لابد من التنويه باديء ذي
بدء بأن أي سياسي يكون عرضة لتغيير مواقفه تجاه الأوضاع التي يعالجها
في تفكيره أو تدبيره, مع ملاحظة إن هذا التحول كما يفترض لا يشمل
الثوابت أي المباديء والمثل والقيم التي يؤمن بها السياسي لأنها تؤثر
على مصداقيتة عند المقابل ويسقط أمام نفسه قبل أن يسقط أمام الآخرين.
فالمباديء والمثل، دينية كانت أو دنيوية ولاسيما الوطنية منها هي ثوابت
مقدسة. لكن هذا لا يلغي إمكانية مناقشتها، بينما الآراء والأفكارمتغيرة
وليست ثابتة ولا تتوطن داخل سياج التقديس. عندما يعالج السياسي ظاهرة
معينة فأنه يعالجها في زمانها ومكانها الطبيعيين ويحكم عليها في ضوء
هذين العاملين، وماعدا ذلك مجرد لغو وهراء لا فائدة منه. وفي حال
إستجدت تغييرات مهمة على نفس الظاهرة فأن من مهام السياسي أن يحللها
ولا يتركها تمر مر السحاب لأنه سيدخل في حيز عدم النزاهة أو الحياد على
أقل تقدير في حكمه عليها. وهناك احكام وليدة ظروفها. فقد تؤدي حادثة ما
إلى إثارة غضب السياسي فيتناولها بطريقة فيها إجحاف وإعمام. وكلنا عاش
مثل تلك الأحداث الشاذة بشكل خاص مع الغزو الأمريكي الإيراني للعراق!
فجاءت بعض الطروحات وردود الأفعال بطريقة غاضبة وإنفعالية خالية من
التفكير والتعقل بل والإنضباط والحياء أحيانا، في ظل إختفاء النية
بإصلاح الخلل سيما عندما يدخل الحدث في إطار" أكل الدهر عليه وشرب".
الإستدراك حالة صحية في عالم السياسسة، فالكثير منا يستدرك الخطأ في
علاقاته الخاصة والعامة سواء في البيت والعمل والشارع، يأخذ الصواب
فيستحسن رأيه من قبل الآخرين ويشكر عليه. ولكن إستدراك السياسي لأخطائه
أكثر أهمية من إستدراك الإنسان العادي، لأن نتائج أخطائه غير منوطه
بذاته فقط وإنما تنعكس بشكل أو آخر على الآخرين! فما بالك بأخطاء
الزعيم الذي تسير خلفه جحافل من الرعية تسلمه بطواعية زمام قيادتها؟
عندما يغلف الإستدراك بالنية الصافية والرغبة الحقيقية بالتصحيح أو
التعديل لخطأ ما، أو لترميم ما تصدع في قطاع رسمي أو على المجتمع وحتى
الفرد فالأمر مقبول, ولكن عندما يكون الغرض منه إلحاق الظلم بفئة ما!
أو لأغراض دعائية! أو التمويه لأغراض جانبية بعيدة عن الحقيقة! عندئذ
يدخل الإستدراك في ألعاب السيرك السياسيي، فيفقد جوهره النقي وينقلب
إلى مسخرة تليق بالمهرجين. وكلما جانب الإستدراك الحقيقة كلما فقد
رونقه وشكله لذلك قيل الحقائق كالزهور لها أشكال وألوان وروائح مختلفة،
ولكن أجملها بلا شك هي الحقيقة المجردة. فلنتوصل إذن إلى الحقيقة
المجردة أو على الأقل لنقترب منها قدر المستطاع لنحتفي بجمالها ونشم
شيء من شذاها.
