ان النظرية التحليلية المقارنة للمجتمع العراقي وعلاقته بالشعوب الاخرى
تعطيك انطباعا اوليا عن غرابة الشخصية العراقية بالمقارنة مع شخصية
المجتمعات الاخرى الموجودة على الارض اليوم وفي الازمنة السالفة التي
مرت على وادي الرافدين بشعوبها المنقرضة نظاما لا نسلا..ان الرحلة
الطويلة التي عشناها بين العديد من شعوب الارض تعطينا تلميحا عن هذا
الاختلاف بل وتوقفنا للنظر مليا ولنعيد تصورنا للمجتمع الخاص الذي نحن
جزء منه ونعيش فيه على ارض العراق..هنا تبدأ معضلة الفهم الاجتماعي
والوضيفي (الفسيولوجي)والنفسي ومن ثم تشكل العادات والتقاليد والعلاقات
والامزجة والاعتبارات والاعراف الخاصة عند دراسة دقائقها في هذا
المجتمع المختلف عن غيره بحكم المحيط الذي يعيشه الممزوج بعوامله
الوراثية المتفاعلة معه..من هنا كانت المعضلة الكبرى لعالم الاجتماع
ولرجل السياسة والقاضي وحامل رسالة العلم والمسؤول عن الجناح العسكري
في كيفية فهم هذا المجتمع ومن ثم صياغة القوانين والانظمة الخاصة
المفصلة لحاجاته وثوابته ..فضلا عن ذلك نراهن على ان المتتبع الحصيف
لهذا التكوين البشري بين وادي الرافدين سوف يجد من الصعوبة بمكان تطبيق
الايات حكم دستوري او اجتماعي او يسن قانونا عرفيا وايحائيا اجتماعيا
منحولا مستنسخا من انظمة لمجتمعات اخرى ما زالت عائشة على البسيطة وكما
يتبين من تاريخ المجتمع العراقي ومميزاته التي لا يمكن الاجتهاد
بثوابتها خوفا من الفشل بتطبيق النظرية ان جاءت من خارج ثناياه..يمكن
لك ان تلقح افكارك بما اكتسبته من مجتمعات اخرى بالاختصاص ولكن عليك
الحذر من تطبيق ذلك بالمباشر أي بدون تصرف بما يملي عليك طابع المجتمع
العراقي والا فشلت وراحت تجربتك ادراج الرياح..
العوامل الرئيسة المؤثرة في الشخصية العراقية:
اولا:درجة الحرارة:
ان تسجيلات الاحوال الجوية الوطنية والعالمية لدرجات الحرارة المعلنة
وغير المعلنة في العراق مقارنة بالدول الاخرى تبين ان التفاوت في تلك
الدرجات يكون على اوجه في العراق فقد تصل درجة الحرارة في الصيف الى ما
يقارب 60 درجة مئوية أي تعبر الخمسين وقد تنخفض في الشتاء الى ما دون
العشر درجات تحت الصفر أي بمعنى اخر ان التفاوت في درجات الحرارة
يتجاوز الستين درجة في العام الواحد؟الايمكن علميا ان نتصور الضغط
البيئي(ecological stress) على هذا الانسان الذي يعيش في تلك الجغرافيا
ومن ثم تأثير ذلك على مجمل الفعاليات البشرية والانشطةhuman
activities) ) ومن ثم التأثير المباشر على ديناميكية الوضع
النفسيpsychological dynamics)) للفرد العراقي الواقع تحت هذا الضغط
المحيطي الرهيب ذو التغير الحاد الذي بالضرورة ينتج تغيرا حادا للمزاج
الحي وهنا موضوعنا هو الانسان الذي يراد له ان يستقبل نظريات ودساتير
مصاغة للانسان البريطاني مثلا والذي يعيش في محيط ذو تغير حراري بين
الشتاء والصيف لا يتجاوز خمسة وعشرين درجة مئوية وبالتالي لن يكون
مؤثرا على الفعاليات الوظيفية (الفسلجية)كثيرا ومن ثم لا تكون مضاعفاته
ذات تأثير معنوي كبير على المزاج البشري واستقراره النفسي ومن ثم
تفاعله مع معطيات الاحداث ببطئ وببرود واكثر روية؟هنا كان على المشرع
القانوني والسياسي والاجتماعي والعسكري والعالم ان يأخذ هذا العامل
الحراري المتغير بنظر الاعتبار بل ويصاغ له ما يميزه عن متطلبات وحاجات
الامم الاخرى التي تختلف عنا بيئويا وهذا في صالحنا حتى في الحرب
والدفاع ان استثمرناه بدقة مبنية على اراء المختصين في علوم البيئة
والمحيط وعلاقة ذلك بالسلوك الاجتماعي. علما ان كل النشاطات البشرية
المعلنة هي نتاج تفاعل عاملين لا ثالث لها وحسب ما تقول النظرية
العلمية وهما الوراثة والمحيط.من هنا كان لزاما علينا دراسة او قل
الوعي بجنسنا (العامل الوراثي)وببيئتنا(العامل المحيطي)وكيف انهما
المسؤولان عن النتاج النهائي لمجمل انشطتنا وافكارنا الاجتماعية
والسياسية والعسكرية وفي البناء والتخطيط المتقن بعيد المدى له ووضع
الحلول اللازمة للكوارث التي قد تداهمنا كالحروب وقبل وقوعها..
