لازال علماء الحضارات يصنفون مستوى حضارتنا الكونية المعاصرة استنادا
الى معياراستهلاك الطاقة وانتاجها، رغم التطور الهائل الذي قطعته
الانسانية، بالمستوى الصفري؛ كون الانسان لازال يقتات على الطاقة التي
اودعها لنا ضوء الطاقة الشمسية في جزيئات مركبات السكر التي انتجتها
وتنتجها النباتات في عملية الايض الحيوي المسماة التركيب الضوئي.
وبفضل التحلل الكيميائي للمتحجرات النباتية والحيوانية المطمورة في
اعماق الارض منذ ملايين السنين، انتجت الطبيعة بدورها جزء من التحول
الطاقوي الكامن في مواد كالفحم الحجري والبترول والغاز الطبيعي. وما
دام الانسان رهين استهلاك طاقة الشمس الضوئية من اقرب نجم لنا، والتي
خزنت بهذه المواد الطاقوية فمستوى حضارتنا سيصنف بالمستوى المعياري
الصفري، الذي يبدو من المقارنات العلمية سيطول نسبيا، حتى يتمكن
الانسان من استهلاك طاقات اخرى يتلقاها من نجوم اخرى غير الشمس، في
مجرتنا المسماة درب التبانة، حينها سينتقل العالم والكون الى المستوى
الحضاري الاول، ثم الى نجوم مجرات اخرى، حينها سينتقل الى مستوى حضاري
ثان وثالث وهلم جرا.
باتت مشاكل الطاقة هاجسا يؤرق البشرية لديمومة الرخاء والحاجة لها
لأغلب المجتمعات، بغنيها وفقيرها، والمخاوف باتت تتزايد من تناقص ونضوب
احتياطات النفط والغاز بعد ان ودعت الآلة الصناعية الاعتماد على مرحلة
سابقة اعتمدت حرق وقود الخشب والفحم للحصول على الطاقة للصناعات
المختلفة والنقل او التدفئة.
وربما يكون الحديث عن قرب سنوات تناقص احتياطات النفط والغاز سيطمس
الاسباب الحقيقية لتقدير تكلفة انتاج النفط الخام والغاز. تحاول جهات
عدة تبرير الارتفاع الطفيف لأسعار مواد الطاقة النسبي ، قياسا للقيمة
الفعلية لهذه المواد، خافية من وراء تسريب الإدعاءات هذه حول محدودية
المحددات الجيولوجية لمكامن النفط والغاز. والتداول عن معطيات اخرى
تشير الى حدوث ازمة عالمية سوف تتصاعد بسبب النقص المتاح من المواد
الخام من نفط وغاز، وبعدم كفاية طاقات التكرير والتصفية للنفط عند
الكثير من دول العالم.
وتلك الاحاديث ،من الاسباب التي تولدت عن توسع الاستهلاك العالمي من
جهة وعن تجاهل الاستثمار في مجال الصناعات النفطية انتاجا وتوزيعا
وتصنيعا عندما كانت ملايين الاطنان من النفط والغاز تباع باسعار زهيدة
لا تتناسب، بما لهذه المواد وطاقاتها، ومركباتها البتروكيميائية، من
اهمية حقيقية يستثمرها العالم المصنع ويغتني بها على حساب جيوب
المنتجين والمستهلكين معا.
منذ غزو العراق عام 2003 تفاقم الموقف بسبب زيادات كانت غير متوقعة
ناجمة عن تزايد الاستهلاك العالمي للنفط الخام من جهة، والتحكم بما
يصدر من الانتاج النفطي الى الاسواق العالمية ، اضافة الى انخفاض قيمة
الدولار الامريكي من جهة اخرى.
وقد تاكد للعالم ان ما يجري من غزو وحروب في العراق وافغانستان وصراعات
سياسية ومحلية وانقلابات في اواسط افريقيا وآسيا الوسطى ليس بعيدا عن
اهداف ومخططات السيطرة على مطمورات النفط والغاز من قبل عدد من الدول
الساعية الى التحكم بالعالم من خلال مواد الطاقة.
ورغم الانخفاض النسبي في اسعار مواد الطاقة الاساسية من نفط وغاز،
قياسا لقيمتها الطاقوية الفعلية، الا ان صحوة المستثمرين والدول الاكثر
غنى وتصنيعا في العالم تدفع مرة اخرى الى ضخ المال والخبرات الى مجالات
الاستثمار في الاستكشاف والانتاج النفطي والغاز الطبيعي، وزيادة توسيع
طاقة التكرير في المستقبل.
