المحاولات الغربية لربط مفهوم "الجهاد" بالإرهاب حققت نجاحا ملموسا،
حتى ان الكثير من قادة الرأي في العالم الإسلامي صاروا يتحججون بالقول
ان "الجهاد الأكبر" هو "جهاد النفس"، وهو ما يعني ان المسلم ليس ملزما،
الى تلك الدرجة، بـ"الجهاد الأصغر" طالما ان جهاده ضد دوافع النفس هو
"الأكبر".
وهذا كلامٌ فارغ.
نعم، الجهاد من اجل التقويم والإصلاح هو" الأكبر"، إنما في زمن السلم،
وعندما لا يكون هناك تهديد من الخارج، وعندما لا يكون هناك من يعمل على
تقويض حياة المسلمين وإبادتهم في أوطانهم بقوة السلاح.
ولأن "لكل مقام مقال"، فلم يحصل ولا لمرة واحدة، على إمتداد التاريخ
الإسلامي برمته، ان وُضع "الجهاد الأكبر" في تعارض مع مقاومة الظلم
والعدوان!
فالأولويات أولويات. والتلاعب بها، ووضعها في تعارض ضد احدها الآخر،
ليس سوى وسيلة مبتذلة للوقوف، ضمنا، في صف الظالمين والغزاة.
السؤال ليس ما إذا كان "الجهاد" ضروريا في الإسلام، بل ماذا يبقى من
الإسلام من دون جهاد؟
إنظر الى أقدس معاني الإسلام وسترى انه بدأ ككفاح ضد الظلم والقهر
والعدوان. وتحوّل الى "كفاح مسلح" في اللحظة التي أشهر فيها الظالمون
السلاح.
وإنظر الى منظومة القيم والأخلاقيات التي جاء بها وأرساها الإسلام،
وسترى انه كان، وما يزال، ثورة تحررية من أعظم الثورات في تاريخ
البشرية وأكثرها استمرارية. انه ثورة ضد الطغاة، ضد انعدام المساواة،
ضد الإستغلال، ضد التمييز العنصري، وضد الإستعباد.
وهذه الثورة، لم تكن أبدا "حركة سلمية". ولم تنظر الى الشر على انه أمر
يمكن التعايش معه. والسلاح كان دائما في المقدمة.
هذا هو الإسلام. انه دينُ مقاومةٍ باليد قبل اللسان! بالسيف قبل
النصيحة.
قال (ص): "من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده،....".
أما مسلمو "أضعف الإيمان" فانهم آخر من يحق لهم أن يقرروا مجرى
الأولويات!
الجهاد "الأكبر" لا يعود ذا معنى إذا وُضع كذريعة للحيلولة دون مقاومة
الظلم. وعندما يُتخذ كغطاء لمنع المقاومة ولحماية العدوان فانه يتحول
الى كفر صريح.
شيخ المجاهدين عبد القادر الجزائري لم يضع "الجهاد الاكبر" كعقبة
للحيلولة دون المقاومة بالسلاح. ولا فعل عمر المختار.
وسواء نجح الغرب في الربط بين الجهاد والإرهاب، حتى صار قادتنا يبحثون
عن ذرائع للتبرؤ منه، فنحن نعرف ان المسافة بين الجهاد والإرهاب أبعد
من المسافة بين الأرض والسماء.
إذا كان الإرهابُ (تعريفا) هو "قتل المدنيين لتحقيق أغراض سياسية"،
فالجهاد هو "قتال، وتضحية بالنفس، ضد الظلم والعدوان". وهو يتوجه ضد
مجرمين يحملون السلاح لا ضد مدنيين عُزل.
هم يقتلون الأبرياء، ويتمنون لو ننحدر الى ما يرتكبون ليكسبوا عذراً
وذريعةً، ولكن رباط الجهاد الحقيقي هو مقاومة الظلم، لا صنع ظلمٍ مثله.
والمسافة لا تحتاج بصرا ولا حتى بصيرة لتدرك انها أبعد من المسافة بين
الأرض والسماء.
لم يكن الجهاد عدوانا ضد مدنيين. والمسلمون لم يأخذوا المدنيين بجريرة
العيش في الطرف الآخر، مثلما يفعل الغزاة عادة.
العيش في مكة في ظل آلهة قريش، لم يكن بحد ذاته جريمة بالنسبة لجيش
المسلمين. وحتى كفرة قريش، ظلوا آمنين، عندما لجأوا الى دورهم أو
الكعبة أو دار ابي سفيان!
