البلاد العربية منذ سنين عديدة والى سنين عديدة أخرى تجتاز مرحلة
انقلاب. والانقلاب يعني من جملة معانيه إن الأمة التي طرأ عليها
التشويه من الداخل والعدوان من الخارج لا بد، لكي تسترد السيطرة على
مقدراتها، من تجميع قواها السليمة وتركيز جهودها على الجوهري من
الأمور، حتى تتمكن من تحويل سيرها المتدهور إلى اتجاه صاعد، وحتى تتفوق
فيها عناصر الخلق والبناء على عناصر الموت والتخريب. وبكلمة مختصرة:
مرحلة الانقلاب تشبه حالة حرب دائمة بكل ما تعنيه الحرب من يقظة وحذر
ومضاعفة للجهد والإنتاج وتضحية بالكماليات واستثمار لجميع الإمكانيات
وتجديد وابتكار في طرق استثمارها. وفوق هذا كله وضع الخطة الشاملة
وتعيين الأهداف الواضحة وتوحيد العمل والنضال والإفادة من كل نصر جزئي
نحرزه في نضالنا الطويل لتغذية هذا النضال نفسه وتوسيع افقه ورفع
مستواه.
والمعروف ان الطبقة المتزعمة في الوطن العربي كانت وما تزال ابعد ما
تكون، سواء في تفكيرها أو في سلوكها وأوضاعها، عن الاستجابة لشروط
الانقلاب، وعن تحقيقها وحتى عندما توجد البلاد في حالة حرب فعلاً كما
في حادث العدوان الاستعماري الإسرائيلي الأخير، فان هذه الطبقة تتصرف
لا تصرف العاجز عن تحقيق متطلبات الحرب فحسب، بل تصرف المخرب المتآمر
أيضا. ولقد كان العدوان الأخير بمثابة تذكير وإنذار بأن الاستعمار
وحلفاءه من أعداء العرب سوف يعيدون تنظيم خططهم ويضاعفون إعدادهم
لمواجهة النضال العربي الذي فاجأهم بسرعة نموه، ولكن طبقة الحكام
والمستغلين في أكثر أقطارنا لم ترد إن ترى في العدوان إلا حالة طارئة
عارضة انتهت بانتهاء القتال في مصر. وسرعان ما عادت إلى سابق عهدها في
الميعة واللامبالاة. وترجمة هذا السلوك إلى لغة الواقع الصادق الصريح
هي ان هؤلاء لا يعترفون بشيء اسمه ثورة الجزائر وبأن هذه الثورة ركن
أساسي في النضال العربي. ان هؤلاء الحكام لا يعترفون فعلاً، وان رددوا
قولاً، بأن ثمة في قلب الوطن العربي دولة غاصبة غازية هي عبارة عن
معسكر يهيئ الحرب ويبيت الغدر. وان اتقاء خطرها واستئصال شرها لن يأتيا
عفواً بل بإعداد مماثل لإعدادها أو يزيد. وفي العراق وضد شعب العراق
مؤامرة استعمارية كبرى تهدد الأمة العربية كلها انكشف أمرها منذ أن ولد
حلف بغداد. وفي لبنان والسودان وتونس ومراكش مؤامرات تجمعها بحلف بغداد
أواصر القربى الاستعمارية والكيد للعروبة. وفي السعودية واليمن وإمارات
الخليج استعباد وجهل واحتلال وتنكيل. وكل هذا يستدعي لا توحيد النضال
فحسب، بل توفير وسائل النضال أيضا وذلك بتضحية العديد من النواحي غير
الأساسية في حياتنا لتركيز معظم الجهود على الأمور القومية الحيوية
التي تقرر مصيرنا وبقاءنا.
كثير من الدلائل تشير إلى إن الاستعمار قد خرج من محنته الأخيرة متعظاً
يحاول تسوية خلافاته الداخلية وتوحيد جبهته ضد الوطن العربي، وان يبرز
هذه المرة بخطط أكثر إحكاما، ووجه اقل تنفيراً، أي بخطط السياسة
الأميركية ووجهها. والجواب اللائق بهذا الهجوم الجديد إن ننتقل إلى
مرحلة أعلى وأنضج في توحيد النضال العربي نجسد بها إيماننا بوحدة أمتنا
تجسيدا عملياً واعياً فنضع قضايا النضال العربي فوق القضايا والحاجات
المحلية بشكل يخدم القضية القومية الكبرى. وهذا يفترض وضع خطة شاملة
بعيدة النظر والمدى تعالج الحاضر على هدي المستقبل القويم الذي نسعى
إليه، وتعيين المراحل والأمور المستعجلة المعالجة والأمور التي يمكن
تأجيلها. ولن تجدي هذه الخطة ما لم نقتنع ونسلم بدئياً بهاتين
المسلّمتين: أولا، إن هذا المستوى الجديد من النضال لا يقوم بغير
تضحيات جدية تتحملها الفئات والأقطار ذات الحظ الوافر من الثروة
والإمكانات. ثانياً، ان هذا المستوى الجديد لا يمكن ان يتحقق بعدالة
توزيع المسؤوليات والواجبات فحسب، بل أيضا بزيادة إمكانات الأقطار
العربية وتفجير طاقة الشعب فيها بإعادة النظر في الأسس والأنظمة
الاجتماعية الراهنة التي لا يمكن ان تعطي اكثر مما أعطت حتى الآن..
إن وصول بعض العناصر النضالية نتيجة لنمو الوعي العربي الشعبي الى
مراكز الحكم في مصر وسورية والأردن، لئن كان له اثر وفضل في تحقيق بعض
الخطوات في مجال التحرر والتمهيد للوحدة، فان له أيضا محذوراً يجب
التنبيه إليه. فوجود هذه العناصر النضالية في الحكم قد يخلق في نفس
الشعب بعض الاطمئنان والتخدير، وقد يدخل في قناعة الشعب ان ما لم تستطع
هذه العناصر تغييره هو بطبيعته غير قابل للتغيير، فتتشوّه نظرة الشعب
الانقلابية، ويتزعزع إيمانه بأمته وقدرتها. ليس النضال مجرد شعارات عن
التحرر ولا هو يكتفي بمعارك السياسة الخارجية. ان للنضال كثافة تمتد
الى حياة أبسط مواطن في أصغر قرية والى شروط هذه الحياة ووسائلها، لأن
منها ومن مثيلاتها تتكون قوى الأمة وطاقتها، فإذا لم تتمكن العناصر
النضالية ان تؤثر في الحكم بالشكل الذي يوجد للشعارات التحررية
الانقلابية جسماً تتغذى منه، وإذا لم تبدل في الأوضاع وتخلق من القوى
ما يسمح بالتكافؤ مع مهمة تحرير الوطن العربي وتوحيده والتغلب على
العراقيل التي يضعها الاستعمار وحلفاؤه وعملاؤه في طريقها، فان
ابتعادها عن الحكم يكون أدعى إلى تنبيه الشعب واحتفاظه بسلامة اتجاهه
وحيوية نضاله. |