ظلت المضاربة في السوق النفطية تتدخل فيها عوامل اقتصادية، وتتأثر بها
عوامل سياسية ضاغطة، من نفوذ الدول والشركات المتعددة القومية الكبرى
التي لازالت تتحكم في الاسعار المتذبذبة للنفط والغاز، والتي لا تخضع
لمعايير او لقانون محدد يحكم العلاقات بين الدول المنتجة والدول
المستهلكة؛ مما يدفع كل طرف الى التحالف والتنسيق، كل لمصلحته.
ان المؤشرات المتداولة: ترى انه في الوقت الذي تتزايد الاستثمارات في
هذا الحقل الاقتصادي الحيوي الهام، تتزايد فيه الضغوط ايضا للحصول على
تنازلات باتت مهينة عن كثير من المكاسب والحقوق الوطنية لشعوب الدول
المنتجة للنفط والغاز، بامتصاص منظم للفوائد المالية المترتبة عن
ارتفاع الاسعار في السنوات الاخيرة بارتفاع حاد لمواد السوق الاخرى من
غذاء ودواء ومنتجات نفطية وغيرها مصنعة بما فيها مواد بتروكيمياوية
والبنزين، اضافة الى ازدياد حدة النزاعات الدولية والدفع الى امتصاص
كثير من المال الفائض في شراء الاسلحة والمعدات العسكرية وعسكرة الحياة
والمجتمعات وخلق التطرف والارهاب.
وعندما تمتلك الدول الساعية الى الاستثمارات في مجالات انتاج مواد
الطاقة المعلومات، فانها غالبا ما تخفي المعطيات الحقيقية عن مستوى
الاحتياطيات البترولية الكامنة المؤكدة تحت سطح الارض ويجري الحديث
بالتهويل عن قرب نقص كارثي وشيك، وعن التخزين للنفط المشترى بباطن
الارض في خزانات ضخمة في الولايات المتحدة وغيرها، في حين، وكما
هومعروف: ان العالم لازال يمتلك احتياطيات تقدر حسب بعض الدراسات بحدود
1,1 تريليون برميل من النفط، ماعدا الغاز الطبيعي، وهو ما يكفي تغذية
وامداد الاقتصاد العالمي من الطاقة لمدة 38 عاما؛ حتى ولو استهلك
العالم نفطه بالمعدلات الحالية للاستهلاك.
هذا الرقم الاحتياطي لازال بعيدا عن التقديرات الفعلية والواقعية؛ كونه
يشتمل فقط على تلك الاحتياطيات التي يمكن استغلالها في ظل التكنولوجيات
المتاحة في يومنا حاليا. ويجب التذكير ان هناك تريليونا برميل اضافيان
من الاحتياطيات التي يمكن استخراجها ايضا، لازالت غير مصنفة كاحتياطي
عالمي مؤكد، ولكنها يمكن ان تبلغ هذا المستوى خلال سنوات قليلة بفضل
التطورات التكنولوجية بما فيها الرصد الفضائي، واضافة انتاج نفوط اخرى
مثل النفط الفنزويلي بالغ الكثافة من النوع الاثقل، وكذلك النفوط
الممكن استخلاصها من الرمال المقطرنة الكندية، وما ستنتجه مكامن نفطية
اخرى في مناطق لم تستكشف بعد، سواء في البلدان المنتجة للنفط او غيرها.
ان دعاة قرب حدوث الكارثة النفطية، واصحاب التبشير بالتشاؤم في النضوب
النفطي والتهويل في تصاعد ارقام الاستهلاك الطاقوي يخلقون وضعا عولميا
نفسيا، واعلاميا مقصود يخدم ظروفا ملائمة للمضاربة والابتزاز بكل
اشكاله، وهو ما فتح الطريق للكارتلات النفطية الضخمة للاستثمار الى
ابرام عقود مجحفة بحق الدول المنتجة، وخاصة الفقيرة منها، التي لا قدرة
لها من ناحية الموارد البشرية والخبرات ومستوى التطور الاقتصادي على
المنافسة أو الاستثمار المستقل بخيراتها؛ مما يدفعها الى الاستسلام
للشروط السياسية والاقتصادية للمستثمرين القدامى والجدد، ومنهم من يضطر
الى إلغاء شروط وقوانين التاميم السابقة التي انتشرت في سنوات
السبعينيات من القرن الماضي ويعدل في اصدار قوانين لصالح استغلال
الاستثمار للاجانب في الثروات الوطنية.
