فالحقوق في هذا الوقت من التاريخ لا يمكن أن تنتزع ألا بمعرفة أساليب
الشيطان ,بمعنى أوضح أن نتقن اللعب مع الشيطان وأبنائه ولكن لا يعني
ابداً أن نستخدم أساليبه و في تارخنا العربي الكثير من الامثلة على ذلك
فالانبياء كانوا يتعاملون بهذه القدرة في التعامل مع الاشرار,وخير لنا
في ذلك ما جرى في الحديبية و من الصلح و شروطها مع المشركين فصلح
الحديبية هو صلح عقد في شهر آذار من عام 628م أي في شهر شوال من العام
السادس للهجرة و هدنة بين المسلمين وبين قريش مدتها عشر سنوات,حيث و في
شهر ذي القعدة من العام السادس للهجرة، أعلن رسول الله أنه يريد المسير
إلى مكه لأداء العمرة، وأذّن في أصحابه بالرحيل إليها لأدائها وسار
الرسول(ص) بألف وأربع مئة من المهاجرين والأنصار، ليس معهم من السلاح
لأنهم يرغبون فى السلام ولا يريدون قتال مع المشركين، ولبسوا ملابس
الإحرام ليؤكدوا لقريش أنهم يريدون العمرة ولا يقصدون الحرب, فلما نزل
الرسول بالحديبية أرسل عثمان بن عفان (رض)إلى قريش وقال له: أخبرهم
أنّا لم نأت لقتال،وبعده عقدت معاهدة الحديبية, هذه المعاهدة التي لم
يدرك الحكمة منها الكثير ممن صاحبوا الرسول(ص)، قال عمر(رض): فأتيت نبي
الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً ؟ قال : بلى ! قلت:
ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ! قلت: فلم نعطى الدنية
في ديننا إذاً ؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصرى ! قلت: أولست
كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: بلى! فأخبرتك أنك تأتيه
العام ؟ قال قلت: لا! قال: فإنك آتيه ولمطوف به. لكن عمر رضي الله عنه
لم يكتفي بذلك ! بل أعاد الكلام أمام أبي بكر(رض) بمثل كلامه مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: يا عمر الزم غرزه حيث كان، فإني
أشهد أنه رسول الله، قال عمر وأنا أشهد، وقد ظهر من هذا الموقف رسوخ
أبي بكر الذي لا يدانيه أحد فيه من الصحابة، واستحقاقه للسبق.
وجدارته بالصديقية،وأن إيمانه بإيمان الأمةكلها.على أن عمر (رض)إنما
راجع النبي (ص) لا على الاعتراض، وإنما للوقوف على الحكمة، وتقديم
المشورة، واستفراغ الوسع في تحقيق مصلحة المسلمين. وإذلال الكافرين،
وكان عمر يقول بعدها: مازلت أصوم وأتصدق وأعتق من الذي صنعت مخافة
كلامي الذي تكلمت به يومئذ !
وكان أكثر المسلمين يومئذ يرون أن في الصلح إجحافاً بهم، حتى أن
النبي(ص) لما أمرهم أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم تباطئوا رجاء أن
يغير الله من شأن المعاهدة! فدخل النبي (ص)على أم سلمة مغضباً فنفعه
الله بمشورتها حيث أشارت عليه أن يبدأ بنفسه ، فخرج أمامهم ونحر وحلق
فلما رأوه فعل ذلك ، زال عنهم الذهول وأسرعوا بالامتثال لأمره.
وفي طريق عودة المسلمين إلى المدينة، أنزل الله على رسوله (ص)سورة
الفتح ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً)(1) قال أنس :
الحديبية، وأسرع الناس إلى رسول الله يقرؤها عليهم، قال رجل: يا رسول
الله أفتح هو؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه لفتح، فانقلبت كآبة
المسلمين إلى فرحة غامرة، وأدركوا أنهم لا يمكن أن يحيطوا بالأسباب
والنتائج، وأن التسليم لأمر الله ورسوله خير كله، وكان من نتائج هذا
الصلح الذي سماه الله فتحاً أن أتاح الفرصة أمام للمسلمين ليتفرغوا
لمحاربة أعدائهم..
أن التحليل الدينوي لنجاح الدعوة و الدين الإسلامي في مرحلتي الولادة
والتبشير يرتكزان على المحطات الإستراتيجية الثلاثة ,أقول التحليل
الدينوي وليس الألهي أو الفقهي:
1- المحطة الأولى هي في خروج المسلمون الأوائل من مكة والتحرر من سطوة
وأدوات القتل التي كانت بيد قريش ,الخروج الأول الأهم كان في هجرة
الرسول(ص) إلى المدينة المنورة لأنه كان يمثل الرمز ومصدر القوة
والالهام والقائد الشامل للمسلمين,والخروج الثاني والمتمثل في هجرة
الصفوة الأولى من المسلمين إلى الحبشة وهاتين الهجرتين تحملان معاني و
مغزيين كبيرين ,فهجرة الرسول إلى المدينة بالاضافة إلى عوامل كثيرة
ومنها ترحيب اهل يثرب بالدعوة الإسلامية ,فان الرسول أختارها لموقعها
المتعلق بالوضع اللوجستي التي ستقدمه يثرب إلى معركة المسلمين مع قريش
و أيضا إلى قرب يثرب من مكة ,وذلك لان مكة مفتاح النجاح للمسلمين في
حينها.وأما اختيار المسلمين الأوائل للهجرة إلى الحبشة فبالإضافة إلى
إستعانتهم بأهل الكتاب في حماية اللبنة الأولى للدعوة الإسلامية ,فإنها
تشكل تحدياً كبيراً لقريش والكفار بحكم علاقات الصداقة القوية التي
كانت موجودة بين ملك الحبشة وقادة قريش ,إن الهجرة خطوة كبيرة في مسيرة
نجاح المسلمين وإختيار مكانات الهجرة كان يمثل قمة العقل الستراتيجي
لنجاح الدين الإسلامي..
2- المحطة الثانية كانت في صلح الحديبية والتي تعتبر أهم الحلقات
الإستراتيجية لانها كانت محطة الاعداد لفتح مكة ,وقد تم ذكر في أعلاه
كيف تم عقد صلح الحديبية والتي تعتبر أكبر النظريات في العلاقات بين
الأنظمة,وفي تقديري إذا أستطاع محللون منصفون تحليل معاهدة صلح
الحديبية فأجزم بأنها ستكون قاعدة مهمة في كيفية بناء العلاقات الدولية
المعاصرة,
3- فتح مكة وهي بوابة النصر لترسيخ النظام الديمقراطي الإسلامي ومن ثم
الانطلاق إلى خارج الجزيرة العربية بعد السيطرة على مكة وتطهير الجزيرة
العربية من خصوم وأعداء الاسلام.
ولكني أعود لاقول أن صلح الحديبية كانت تمثل قمة النضج الدينوي
للمسلمين في التعامل بمرونة مع الخصوم والاعداء ووضع التوقيتات
المناسبة للحسم ,إنها الديبلوماسية الراقية في التعامل مع الآخرين
,وإنها النضوج العقلاني في إقامة العلاقات الدولية,ويتعبير أدق ومختصر
إنها مدرسة السياسة والعلاقات الدولية..
والعاقل من يتعلم من رموزه العظام.
..أمين
(1)سورة الفتح(الاية1)
|