود ,ثم اذا كانت
لدينا قوة تخلصنا من وجود اليهود اليس الاحرى بنا ان نخاطب العالم بلغة
اخرى وهي اننا نخوض حربنا من اجل استرداد حقنا في ارضنا فلسطين ونترك
البحر مفتوحا والاجواء على مصاريعها كي يرجع اليهود من حيث اتوا
ويتركوا فلسطين لاهلها..من ناحية اخرى ما اروع اطلاق انشودة (الله اكبر
فوق كيد المعتدي)التي تتسلل الى اسماع المواطن العربي والمقاتل وهم
يدافعون عن حقهم السليب ويدفعون بالمعتدي خارج حدودهم وهذا حق مشروع
لكل شعوب الارض شرعا وقانونا وعرفا..هذا اذن هو الاعلام والذي احسنه
يتأتى بطريقة غير المباشر والذي يجلب عواطف الشعوب الاخرى على اننا
مجنى علينا وكل حروبنا من اجل الدفاع عن حقنا مع ابراز الوثائق التي
تبرز جرائم اعداءنا والتركيز عليها وصياغتها بطريقة تثير الاخرين
لصالحنا..ان شكواك من ظلم الاخرين وطلب مساعدة القوى الخيرة في زمن ما
ليس ضعفا بل قوة اعلامية هائلة تؤتي اكلها اذا ما احسن استغلالها وهذا
ما اجاد اليهود صنعه ومن ثم استولوا على العقل العالمي ببراعة الاعلام
لا قوة السيف..
انا ضد بعض مسميات معاركنا التي قدناها في حروبنا الاخيرة وقد انتقد
بشدة على ما اروح اليه ولكن هو رأي وعلي ان احترمه خاصة وأنا في لظاها
لا خوف ولا وجل:فمثلا اطلقنا اسم الحصاد الاكبر على احدى معاركنا مع
العدو المجوسي ,ترى الحصاد الاكبر لمن؟ان كان لعدونا فقد يستفاد من ذلك
تعاطف الكثير من القوى الاخرى في العالم وخاصة ان صور المعارك توحي
بذلك ,وهنا نكون قد خسرنا بعض المواقف ..ربما يقول احدنا ان تلك
المسميات جاءت من باب رفع معنويات جنودنا وشعبنا وهذا صحيح ومطلوب رفع
المعنويات ولكن هناك اساليب اعلامية عسكرية اخرى يمكن استخدامها لهذه
الغاية..اذن عليك وانت تقاتل عدوك ان تصدر اعلامك الخادم لمعرتك حتى
وأن جاء ذلك من خلال استعطافك عون الشعوب لا الظهور بمظهر القاهر
المنتصر وبالتالي تتكالب عليك قوى اخرى للتخلص منك خوفا وانت ليس كذلك
وهنا تدفع الدماء مرات ومرات..الحرب خدعة وذكاء وفرصة اعلامية عظمى
لتحريك ماكنة العقل نحو النصر حتى وأن جاء ذلك بالمماطلة
والتكتيك..الدهاء في الحروب مطلوب بل وحتى اخفاء جزء من قوتك
الاحتياطية مطلوب ايضا ولا مجال للتهديد والتضخيم في معارك ثانوية لا
ترقى الى حروب الوحدة وتحرير الارض من مستلبيها..
ان حروب الحدود دوما تعتبر من هوامش الصدامات بين
الدول وليست حروبا تتضخم ويبالغ فيها لحد الولوج بها وكأنها حروب داحس
والغبراء وبالتالي تنهك البلاد والعباد..حروب الحدود وحتى تأخذ طابعها
الشعبي والاخلاقي على السياسيين استفتاء الشعب عليها حالها حال اشكالية
الارض والاعتراف بها وقبول التحكيم بها وهنا سيكسب السياسي عون الناس
من حوله ولا حجة لمن لا يقاوم اعداء الارض ومحتليها..هنا تكمن مسألة
اعلامية لصالح الدولة غاية في الخطورة داخليا وخارجيا..وهنا يكمن فن
لعبة الحرب واصطياد العدو برغبة شعب ودعم اعلامي وعالمي هائل... |