إن فتنة الطائفية التي أيقظها الغزو الأميركي للعراق عام 2003
باعتبارها السلاح الوحيد القادر على تفتيت الوحدة الوطنية العراقية في
مقاومة هذا الغزو، وباعتبارها "الجزرة" الأميركية الوحيدة القادرة على
تحييد أي معارضة إيرانية كانت محتملة ومفترضة ومتوقعة في ضوء الخطاب
الإسلامي الإيراني ضد "الشيطان الأكبر" الأميركي، هي فتنة أثبتت طوال
سنوات الاحتلال الأميركي السبع الماضية، وتثبت اليوم، أنها كانت وما
زالت سلاحا ذو حدين ارتد على صاحبه الأميركي.
فالاحتلال الأميركي للعراق ما كاد يفرح بزواج المصلحة الأميركي –
الإيراني "الأمني" الذي سهل الغزو ثم الاحتلال الذي أعقبه قبل أن يفجر
الحرب الأهلية الطائفية في قلب الحاضنة الشعبية للمقاومة العراقية حتى
وجد نفسه اليوم أسير استحقاقات الحلف الذي أقامه مع الطائفية داخليا
وإيرانيا، وهي استحقاقات لم يعد يستطيع منها فكاكا إلا عبر مواجهة تنهي
شراكة الأمر الواقع التي تمخضت عن هذا الحلف، وهي مواجهة الاحتلال
الأميركي قادر على حسمها لصالحه في الداخل لكنه ما زال يتردد في خوضها.
وهذا التردد الأميركي في اجتثاث الطائفية ودعاتها في العراق ليس له إلا
تفسيرين، إما أن واشنطن تأمل في حسم المواجهة مع إيران داخل العراق
بنقل المواجهة إلى داخل إيران نفسها، كما هي الشواهد العسكرية
والسياسية الحالية، وإما أنها ما زالت تأمل في التوصل إلى ترتيبات
وتفاهمات جديدة مع إيران تنظم صيغة جديدة للعلاقة بين الجانبين في
العراق بعد إعادة الانتشار المرتقبة للقوات الأميركية بين العراق وبين
أفغانستان. وهناك تفسير بسيط ثالث وهو أن الاحتلال الأميركي لم يعد
قادرا على الاستغناء عن حلفائه الطائفيين بعد رعايته المستمرة لهم منذ
الغزو قبل سبع سنوات.
إن الأزمة السياسية الراهنة المتفجرة بين شركاء "العملية السياسية"
التي هندسها الاحتلال الأميركي للعراق بعد الغزو هي أزمة طائفية في
جوهرها وإيران طرف أساسي في تفجيرها، وهي أيضا، كما قال بريان كاتوليس
الباحث في مركز التقدم الأميركي (CAP)، "صراع بين إيران وبين الولايات
المتحدة على النفوذ" في العراق وفي منطقة الخليج العربي الغنية بالنفط،
"وبينما تسحب الولايات المتحدة قواتها، وبينما تعزز إيران نفوذها
السياسي والعسكري والاقتصادي، فإن العراق على الأرجح سوف يجر إلى داخل
فلك إيران، ويشبه الأمر تقريبا مراقبة عمل من أعمال الجاذبية" في
الطبيعة.
وقد لخص روبرت دريفوس الوضع في مقال له نشرته "ذى نيشن" في الثامن من
الشهر الجاري بقوله: "بالرغم من وجود أكثر من مئة ألف جندي أميركي، فإن
نفوذ أميركا في العراق يذوي بسرعة ــ ونفوذ إيران ينمو، ... لأنه حالما
اتخذ (الرئيس الأميركي السابق) جورج دبليو. بوش قراره المصيري باجتياح
الحكومة العراقية وتنصيب المنفيين المؤيدين لإيران في بغداد، كان
القرار قد اتخذ. ولا يملك الرئيس (باراك) أوباما أي خيار غير أن يحزم
حقائبه ويرحل".
ويتضح اليوم أن سلاح الطائفية الذي استخدمه شريكا الاحتلال في
محاولتهما إجهاض المقاومة العراقية قد تحول الآن إلى سلاح في يد الشريك
الإيراني إما لحسم الصراع مع شريكه الأميركي لصالحه داخل العراق، أو
لإبقاء المواجهة داخل العراق مع الولايات المتحدة التي تحاول الآن
نقلها إلى داخل إيران نفسها، أو لفرض صيغة جديدة لهذه الشراكة في
العراق بالشروط الإيرانية.
قال أول رئيس للوزراء في ظل الاحتلال إياد علاوي تعقيبا على الاجتثاث
الطائفي الجاري لمعارضي إيران وامتداداتها الطائفية في العراق من
"العملية السياسية"، باسم اجتثاث البعث، إن هذا الاجتثاث سيغرق العراق
في الطائفية ويضعه "في طريق الحرب الأهلية"، ومخاوف علاوي هذه هي نفسها
التي دفعت سفير دولة الاحتلال الأميركي كريستوفر هيل في الثامن عشر من
الشهر الجاري إلى التحذير من أن تأليف حكومة جديدة في بغداد بعد
انتخابات السابع من الشهر المقبل، إن جرت هذه الانتخابات في موعدها
المقرر، سوف يستغرق أشهرا وذلك يعني المزيد من عدم الاستقرار والعنف في
العراق، مما يعني أن الأمن والاستقرار في العراق، ناهيك عن
الديموقراطية وأي انسحاب ناجح لقوات الاحتلال، سوف يظل رهينة الصراع
المستعر على النفوذ داخل العراق وخارجه بين شريكي الاحتلال.