وبعد التغيرات العاصفة التي احدثتها تاميمات السبعينيات في العراق
والجزائر وبلدان اخرى، اضافة الى مخاوف الدول الغربية من التهديد
باستخدام البترول كسلاح ضد العدوان، ساد حديث غربي بتنا نسمعه بقوة منذ
عام 1998/1999 حول الدعوة الى تخفيض الاستهلاك في البلدان المصنعة، او
انتاج مايسمى بالطاقات النظيفة من طاقة كهروشمسية، وبتوسيع مساحات
استخدام الخلايا الكهروضوئية، او توظيف طاقة الرياح اوموجات البحر
واهتزازات الامواج المائية، واستخدام تخمر المنتجات النباتية كالذرة
وغيرها من الاغذية لانتاج الوقود الحيوي او الكحول الطاقوي، اوالعودة
بقوة الى بناء المفاعلات النووية المنتجة للطاقة الكهرونووية بعد الهزة
والخوف التي انتابت العالم بعد حادثة انفجار المفاعل النووي في
تشرنوبيل باوكرانيا السوفيتية آنذاك.
كلها محاولات اثبت بطلانها واقع ما يعيشه الناس من التوقعات والارقام
المتداولة في العالم التي تشير الى عكس ما يقال، ويضخم اعلاميا، فهي في
النهاية حملات منظمة، تبقى غايتها الاساسية تخويف الدول المنتجة
للبترول والغاز باحتمال حدوث كساد في العرض، بفعل فائض الانتاج، وقلة
في الطلب بسبب الزعم في تخفيض معدلات الاستهلاك والحديث عن ظهور بدائل
طاقوية في الافاق القريبة، مما ادى الى عزوف البعض من الدول عن توسيع
الاستثمارات الوطنية في مجال الاستكشافات لحقول جديدة في بلدانها.
وعلى هذال المنوال، وبدخول الالفية الثالثة، لم تكن اي من البلدان
المنتجة للنفط قد تخلصت من خوفها من وجود فوائض في الانتاج وترددت عن
الانفاق والاستثمار في تطوير طاقات جديدة.
ان آفاق ونتائج غزو العراق اعادت الى الذاكرة اطماع الشركات البترولية
الطامعة من جديد للاستثمار والسيطرة على مطمور الطاقة من نفط وغاز في
بداية القرن الماضي، فالشركات الامريكية والبريطانية والاوربية تتدافع
لاستثمار نتائج الغزو والحرب لتعود بقوة لتسترجع نفوذها بعد ان كان
دورها يكاد ان يكون هامشيا بعد تأميمات سنوات السبعينيات في العديد من
الدول، وهي التي كانت عقودها مع الدول المنتجة قد اتاحت لها الوصول الى
حدود %20 من احتياطيات النفط الخام في العالم والسيطرة الكاملة على
حوالي %7 الى %8 فقط من الاحتياطيات.
وعندما انخفضت اسعار البترول في تسعينيات القرن العشرين الى مستويات لا
تعادل اسعارها حتى سعر قناني كوكا كولا او المياه المعدنية كانت
الشركات الغربية متعددة القوميات تقلص من تمويل استثماراتها في
الاستكشاف فتراجعت ما بين 1998 و 2005، فهبطت الطاقة العاملة في مجال
انتاج النفط العالمي من حوالي %15 الى ما يتراوح بين (2 - 3)% من الطلب
العالمي.
ان الواقع العالمي لموارد الطاقة يشير الى ان المنطقة العربية لازالت
تحتل الصدارة في الاحتياطيات البترولية وحقول الغاز، اضافة الى ان
موارد النفط في ايران والعراق والكويت وعمان وقطر والسعودية والامارات
والجزائر وليبيا مازالت، نسبيا، غير مستغلة وغير مكتشفة، على الرغم من
امكانيات هذه الدول المالية وخبرتها المتطورة، نسبيا بانتاج النفط. وهي
في حالة قصور نسبي في الانتاج يعود الى ماقبل ثمانينيات القرن الماضي،
وقبلها كانت تهيمن على المنطقة شركات عملاقة مثل ( اكسون، شل، وبريتش
بتروليوم،وموبيل، وشيفرون،وجلف، وتكساسو)، وهي شركات تعلمت من خبرتها
على التحكم في الاستكشاف والانتاج والتحكم في السوق العالمية متجنبة
الكساد، لكن موجة التأميمات في السبعينيات اطاحت بشركات النفط الغربية
في بلدان المشرق العربي والشمال الافريقي في ليبيا والجزائر، مما ادى
الى اختلال التحكم في التطوير الاضافي وبالانتاج، فالعراق يمثل حالة
كارثية فبعد غزو الكويت وقبلها سنوات الحرب العراقية الايرانية، ثم
سنوات الحصار والغزو عام 2003 توقف العراق تماما في منتصف الطريق بعد
ان توقف المسح الزلزالي ثلاثي الابعاد، وعدم توفر امكانيات الحفر
العميق والسطحي والجانبي.
