يشهد العراق موجة جديدة من الصراع على السلطة ضمن ما يسمى
بالانتخابات وسط انقسامات شديدة واتهامات متبادلة بين قادة الأحزاب
والمليشيات التي افرزها الاحتلال الأمريكي ، وعملت وفق أهدافه وتطلعاته
الاستعمارية ، بينما لا يزال الدم العراقي مستباحا ً ، والوطن مجزءاً ،
والمليارات من عائدات النفط تنفق على العصابات والمليشيات والأزلام
والمرتزقة في اكبر عملية نهب منظمة تشهدها المجتمعات البشرية .
أمام هذا الواقع المأساوي و الكارثي لا يمكن لأي عاقل أن يصف ما يروج
له في العراق بالانتخابات ، ذلك لأن من أولى مقومات الانتخابات
الحقيقية ومن بدهيات ممارسة الفعل الديمقراطي أن يكون الناخب حراً في
ممارسة للواجب الانتخابي ، وان يكون الوطن مستقلا في اختيار توجهاته ،
لأن الحرية أساس الممارسة الديمقراطية ضمن دورة البناء السياسي
والاقتصادي والاجتماعي ، وكيف يمكن أن تنطبق هذه المفاهيم على وطن أرضه
محتله وشعبه إما مهجر وإما نزيل السجون ناهيك عن القتل والتدمير
والملاحقة ؟
كيف يمكن أن تكون انتخابات ديمقراطية إذا كان المشرفون والمرشحون
والقابضون على زمام السلطة في بغداد هم الذين جاؤوا مع الاحتلال
وتآمروا على شعبهم ، وتبنوا دستوراً يعمل على تجزئة الوطن ، وتقسيم
أراضيه بين الملل والنحل من أصحاب النزعات الطائفية والعرقية ؟
نص دستور بريمر على مقولة اجتثاث البعث ، وجاء بعده احمد الجلبي ليطور
هذا الاجتثاث ويعطيه صفة جديدة عرفت بقانون المساءلة والعدالة والهدف
واضح وجلي يتلخص في اجتثاث القوى الوطنية الشريفة ، واقتلاع جذور
الغيارى على العراق ووحدة العراق ، ليظل هذا العراق كما أراد له
الاحتلال الأمريكي والصهاينة وأصحاب المشاريع الطائفية والعرقية وطناً
بلا هوية وشعباً بلا مستقبل .
ما من دستور في أية دولة من دول العالم إلا ونص في مواده الأولى على
وحدة المجتمع والأرض ، وكفل بالتالي الحرية للجميع في ظل سيادة القانون
الذي هو أساس في المجتمع والدولة ، وأكد على ضرورة تكافؤ الفرص أمام
المواطنين ، وتوفير الحرية اللازمة للقطاعات الشعبية في حق إقامة
التنظيمات السياسية أو الاجتماعية أو النقابية .
وحده دستور بريمر ، ومساءلة الجلبي شكلاً سابقة في دساتير العالم حين
نصـّا صراحة على اجتثاث حزب البعث العربي والمتعاطفين معه ، وكل القوى
الوطنية والقومية والإسلامية التي رفضت مبدأ الاحتلال ، وتصدت بشرف
للمشروع الأمريكي الصهيوني في العراق .
يسأل المواطن العراقي ، ومن حقه أن يسأل من الذي يجب أن يجتث من العراق
البعث العربي الذي بنى العراق سياسياً واقتصادياً ووحده وطنية ، ووفر
قاعدة صناعية كبرى ، وحول العراق إلى جنة خضراء ، وقفز قفزات رائعة في
مجالات العلوم والثقافة ، وأقام صروح الجامعات والمعاهد ، وكان على
أبواب انتقال العراق من منظومة العالم الثالث إلى مصاف الدول الصناعية
الكبرى ، أم الذين قسموا الشعب العراقي إلى طوائف ومذاهب ، ودمروا
الجامعات والمعاهد ونهبوا الآثار ، وحولوا العراق إلى أرض قاحلة ؟
يسأل المواطن العراقي ، ومن حقه أن يسأل ، وهو يرقب مهزلة ما يسمى
بالانتخابات من الذي يجب أن يجتث من العراق البعث العربي الذي رفع
مستوى دخل المواطن إلى مستويات عالميه ، ووفر جيشاً من العلماء
والأدباء والمفكرين والفنانين والقادة السياسيين ، أم الذين سرقوا
ثروات العراق ، وجوعوا الشعب وقتلوا العلماء والمفكرين ، وأعدموا
القادة السياسيين في أوحش مأساة نازيه عرفها التاريخ ؟
لهذه الأسباب ولغيرها يرفض العراقيون التوجه إلى صناديق الاقتراع ،
ويعتبرون المشاركة في مثل هذه المهازل تفويضاً لأعداء الشعب لمواصلة
سيرهم في طريق تقسيم وتجزئة العراق ، ومع ذلك يسأل الباحثون في مراكز
الدراسات في الولايات المتحدة الأمريكية عن تفسير لرفض العراقيين
ممارسة حقهم الانتخابي .
إن أي شعب في دول العالم يمارس حقه الانتخابي إذا كان هذا الشعب يعرف
أن صناديق الاقتراع ستقود بلاده إلى مزيد من الاتحاد ، ومزيد من الرخاء
والتقدم ، وستجعل من بلاده واحة للحرية والديمقراطية فأين ذلك من
العراق ، صناديق الاقتراع في العراق تعني للمواطن العراقي تجزئة الوطن
الواحد ، وتقسيم المواطنين بين شيعة وسنة وعرب وأكراد وفق أجندات
ظلاميه كانت المجتمعات البشرية قد تجاوزتها منذ مئات السنين .
يتوقع كثير من المراقبين والمحللين أن يشهد العراق بعد الانتخابات
مزيداً من التصعيد على المستوى الأمني وذلك للأسباب الآتية :
أولاً : قد لا يتنازل حزب المالكي عن السلطة إذا ما تمكن أي ائتلاف من
الحصول على الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لتشكيل حكومة جديدة ، وهذا
ما سيفجر الوضع ويزيد الأمور تعقيداً .
ثانياً : في حال فشل أي تحالف أو ائتلاف من تشكيل الحكومة الجديدة ،
ستعمد هذه التشكيلات إلى توسيع دائرة تحالفاتها ، وستكون هذه التحالفات
طائفيه بالتأكيد مما يؤدي إلى إقصاء الأحزاب والائتلافات الأخرى .
ثالثاً : من تجارب السنوات التي تلت الاحتلال الأمريكي للعراق أن
الأحزاب والائتلافات تتنازل وببساطة عما كانت تعتبره خطوطاً حمراء في
سياستها الداخلية والخارجية في سبيل الوصول إلى السلطة ، وما يتخوف منه
العراقيون بعد هذه الانتخابات أن يتم التنازل عن مساحات من أراضي
محافظتي نينوى وديالى لصالح التحالف الكردي ، أو أن يتم التنازل عن
مساحات من الأرض أو آبار نفط في محافظتي البصرة وميسان لدولة مجاورة
بحجة إعادة ترسيم الحدود ، وحل الخلافات الحدودية .
هذا هو حال العراق في ظل الديمقراطية الجديدة التي بشربها الأمريكيون
والصهاينة ، وهذا هو حال الشعب العراقي المظلوم بعد اجتثاث بريمر
ومساءلة الجلبي .
|