ولأن "الناس الذين تحدثت معهم في الإدارة (الأميركية) يقولون إن العراق
أهم من أن تسمح الولايات المتحدة بتفجيره من الداخل"، كما قال الجنرال
راي أوديرنو القائد العسكري لقوات الاحتلال الأميركي في العراق، تنفجر
اليوم "الحرب السرية في العراق" بين الشريكين الإيراني والأميركي كما
قال تقرير نشرته "فوربس" الأميركية في التاسع عشر من الشهر الجاري.
ولكون هذه الحرب "سرية" سببان، الأول أن شريكي الاحتلال ما زالا حريصين
على عدم وصول رسالة إلى الشعب العراقي بأن جبهة الاحتلال قد بدأت تتفكك
مما يعزز مقاومته ضد الاحتلال بكل أشكاله، والسبب الثاني أن الشريكين
لم يفقدا الأمل بعد في التوصل إلى صيغة جديدة لشراكتهما في إدارة
الاحتلال بعد إعادة انتشار القوات الأميركية المرتقبة.
لكن النتيجة المؤكدة للصراع الإيراني الأميركي على العراق هي أن الشعب
العراقي يظل الضحية الأولى والأخيرة لهذا الصراع، وأن هذا الصراع نفسه،
مثله مثل النهج الطائفي لسياسة الاجتثاث الإيراني في العراق، سوف يظل
مسوغا قويا لإطالة أمد الاحتلال الأميركي للعراق. أما النتيجة المؤكدة
الثانية فهي أن اليوم الذي تتمكن فيه الولايات من الإعلان عن انتصارها
في الحرب على العراق ما يزال بعيدا، وهو إعلان ما زالت الإدارة
الأميركية عاجزة عنه.
ولكاتب تقرير" فوربس"، مليك كايلان، تفسيره لما يبدو حاليا أنه انحياز
أميركي ضد عملية الاجتثاث التي ترعاها طهران، فالولايات المتحدة التي
راقبت بسعادة عملية التطهير الطائفي الدموية للحاضنة السنية للمقاومة
العراقية في العاصمة بغداد وقادت إلى عملية التهجير الجماعي لملايين
العراقيين داخل العراق وخارجه، "لم ترد أن يكون ثمن الاستقرار في
العراق هو تمكين إيران استراتيجيا في المنطقة". وقد أكد كايلان قوة
إرهاب النفوذ الذي أحرزته إيران في العراق تحت مظلة الاحتلال الأميركي
بقوله: "لا يوجد أي شك في أن أي سياسي عراقي له أي قيمة هو بحاجة إلى
التحدث مع طهران في الأقل لكي يبقى على قيد الحياة"!
واستمرار هذا الصراع الأميركي – الإيراني على العراق ينذر بالمزيد من
المعاناة للعراق ولإيران معا بقدر ما ينذر بالمزيد تدهور العلاقات
العربية – الإيرانية، ومن عدم الاستقرار الإقليمي، ويهدد باندلاع حرب
أميركية - إيرانية حذر رئيس الأركان الروسي مؤخرا من أن نتائجها ستكون
كارثية على الشرق الأوسط وعلى العالم، غير أن المؤكد أن العرب سيكونون
المتضرر الأول منها، بينما يجدون أنفسهم اليوم مسحوقين بين السندان
الإيراني وبين المطرقة الأميركية، وتجد دولهم نفسها مخيرة بين أهون
الشرين، وبين السيئ وبين الأسوأ منهما.
إن الجماهير العربية التي هللت للثورة التي أطاحت بنظام الشاه في إيران
باعتبار الإطاحة بالقاعدة الأميركية التي كان يرعاها في بلاده خلاصا من
حليف إقليمي للقاعدة الأميركية الأخرى في فلسطين المحتلة، وبداية خلاص
من كل القواعد الأميركية الجاثمة على الثروات العربية وعلى حرية القرار
العربي وسيادته، ما زالت تأمل في أن تسترد جماهير الثورة الإيرانية
أصالة عدائها للهيمنة الأميركية على المنطقة ولازدواجية معايير السياسة
الخارجية الأميركية فيها، لكي تصحو على حقيقة أن عوامل الجغرافيا
السياسية الثابتة تملي مصالح ومصائر مشتركة بين الأمة العربية وبين
إيران، مما يقتضي أن تبني إيران استراتيجتها على أساس التحالف
الاستراتيجي مع العرب، وذلك بدوره يقتضي تغييرا جذريا في سياستها
العراقية يتجاوز الأحقاد الناجمة عن "السم" الذي تجرعته باضطرارها إلى
الموافقة على وقف إطلاق النار مع العراق عام 1988.
أما الانتهازية السياسية الكامنة في الاستغلال الإيراني للاحتلال
الأميركي للعراق كفرصة ذهبية لمواصلة الحرب العراقية الإيرانية بطرق
أخرى فإنها سياسة ستكون نتائجها وبالا على الجانبين بالتأكيد.
لقد تحولت سياسة إيران العراقية إلى محك على حد سواء لصدقية العداء
الإيراني لأميركا من ناحية، وكذلك لصدقية الإدعاء الإيراني المعلن
بالسعي إلى شراكة استراتيجية مع العرب وإلى منظومة أمن إقليمية معهم من
ناحية ثانية.
|