المالكي قال شيئا وفاتته أشياء فهو إستدرك شيئا لينبأنا به! لربما هو
أمر جسيم ومهم للشعب المبتلى به وبالشراذم الذين جاء بهم الإحتلال
الأمريكي ـ الإيراني سواء من حزبه المتشظي، أو الذين فرضوا عليه من قبل
الأحزاب الشريكة في العمالة! حسنا! هل فطن المالكي ليستدرك عما جاء في
حديثه الفائت عام 2008 بإعلان حربه الشعواء على الفساد المالي والإداري
المتعشعش في أركان مكتبه وإنتهاءا بمطبخ الفراش الذي يقدم له الشاي؟
سيما أن حكمه الرشيد أنتهى بزيادة مطردة في الفساد جعلت العراق ينال
بجدارة الميدالية البرونزية من منظمة الشفافية الدولية بحصوله على
المرتبة الثالثة. أو فطن ليستدرك خطيئة القضاء العراقي النزيه جدا وغير
المسيس مطلقا بإخلاء سبيل رفيقه في درب الفساد وزير التجارة فلاح
السوداني حيث أعلن القضاء براءته مما نسب له من سرقة بضعة مليارات لا
تتجاوز أصابع اليد الواحدة ـ وبهذا الصدد ننصح السوداني بالمطالبة
بتعويضات مليارية عن الأضرار الإقتصادية والاجتماعية والسياسية
والثقافية والنفسية التي لحقت به جراء الإتهام الظالم ليضمها لرصيده
الملياري. وربما فطن المالكي ليستدرك كلامة الفائت بتشبيه الإعلام
الالكتروني بمكب للنفايات! فليس سوى الجاهل البليد من يسخر من ثورة
المعلومات التي مدت ذراعها إلى (طويريج ستي) ضاحية مولده الميمون.
ربما فطن المالكي لأن يستدرك إحدى خطاياه الطائفية بمخاطبته لجمهور من
العشائر الراقصة بأهزوجة"من اللي راح ينطيها" ـ يقصد من الذي سيتخلى عن
السلطةـ وإنتهى الخطاب الديمقراطي بإحتفال مهيب نكست له العكل (جمع
عقال بالعامية العراقية)وتصفيق مغلي أدمى الأيادي التي لا تجهل أبجدية
الديمقراطية فحسب وإنما كتابة الأبجدية العربية كذلك. ربما فطن المالكي
لأن يستدرك جريمة عناصره الدونكشيوتية اللادستورية في صولة الفرسان
جنوب العراق عندما أحرقوا الجثث ورقصوا على أنغام الشواء البشري. فدماء
الشهداء لا تجف حتى يؤخذ بثأرها هكذا يحدثنا التأريخ. ربما فطن المالكي
لأن يستدرك الجريمة البشعة التي قامت بها قواته البربرية ضد الزوار
الأبرياء في منطقة الزركة وتناهى لسمعه أصوات النساء والشيوخ والأطفال
وهم يئنون تحت غضب المدافع العاهرة التي تصبب حممها بكل رعونة وإستهتار
فوق رؤسهم العارية. ربما فطن المالكي ليستدرك وضع مئات الآلاف من
السجناء والمعتقلين في السجون السرية والعلنية بوشاية من المخبريين
السريين، ولا يعلم أحد مصيرهم أو وضعهم القانوني في دولة القانون! أو
ليعتذر عن(سجن مطارالمثنى) الذي كشفه حلفائه الأمريكان، وهو سجن خاص
بحزب الدعوة الجاهلية. وما رافق ذلك من الفضائح المخجلة كالإغتصاب
والتعذيب البشع الذي طال عددا من أبناء الموصل الشماء ليس لسبب سوى
أنهم من الطائفة المنبوذة!
ربما فطن المالكي لأن يستدرك عودة الإرهاب من جديد ليعصف بإروح
العراقيين بلا هوادة رغم إدعائه بمقتل عدد من زعماء الإرهاب. بعد أن
ثبت باليقين ان الأحزاب الحاكمة والميليشيات المسعورة العائدة لها
والمبرمجة بريمونت الحاكم بأمر الشيطان نجادي، تقف وراء معظم الأعمال
الإرهابية التي تحصد رقاب العراقيين الأبرياء وليس تنظيم القاعدة فقط.
أو ليضع حدا لهرطقة بهلوانات السيرك العسكري في قوات حفظ النظام و
وزارتي الدفاع والداخلية ليكفوا عن تهريجهم المتواصل بشأن حقيقة الجهة
التي تقف وراء الإرهاب ولا أحد يجهلها بالطبع.