هنا انت تتعامل مع شعب قطعا متطرف المزاج بحكم بيئته وعليك ان تتصور
وتتوقع حالات من الانفلات الاجتماعي وربما الكتلوي باتجاه الحادث أي
لصالح الكارثة خاصة عندما تحصل في قمة تطرف التغير المحيطي وهنا اقصد
الحرارة الذي عندها قد يتلاشى توازن الانسان او ربما يقل بحكم متغير
المحيط وبالتالي قد تصطدم بظواهر اجتماعية وظيفية فسيولوجية تتقاطع مع
ما تريد انت من شعبك..هنا تبقى الحاجة الضرورة الى التكتيك في كنه
الوسيلة باتجاه الهدف مع الحاجة الى قدرات وخبرات هائلة وبطيئة القرار
للجم الحادث عن وقوع فعله .فعلى سبيل المثال العراق وقع تحت تهديد
العالم بغزوه وتدميره وقد اعلن هذا قبل العدوان الفعلي(الميداني)فأن لم
نكن قادرين على دفعه سياسيا علينا استثمار ضرفنا الجغرافي في محاربته
والذي قطعا لا يروغ للجندي الغربي الذي لم يتكيف لهكذا ضرف وهكذا
جغرافيا خاصة وهو يقاتل على الارض أي وجها لوجه معنا..هنا تكمن فكرة
استثمار جغرافيتنا لصالحنا فنديم الزخم المضاد على العدو في هذا الفصل
الدافئ وندفع بمقاتلينا الثوار وبالهجومات الصاعقة في الفصول حادة
التطرف كالشتاء والصيف والتي يكون فيهما الجندي العدو متخلفا عنا
بالفسيولوجيا والاستعداد للمواجهة بذات القدرة المتوفرة لدينا نحن
ابناء البيئة والمتعايشين معها.لقد سجلت حالات كثيرة من هذا الصراع
المبني على معطيات البيئة والتي انتصر فيها مجاهدينا ايما انتصار
اذهلوا به جنود العدو المعانين من سطوة المحيط حد الانتحار...
ثانيا:ارث التاريخ الحزين ورومانسية العراقي:
لا اعتقد ان بلدا في العالم وعلى مد التاريخ اصابته ويلات مدمرة كما
حصل هنا في بلاد ما بين النهرين من الطوفان
الى الحروب والغزوات والسبي واختفاء شعوب واخرى حضارات
وكلها احداث هازة نالت الشعب العراقي كل الشعب العراقي من
الشمال الى الجنوب فوحدته بحكم معطياتها الرومانسية التي خلدت الغناء
العراقي بطابعه الحزين وهو النتاج التراكمي لتلك المأساة حتى راحت
الاذن العراقية لا تستعذب الا الغناء الملفوف بطابعه الحزين ..ان هذا
الحزن الابدي للانسان العراقي هو الصفة المميزة له عن بقية شعوب الكون
وهو بالتالي الطاقة الرومانسية الثائرة والرافضة للواقع الاليم ذات
التوق للخلاص مما هو عليه هذا الانسان المظلوم..انظر ماذا يحصل عندما
تكون في جبهات القتال او صفوف المجاهدين اليوم وانت تفتح اغنية او حداء
على نغمات الربابة او الناي مثلا ثم راقب رد فعل المقاتل ستراه ينتظر
الاشارة منك للهجوم على العدو ناسيا نفسه بأنه قد يقتل في المعركة..ان
هذا الشعور وتلك النزعة الى الخلود من خلال التخلص من الالم عن طريق
الاستشهاد هو المعين المساوي لازمات العراقيين في ان يستشهد جيل لتبقى
اجيال اخرى ولولا تلك المعادلة الرومانسية الخلاقة المذهلة والمعشعشة
في الذات العراقية وبوجود الكوارث المستمر لانقرض الانسان العراقي
وانتهى..