وهاهو بعد الحرب وتكريس سنوات سبعة من الاحتلال والتحكم الاجنبي بقيادة
الولايات المتحدة يعرض حقوله للاستثمار والبيع بيد الشركات الاجنبية
معرضا مستقبله الاقتصادي الى الاخطار وارتهان سيادته الوطنية الى سنوات
طويلة قادمة.
كما ان ظروف الخليج العربي ليست على ما تسر ايضا، فبلدانه تعد غير
مستكشفة تماما؛ مقارنة مع بلدان اخرى في العالم، حيث لم يتم سوى حفر
الفين فقط من الابار الاستكشافية المصممة لاكتشاف الهيدروكاربونات في
طبقات الارض مقارنة مع حفر اكثر من مليون بئر مماثلة في الولايات
المتحدة، لهذا فان اكثر من %70 من استكشافات النفط في العالم في
السنوات العشرين الاخيرة قد تمت في الولايات المتحدة وكندا، رغم ان
هذين البلدين لا يستحوذان الا على %3 من الاحتياطيات العالمية المؤكدة،
بينما يلاحظ ان بلدان الشرق الاوسط لم تنفذ الا %3 من الاستكشاف، على
الرغم من انها تستحوذ على اكثر من %70 من الاحتياطيات المؤكدة.
ما بين (1995 - 2004) لم يتم حفر سوى 100 بئر استكشافية في حقول جديدة
في بلدان الخليج العربي، بينما توقف العراق تماما منذ 1990. وفي
الولايات المتحدة وخلال الفترة نفسها(1995 - 2004) تم حفر 15700 بئرا.
وفي بلدان الخليج العربي ، مابين (1995 - 2004)، خلال الفترة نفسها، تم
حفر 150 بئرا تجريبية (لاختيار الطاقة الانتاجية في حقل نفطي محدد)
واقل من 5000 بئر تطويرية ( للمساعدة في اعداد حقل النفط على الانتاج )
مقابل الولايات المتحدة التي انجزت حفر اكثر من 12300 بئر تجريبية و
250 ألف بئر تطويرية، وعندما يكون هناك حوالي 2500 بئر من جميع الانواع
في العراق، تكون ولاية تكساس الامريكية وحدها قد حفرت مليون بئر.
ان التنمية المستدامة تفرض انماطا على الانتاج والاستهلاك الطاقوي معا،
ورغم التذبذبات السعرية لمواد الطاقة، إلا ان المؤشرات تشير الى ان
السعر يؤثر في الطلب، وان العالم النامي بدأ يفرض احتياجاته ايضا
للحصول على الطاقة كمستهلك في الوقت الذي يحاول المستهلك الغربي الحفاظ
على امتيازاته ورفاهيته لاطول فترة ممكنة للتحكم في الطاقة وانتاجها؛
لذا سعت دوله الى فرض قانونها على المنتجين بما فيها الابتزاز بالحرب
والضغط الاقتصادي والسياسي. وما على الدول المنتجة الا السعي للتكافل
والتعاون لحماية حقوقها والتنسيق والاستجابة الى احتياجات اسواق
الطاقة.
وقد دخل الغاز الطبيعي ومنتجاته اسواقا واسعة، وتتكتل الدول المنتجة
للغاز ايضا لاظهار وجودها ككتلة اقتصادية متميزة، فقد اخلى النفط بعض
المجال امام الغاز الطبيعي والفحم والطاقة النووية. كان النفط حتى عام
1980 يمثل %45 من استهلاك العالم من الطاقة، وتراجع اليوم الى حدود %34
، ولكنه لازال يحرز منافسة قابلة للاستمرار في ظل شروط السعر والكفاءة
لسنوات قادمة ايضا.
يحتل قطاع النقل المجال الاكثر استهلاكا للنفط، ففي الولايات المتحدة
تذهب %70 من استهلاك النفط في مجال النقل والمواصلات، ويفتح هذا
الاستهلاك مجالا واسعا للحكومة الامريكية ان ترفع من الضرائب المنخفضة
نسبيا في هذا المجال الى التشديد في انماط الاستهلاك وترشيده وخلق
بدائل نفطية والتوصل الى صناعة سيارات تعمل بالكهرباء والبنزين
لاستهلاك نفوطا اقل.
لازال النفط ومشتقاته والغاز مصادر اساسية للطاقة للدول الاكثر تطورا
وهو لازال ضمن المواد الرخيصة، اضافة الى ان كثيرا من المشتقات في
الصناعات البتروكيمياوية هي المواد الاساسية لكثير من الصناعات، وان
الحديث عن قرب افول سيطرة النفط وقرب حلول بدائله لازالتا من الاماني
الطيبة لمن يريد ان يحلم للانتقال الى مستوى حضارى فوق الصفر الذي
أشرنا اليه في بداية هذه المقالة.
|