هناك الكثير من المحطات جديرة بالتوقف عندها وأن يلتفت لها المالكي وإن
فاتها القطار! فالإعتراف بالجريمة يقلل من محكومية المجرم وذلك أضعف
الإيمان. فما الذي فات المالكي وإستذكره في هذه اللحظة الحرجة في ظل
إصراه المقزز على عدم التسليم بهزيمته الطفيفة بالجولات وليس الضربة
القاضية في الإنتخابات الأخيرة وكذلك في ظل تردي الإوضاع الأمنية وعودة
الإرهاب بحلة جديدة؟ قد يبدو الأمر محيرا! وتلك هي الحقيقة فمن الصعب
التكهن عما يدور في رأسه المثقل بالإحباط والهزائم! فزلات لسانه ويديه
غير خاضة للإحصاء والترقيم.
لنستمع إليه يتحفنا بمعلقته الجديدة عما فاته" أنا فاتني أذكّر بشيء أن
الذي حصل بالنسبة إلى صلاة الجمعة وبالذات في مدينة الصدر هو استمرار
للحقد التاريخي الذي يحملها النظام المقبور وهذا يعطي مؤشرًا عن امتداد
الحقد بين نظام صدام وديكتاتوريته على صلاة الجمعة، وعلى مدينة الصدر،
وعلى نفس الشهيد الصدر والحقد الذي صبه الإرهابيون اليوم على هذه
الصلاة وعلى هذه المدينة بالذات.
هل هذا غباء أم إستغباء؟
من المعروف إن صلاة الجمعة والجهاد وغيره من المسائل وفقا لأراء
الإمامية غير جائزة إلا بعد ظهور الإمام المهدي. ولا علاقة للنظام
السابق بهذا الموضوع عن قريب أو بعيد, وعندما أفتى الشهيد الصدر
بضروريتها وأمً الناس بصلاة الجمعة إستنكر الكثير من المجتهدين هذه
الخطوة وإعتبروها خروجا عن خط الأمام المهدي. في حين رحب النظام الوطني
السابق بها كخطوة مباركة في طريق التقارب مع أبناء العامة. وهذا طاهر
الحبوش مدير الأمن العام وقتذاك يحدثنا في أوراقه" حضرت إجتماعا لمجلس
الورزاء بصفتي مديرا للأمن العام وأطلعت السيد نائب رئيس مجلس قيادة
الثورة عزت إبراهيم بأن المرجع (السيد محمد صادق الصدر) قد أمّ جموع
المسلمين سنة وشيعة في صلاة الجمعة, فأجابني قائلا: الحمد لله حق حمده،
إنها خطوة هامة جداً في خدمة المسلمين, وفقّه الله في مسعاه هذا". بل
إن النظام الوطني السابق أمن الحماية للمصلين وللأمام الشهيد نفسه! لكن
الشهيد الصدر رفض الحماية الشخصية لإيمانه وقناعته بأن النفس ملك للربً
وهو يأخذها إينما وقتماء كيفما يشاء. فكانت نهايته المؤلمة على أيدي
أتباع الخميني. ومقتدى الصدر أعرف من المالكي بقتلة أبيه لأنه حضر
جلسات المحاكمة، كذلك القنصل الإيراني بإعتبار القتلة إيرانيين,
والغريب أن يعيش مقتدى في أحضان قتلة أبيه!
أية دكتاتورية تلك التي مارسها النظام السابق على صلاة الجمعة؟ ولماذا
يستمر البعض بلا حياء ولا ضمير بمحاولة التسلق على ظهور الآخرين
بالباطل؟ وهل كان المالكي فعلا حريصا على أراء الشهيد الصدر فسار على
دربه في النزاهة والزهد والمحافظة على حياة الناس وأموالهم، والتقرب من
الله، ومحاولة تعريب الحوزة والحد من نفوذ عمائم الشر في إيران؟ وهل
كان المالكي حريصا فعلا على حياة أتباع الصدر في جنوب العراق؟ فمازال
مشهد شهداء التيار الصدري في صولة الفرسان المشؤمة وجثثهم المحروقة
والمسحوبة بالعجلات ماثلة في عقولنا لم تبرحها بعد. إن كان المالكي نسى
فنحن لم ننسى! وإن كان جاهلا فنحن لسنا بجهلاء! وإن كان يستخف بعقولنا!