الانسان الفرح المبسوط لا يمكن ان يقاتل وان قاتل فسوف يقاتل بالتقسيط
وبالهروب من واقع المعركة كلما حصلت الفرصة لذلك لكن الانسان المكلوم
يقاتل وكأنه يثأر لاخرين خسرهم حتى وأن كان شعورا رومانسيا لا وجود له
مع مقاتل معين لكنه ارث بيئة وارث تشكيل وظيفي لانسان وادي الرافدين
الثائر ابدا والمتحسب ابدا لعدو قادم جديد ولكارثة واقعة لا محال..لكنه
ما زال يغني ويدندن على صرير وازيز سرفة الموت وصولا وتوقا الى النجاة
والخلود الابدي..
انظر يا ترى هل هناك بلد ما زال يحمل بين دفتيه بقايا شعوب نهضت ومن ثم
اندثرت نتيجة الكوارث مثل العراق؟على سبيل المثال الصابئة المندائيين
مركزهم وبقاياهم اصلا من العراق واليزيدية والكلدواشورية والسريانية
كذلك وكأن بيئة العراق احتضنت كل شعوب الارض يوما سواءا جاءت بالسلم ام
بالحروب ومن ثم تلاشت وانتهت بسيادة العنصر العربي في تلك البلاد الذي
ما زال يصارع اقسى الضروف ووطأتها عليه املا بالبقاء..تصور انك تعيش في
وطن ترى فيه بقايا شعوب كانت يوما ما سائدة هنا ومن هذا سوف تصاب بحجم
من المأساة والحزن لا يمكن تصوره ومن هنا اصيب الانسان العراقي بوعكة
الرومانسية الخالدة بدمه والى الابد والداعية الى خلوده دوما وابدا...
ثالثا:الثراء البيئوي:
لا يوجد بلد في العالم خصه الله بكل النعم كما هو عليه العراق فلكل زمن
اكتشف ما يلائمه من ما هو متوفر على وفي باطن الارض وخاصة المياه
والتربة الخصبة التي بقت محط انظار العالم والشعوب التي غزت العراق او
عاشت فيه.ما زالت اثار الانهر والترع والسواقي وجداول المياه التي
حفرها انسان وادي الرافدين شاخصة وحاضنة لنباتات الشوك والسلماس وهما
يناديان ها هو مجرى المياه يا شعب العراق اليوم..لقد استطاعت شعوب
وحضارات قبلنا ان تحول العراق الى جنة عدن مخضوضرة السهول والوديان
والجبال ليسكن فيها يوما ما اكثر من خمسين مليونا من البشر في ان
واحد..نعم يسكن فيها هذا العدد الهائل وبترف الدولة العباسية على سبيل
المثال ومن دون نفط ولا غاز ولا احتلال وموت بسببهما..هناك فرق بين ان
تكتشف انت ومن ثم تستثمر مواردك من ان يكتشف لك عدوك تلك الموارد وهذا
ما حصل لنا وللعرب في محنة النفط والغاز..اكتشف العدو نفطنا وغازنا
واستثمرهما لحين من الزمن وعندما كونا الدولة الوطنية ونادينا
باستقلالنا بقت عين العدو تراقب ما اكتشف وتحن اليه بدافع استيراثه من
اهله مرة وشعور المكتشف العدو باحقيته بملك ما اكتشف رغم تأميمه..من
هنا بقى استقلالنا غير المبني على قوتنا بالبناء والاكتشاف مثلوما
ومخترقا من قبل اصابع العدو الطامعة والضالعة في معرفة ما نملك من
كنوز..هنا لا بد من الاعتراف انه لا يوجد استقلال بمعناه الحقيقي من
دون استقلال تقني علمي وطني وعليه بقت المؤامرات التي تحيكه قوى
الاستثمار الاستعماري تداهمنا بين الفينة والاخرى واستمر هذا الصراع
الدامي بيننا وبينهم على فتات ارضنا والذي كان اخره احتلال العراق
البغيض ومن ثم الويلات التي جرها علينا والذي رحنا نقاومه بمشروعنا
المقاوم الوطني الحثيث وبحقنا المشهود برغم التضحيات الجسام..