فكيف إذا كان اليهود والمسيحيون ليسوا كفّارا في نظر الإسلام؟ بل كيف
إذا كانوا في نظر القرآن مسلمين أيضا؟
قال تعالى: "قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن
رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ".
وقال تعالى: "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ".
وقال تعالى عن فرعون: "حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ
أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين".
يحسن الإعتراف أن هناك بيننا من عُمي على أبصارهم حتى تحولوا، بإسم
الجهاد، الى إرهابيين يختصون بقتل الأبرياء، ولكن هؤلاء لا يمتّون الى
الجهاد بصلة، ولا حتى للاسلام. لأنهم في الحالتين لا يقتفون الآثر
الإنساني والتحرري (في آن معا) الذي يشكل الطبيعة الجوهرية للإسلام
وللجهاد بإسمه.
ولكن ليس كل الجهاد إسلام.
لقد عرفت النضاليات الثورية في الماضي القريب انواعا من الجهاد
العلماني. وبفضلها حققت حركات الاستقلال العربية منجزات رائعة ضد الدول
الإستعمارية.
ولئن انتهى بعض تلك النضاليات الى السلطة لتهترئ فيها، فان نضاليات
مقاومة أخرى نشأت على ضفاف مساعي التحرير.
فالظلم، عندنا، يأتي بمقاومته معه.
وقد حدث أن أخلت فصائل المقاومة العلمانية (الفلسطينية منها بوجه خاص)
مكانها لفصائل إسلامية ليس بسبب فشل مشروعها الثوري، بل بسبب فشلها هي
بالذات كمنظمات.
ويستطيع المرء أن يزعم ان تخلي هذا المنظمات عن قيم النضال وأخلاقياته
كان واحدا من أهم دوافع الفشل.
وبتحول الثوريات الى دكتاتوريات، والنزعات التحررية القومية الى نزاعات
لا تحررية ولا قومية، فقد كان الانهيار حتميا.
وهو حالٌ سرعان ما كررته بعض "الجهاديات" الإسلامية المزيفة، بتوجهها
الى إيذاء الأبرياء، فانتهت الى إفلاس أخلاقي وسياسي مروع.
واليوم، كما تدل التجربة في العراق، فان الإسلام ينهض كقوة محركة
للنضال التحرري، حتى بين العلمانيين أنفسهم، لانه يستعيد مكانته
الثورية كقوة تغيير، وكقوة مواجهة ضد الظلم والعدوان.
نعم، يمكن للثوريين أن يكونوا مجاهدين من دون إسلام. ولكن لن يمكن
لغيرهم أن يكونوا مسلمين من دون جهاد.
جيفارا، كان جهاديا من أرفع الجهاديين العلمانيين. ومات شهيدا كبقية
الشهداء. حركته المناهضة للاستعمار كانت تكفي لتجعل منه خيرا من ثلاثة
أرباع شيوخ الأزهر، أؤلئك الذين تحولوا الى رجال إفتاء لصالح الشيطان.
صلة الوصل الحاسمة في كل جهاد هي قيمه واخلاقياته التحررية.
رجال الحرية في كل مكان ليسوا بحاجة الى الإسلام لكي يكونوا ثوريين
وينتهوا كشهداء. ولكن الأمر هناك، مجرد خيار أيديولوجي، وفردي في
الكثير من الأحوال. ولكنه عندنا "فرض عين"، لا خيار فيه.
معضلتنا أصعب، ومقاومتنا أوجب. لأن الجهادَ شرطٌ من شروط الإسلام. انه
فريضة على المسلم. ويكون أوجب من كل الفرائض الأخرى، عندما يصبح الظلمُ
شريعةً سائدة، وعندما يطأ أرضه الغزاة.
إسلام من دون مقاومة، ليس بإسلام. إسلام من دون سيف، حركة بوذية
بالأحرى.
يمكن للجهاد أن يوجد من دون إسلام. ولكن، ولسوء حظ الطغاة والبغاة
والغزاة، لا يوجد إسلام من دون جهاد.
وفي المسافة بين "الجهاد الأكبر" و"الجهاد الأصغر"، فان الأولويات
أولويات، وهذه لا يقررها أصحاب "أضعف الإيمان".
والجهاد هو الذي يكسب عادة. وإلا ما بقي الإسلام حيّا ومنتجا للثوار
والأحرار حتى الآن.
عبد القادر الجزائري هو الذي انتصر في آخر المطاف، ومثله سيفعل عمر
المختار.
|