فحن من يستخف بعقله وعقول كل العملاء أمثاله.
لنستمر مع أكاذيب المالكي الرخيصة بشأن قمع صلاة الجمعة كما تصورها
مخيلته المريضة فيقول" وتتذكرون بأن الانتفاضة الثالثة أيضًا حصلت بسبب
محاصرة النظام لصلاة الجمعة ومواجهة الرصاص وتوجيه الرصاص للمصلين
والتي اشترك فيها في ذات الوقت منظمة مجاهدي خلق"! بربكم! هل النظام
الوطني السابق الذي أذاق ملالي الشر في طهران السم الزعاف طوال سنوات
الحرب الثماني ـ إذا أفترضنا جدلا صحة فرضية المالكي ـ غير قادر على
قمع عدد من المصلين في جامع الحكمة في بغداد ليستعين بقوة من مجاهدي
خلق لينفذ هجومه؟ صح القول "حدث العاقل بما لا يعقل فإن صدق فلا عقل
له". ألا يعرف المالكي بأن حوالي(1600) محامي وحقوقي أجروا تحقيقات
دقيقة عام 2006 أي في عهده الأغبرحول هذه المزاعم وغيرها ونشروا
النتائج التي توصلوا إليها والتي فندت هذه المزاعم الباطلة، وأعلنوا
إستعدادهم للمثول أمام أية محكمة عراقية أو دولية للإدلاء بشهاداتهم
حول المسألة(تقرير نشرته صحيفة النيويورك تايمز في 21 نيسان 2006). إلا
يعلم المالكي الجهة التي كانت تقف وراء حياكة هذه الأكاذيب التي روجها
حزبه وبقية الأحزاب النائمة في أحضان الولي الفقيه؟
أهذا ما فطن إليه المالكي وإستذكره من الماضي ليردده على مسامعنا التي
ملت هذا الطنين؟ والله إن أي إنسان ليتوارى خجلا من هذه الترهات التي
تفوه بها! ألا يوجد كلام مفيد ليناقشه؟ أو تصورات ورؤى يقدم من خلالها
مشروعات تنموية وإصلاحية تكفل الأمن الاجتماعي والرفاه الاقتصادي
والاستقرار السياسي وتضمن للجميع التعايش السلمي والأخاء والحفاظ على
النسيج الوطني وسد جميع المنافذ التي يمكن أن يتسسلل من خلالها
المنحرفون والمتطرفون؟ الا توجد أفكار تنبع من طموح الشعب وتصب في
مصالحه العليا؟ أفكار تهم حاضر الوطن والمواطن ومستقبله بدلا من
الدوران في حلقة مفرغة لا جدوى منها.
ثم متى نفرغ من مسألة الإنصياع الأعمى لملالي الشر في إبران وتنفيذ
خططهم الدنيئة بحق الشعب العراقي ومواطنيهم الأبرياء في معسكر أشرف؟
ونتفرغ للإهتمام بشعبنا وأمتنا والاستجابة العقلانية والاخلاقية
لأهدافهم.
لكن كلما إستذكرنا الصورة الذليلة التي ظهر فيها المالكي مع نجادي مثل
طفل مذنب ماثل أمام أبيه للتوبيخ، كلما أرتفعت سرعة نبض اليأس في
قلوبنا جراء أفعال الشخصيات الهزيلة التي تحكم العراق. فلا أمل يرتجى
منهم بعد أن عاهدوا أنفسهم بأن يكون دائما وأبدا خدما في حضرة الولي
الفقيه. وهل يرتجى الأمل من عميل؟ لقد صدق الشاعر بوصفه للوطنية وبعد
العملاء عنها:
هي الشمس مسكنها السماء
فعز الفؤاد عــزاء جميلا
فلن تستطيع إليها الصـعود
ولن تستطيع إليك النزولا
|