ان البلدان الغنية والمتخلفة تقنيا لا يجوز لها الاستعجال بعلانية
العداء لقوة اكثر منها تطورا ويمكن لها ان تدمر تلك البلاد ..هنا لا بد
من التكتيك واللعبة السياسية من اجل تفويت الفرصة على العدو حتى وان
جاء ذلك من خلال اطعامه لقم الحلوى وهو على بعد خوفا من تدخله في شئون
البلاد المباشرة وغير المباشرة بحكم سطوة القوة ومن ثم ضياع ريحنا
دولتنا النامية..علينا ان نملك عنق بعير وعلينا ان نملك صبره الى ان
نصل الى ما نحتاجه من قوة مكافئة للعدو ومن دون ثرثرات ولا استفزاز له
وهنا تكمن القدرة والحنكة على مجارات الامور والاحوال بما ينتهي
بصالحنا ..عندما اكون وطنيا قد لا استطيع ان احقق كل شئ في عمري
السياسي القصير ولكن يمكن ان اقسط واجبات الثورة وما يجب ان تحققه علي
وعلى الاجيال من بعدي بعد ان احسن بناؤها العقائدي الايديولوجي خاصة
اذا ركبت فكر البعث الخالد الذي يخطط منهجه لامة عربية واحدة ذات رسالة
خالدة ..هنا ما الجدوى بالاستعجال في تحقق كل شئ في عمري وهل يمكن ذلك
في مجال التطبيق؟
ان تحقيق اماني الامة لا يمكن ان يحصل بالاماني وبالعواطف المتسارعة بل
بالتخطيط الممنهج الحذر في زمن الدول العظمى وفي زمن جنون القوة
الكافرة وهنا اضع كلمة كافرة أي التي لا تتورع عن فعل أي شئ بغض النظر
عن الحق والمعقول مع غيابها عن ذكر الله..العمل الوطني المستقل اليوم
وخاصة في بلد غني وثري حد التخمة مثل العراق يحتاج الى نظرة سياسية
بطيئة القرار وشديدة التدقيق من اجل حماية حقوق الانسان العراقي في
كنوزه..الانسان الثري عليه ان يكون اكثر بطئا وشدة في التدقيق قبل
صياغة أي قرار كونه يعيش محسودا ومحاطا بدوائر التجسس وافعال ونوايا
الايقاع والايهام من اجل زوال نعمته وعليه لا بد ان يكون اكثر حذرا
وحرصا من غيره وصولا الى اهدافه واسعاد بشره...
العراق بقى كل حياته مطموعا فيه وواقعا تحت طائلة الغزوات والكوارث
والحروب وهذا هو تاريخنا الذي جاءت به الايام وعليه يجب علينا ان نحيط
انفسنا بقوة الحذر ودقة التصميم وحنكة القرار المحسوب..نحن بلد يطوف
على خزائن الارض وهناك من هو اقوى منا وهو بحاجة الى كنوزنا وعليه يبقى
متربصا بنا لايقاعنا ومن ثم الاستحواذ على ما نملك من خزائن وهذا هو
تاريخنا العراقي وهذا هو تاريخ الامم والشعوب التي عاشت هنا في بلاد ما
بين النهرين..من هنا علينا الاستفادة من تجارب غيرنا الذين سبقونا
ليبنوا حضارات رائعة وشامخة على ارض العراق..يقينا ان تلك الحضارات لم
تبنى بعاطفة بل بروية محسوبة ودقيقة ومراقبة لامم اخرى مع توفر اسباب
القوة وتقدمها على من حولها كي تحمي مشروعها الحضاري المتين..
اليوم بدأ صراع اخر هنا في بلادنا ما بعد الاحتلال البغيض..صراع على
الثروة الكنز من قبل دول محتلة وذيول لها مستفادة مخربة ناهبة سارقة
وبكل الطرق وتريد اطالة عمر السرقة من ناحية ومن ناحية اخرى قوة وطنية
مقاومة تريد تحرير الكنز العراقي من تلك السرقة المشؤومة..عندما يسيل
لعاب المحتلين وعملائهم على الكنز العراقي بعد ان ذاقوه لا يمكن لجم
هذه السيول بسهولة بل سيبقى الصراع واثاره ممتدة بين ابطال المقاومة
وجوقة السراق حتى بعد الاستقلال وتلك محنة اخرى لمن يستلم السلطة بعد
التحرير..
هناك قوى غير مستفادة من الاحتلال وهي اجنبية عادة يمكن استغلال حاجتها
الى كنوزنا مقابل عونها لنا في مد الثورة التحررية مقابل عقودا صادقة
تعقد معها وهنا تكمن الفائدة من ثروة الغني وبشكل غير مباشر حيث ان
الغني في تصورنا لديه الحلول لتكون اسهل مقارنة مع الفقير وهنا لا بد
ان نقارن حالنا المحتل مع حال الافغان قيد الاحتلال ايضا من قبل نفس
القوى الغاشمة التي تقاسمت جريمة الغزو هنا وهناك في مناطق مختلفة من
العالم..
واخيرا وليس اخرا نقولها للتاريخ ولتاريخ العراق الذي يكتب اليوم اننا
سننتصر رغم كل شراسة الاحتلال كوننا بلد غني بأنسانه الذي لا يعطي
ولاءه بسهولة لاي من كان ..اننا سننتصر بهذا الشعب الرومانسي البطل صعب
التعريف وصعب سبر اغواره بحكم تطرف ببيئته وحرارة جوه ..
كما اننا سننتصر بقوة صوفيتنا التي تتلذذ بالالم الوطني المشتهى
.. ومن الله التوفيق. |