بعد أخذ ورد، وشد ورخي، أبصرت النور التسوية على مشروع التعديل
الدستوري الرامي إلى تخفيض سن الاقتراع إلى ثمانية عشر عاماً. واقتضى
نصاب التسوية، توفير نصاب للجلسة التشريعية الذي يتطلب حضور 86/128 أي
ثلثي أعضاء المجلس الذين يتشكل منهم قانونا. هذا هو الشق الأول من
التسوية، أما الشق الثاني، فهو امتناع عدد من الكتل النيابية على
التصويت، بحيث لا ينال مشروع القانون أكثرية الثلثين اللازمة للتعديل
الدستوري، وبالتالي يسقط المشروع بالتصويت امتناعاً، وليس بمقاطعة
الجلسة. هذا المخرج الذي اعتمد، شكل ترضية للجميع، فالذي صوَّت
للمشروع، أعفى نفسه من إلصاق تهمة التعطيل به والذي امتنع عن التصويت
أعفى نفسه من تهمة التمرير دون ربطها بالسلة المتكاملة للتعديل
الدستوري المتعلقة بمنح المغتربين حق الاقتراع .عند هذه النقطة تكون
التسوية مرضية للجميع دون أن يكونوا واقعين تحت وزر التثقيل السياسي
لعبء التعديل الدستوري تعطيلاً أو تمريراً.
واللافت للنظر أن هذا المخرج، اتفق عليه دون صخب سياسي بالتوازي مع
تسوية تناولت موضوع الانتخابات البلدية التي ضاعت بين أولوية
الانتخابات وأولوية الإصلاحات. وبما أن الدستور فرض مهلاً دستورية لا
يمكن تجاوزها إذا ما أريد للانتخابات البلدية والاختيارية أن تجري في
موعدها كان "الإنزال" السحري على طاولة مجلس الوزراء والذي حصلت فيه
الموافقة على مشروع تعديلات قانون البلديات باعتماد النسبية. وقد كلف
وزير الداخلية صياغة هذه التعديلات ليصار إلى مناقشتها بعد إقرار
المبدأ، وعندما تبدأ المناقشات، يغوص الجميع في التفاصيل وغالباً ما
تسكن "شياطين" التعطيل في التفاصيل، فيؤخر البت بالتعديلات، والتي
يتطلب بعد إقرارها في مجلس الوزراء إحالتها بمشروع قانون إلى مجلس
النواب، وعندها تعود الدوامة ذاتها التي استحضرت آلياتها بشأن التعديل
الدستوري لخفض سن الاقتراع في مناقشة آليات التعديل الإصلاحي لقانون
البلديات، وعندما تمر المهل الدستورية، يصبح من المستحيل دستورياً دعوة
الهيئات الناخبة، وبالتالي تكون الانتخابات البلدية الاختيارية قد أجلت
بحكم الدستور وليس بحكم الرغبة بالتعطيل أو بالتأخير والموافق عليها
ضمناً من الجميع، نظراً لأن الانتخابات البلدية الاختيارية من شأنها أن
تعيد فتح الجروح التي ختمت على زغل، وحيث الكل يرغب بمساكنة سياسية
بانتظار متغيرات قد تحصل في المنطقة والتي لا بد وأن تترك انعكاساتها
على لبنان باعتباره ساحة متلقية بامتياز.
هذه المساكنة السياسية التي يحرص الجميع على تثبيت دعائهما كان تظهيرها
في تسويات المؤسسات الدستورية، انعكاساً لوقوف الجميع تحت سقف خطاب
سياسي محكوم بالتهدئة، كما ظهر جلياً من الخطاب السياسي الذي أطلق في
الرابع عشر من شباط في بيروت، وذلك الذي لاقاه داخلياً الخطاب الذي
ألقي بعد يومين في الرويس في الضاحية الجنوبية.
وإذا كان الخطاب الثاني قد اتسم بحدة النبرة تجاه عناصر الصراع مع
العدو الصهيوني، في نفس الوقت الذي لاطف بعض أطراف الداخل، فلسببين
أساسيين، السبب الأول هو الإدراك أن الساحة اللبنانية ما تزال محكومة
بتوازن يحول دون تمكين أي فريق من فريقي الاصطفاف السياسي بالقوى
المحورية المركزية فيه من الإمساك بكل مقاليد السلطة والإدارة
السياسية، والسبب الثاني هوالإدراك أن هذا التوازن لا تتحكم به معطيات
الداخل اللبناني وحسب، بل تدخل في تكوينه مؤثرات الخارج.
من هنا، فإن المرحلة الراهنة المحكومة بالمساكنة السياسية، والتي يرى
كل فريق أن له مصلحة حيوية فيها من شأنها أن تبقي الوضع في البلاد
محكوماً بالتعطيل من خلال شل قدرة المرافق العامة على العمل والإنتاجية
لانعدام القدرة على ملء الشواغر في الإدارة والتي هي أيضاً محكومة
بالتوازن.
على أساس هذا المعطى القائم، يبدو أن التكاذب السياسي هو الناظم
الأساسي لعلاقات الأطراف المنخرطة في إدارة الحكم، لأنه لو كان هناك
صدقية فعلية وحقيقية في تفعيل عمل المؤسسات لحل مشاكل الناس وتسيير
أمورهم، لكان الاتفاق حصل على القضايا ذات العلاقة بالأمور الحياتية
والمعاشية، ولو لم يتم التوافق والاتفاق على العناوين السياسية الكبرى.
أما أن يغرق البلد في ظل العناوين السياسية الكبرى في لعبة التعطيل
وتقذف إلى الوراء القضايا الحياتية، من توفير فرص عمل وطبابة وتعليم
وأمن اجتماعي بشكل عام، فهذا يعني أن أحداً لا يريد إصلاحاً في ظل
المعطيات الراهنة،خاصة وان نظاماً طائفياً يعيد انتاج نفسه دورياً لا
يمكن لطبقته الحاكمة ان تجدد نفسها،ومن يعود بالعملية الانتخابية
الاصلية اربعين سنة الى الوراء لا يمكن ان يكون مع تحديث فرع هذه
العملية عبر تخفيض سن الاقتراع. ان الكل ينتظر وهو لا يريد أن يخطو
دعسة ناقصة، لأنه ليس في موقع التقرير بل في موقع المتلقي وآن
للبنانيين أن يعوا هذه الحقيقة!!
|