كتاب* -
احْتِلالُ العِرَاقِ
|
||||||
﴿ الجزء الثاني ﴾ |
||||||
شبكة المنصور | ||||||
حــديــد الـعــربـي | ||||||
اعتلال الأمة وأسبابه
كان دور الأمة سلبياً خلال العدوان الذي تعرض له العراق، رغم كل الفعاليات الاحتجاجية المعبرة عن الرفض الشعبي للعدوان، بسبب ممارسات التغييب والتهميش التي مارستها الأنظمة عليها، وفرض إراداتها المتخاذلة عليها بالقسر والبطش، فيما لم تكن الجماهير قد ملكت زمام أمرها لتنهض بأداء دورها النضالي المطلوب تجاه العدوان على قاعدة نهوضها الحضاري، وموئل استلهامها للقيم الكفاحية الصادقة، لأسباب كثيرة، لم يكن وجود الأنظمة الرجعية العميلة للامبريالية والصهيونية العالمية كل علتها، بل كانت حاجتها للطلائع القادرة على قيادة مسيرتها نحو الانعتاق والانطلاق بصياغة فعلها الحضاري المنشود أكثر أهمية من وجود الأنظمة على خطورة دورها التخريبي والمعوق للطاقات والقدرات أن تأخذ فرصتها بالفعل الخلاق.
فحتى خلال الحصار كانت الأمة في أحسن أحوالها تقف موقف المتفرج، وما كان للحصار أن يكون لولا رضوخ العرب لإرادة القوى التي فرضته، فثلثي المحيط العراقي وعمقه عربي، وما كان بإمكان الأعداء إحكام أي صيغة من صيغ الحصار لو كان هذا العمق العربي قد أدى أبسط أدواره التي توجبها عليه عقيدته وقيمه وأخلاقه في رفضها والتعامل معها على أساس أنه حصار على الأمة جميعاً وليس على العراق فحسب، بل إن بعض الأنظمة المعروفة بعمالتها للغرب الكافر، بعضها يلهج بالإسلام وبعضها الآخر يتغنى بالعروبة ليل نهار، كانت تعمل بكل طاقاتها على زيادة أمد الحصار، لِما وجدت فيه من وسيلة ابتزاز ومغانم مستحدثة على حساب شعب العراق وأمنه، فيما ذهب البعض لزيادة صادراته النفطية تعويضاً لحصة العراق المتوقفة بفعل الحصار كي لا يتأثر اقتصاد أسيادهم مسببي الجوع والحرمان والأمراض والموت لإخوانهم شعب العراق الأبي.
كان الله تعالى قد انعم على هذه الأمة نعماً عظيمة هي بعض ثمار الرسالة المحمدية، لا تنسجم وهذه الصور المقززة للواقع العربي المقيت، فما الذي تغير فيها حتى غير الله تعالى ما كان بها من نعمة وسلبها إياها وأبدلها بعد الأمن خوفاً وذلا وغياباً كاملاً عن أداء الدور وحمل الرسالة الخالدة، والنهوض بأعبائها مجدداً؟
مفردات استجدت في السلوك، منها ناتج ردَّات الجاهلية ومنها من مكر اليهود ومنها من أحقاد وخبث المجوس ومنها من دسائس النصارى، تآزرت كلها لتمسخ الكيان الاجتماعي وتدمر منظومة قيمه السلوكية وتشوهها، فالسارق اليوم لا تُقطع يده، ليس لأن المجتمع يجهل حكم الله تعالى فيه، إنما هي قوانين الدنيا ودساتير الحكام التي لا تساعدهم على الجرأة في الحق من جانب، وعودة تقاليد القبلية الجاهلية لتفرض نفسها على السلوك العربي الإسلامي من جانب آخر، ومعلوم أن القوانين الوضعية هي صورة صادقة تعبر بوضوح عن أثر مراحل التآمر عبر الزمن الطويل في كيان الأمة، فهي وإن كانت قد وُضِعت لتلبي حاجات إنسانية خارج نطاق النقاء العربي الإسلامي، لكنها لا تلبي في أغلب الأحيان تلك الحاجات لأن الأثر السلبي كان قد سبقها ليمسخ أداة تطبيقها والعاملين عليها، مما أبرز الحاجة المتزايدة للعرف القبلي بأدواته الجاهلية السيئة.
والكاذب لا يُستهجن فعله ولا تحرم شهادته ولا يُرفض رأيه فتُقبل مشورته ويُعتدُّ برأيه، ولا يستبعد عن عملٍ يلي فيه للناس أمرا، ولا يمنع أن يكون ولياً للأمر، تصفق له الجماهير كلما نطق بنصف جملة قبل أن يكتمل معناها، فلا يضر أن تكون مفيدة أو غير مفيدة، الكذب فيها منمق أو مفضوح، لا فرق في هذا ما دام الصوت صوت الممسك بالسوط وصاحب الجيب، وذلك حال الرعاع في كل زمان، فما بالك لو جعلت منهم الأفعى غالبية ساحقة تتصاغر أمامها كل النسب والاعتبارات.
والزاني لا يُجلد ولا يُرجم ولا تحرم عليه المؤمنة أن يتزوجها إن كان يملك سحتاً كثيرا، وكذا تُعامل الزانية وإن علَّقت راية زناها عالية وأشهرت فسقها ضحى أو ظهرا.
والاحتيال والغش والخداع صار سلعة السوق وبضاعة التجار والمتبضعين على حدِّ سواء، وضمانة الوفاء للدائن والمدين، وعقد البيع وكتاب الشراء.
وجهاد الكافر المجرد لسيفه على رقاب المسلمين صباحاً ومساءاً صار الاستنكار أعلى مراتبه، وإن كان هذا الاستنكار لا يخرج عن أساليب المجاملات، فيما صارت مواجهة الكافر المعتدي دفاعاً عن النفس والعرض والأرض إرهاباً وإجراماً تُقطَعُ بسببه الرؤوس وتعلق الجثث ويمثل بها.
أما العالم والعمامة فصار شأنهما محيرا، يُسخَّر أغلبهم كأركان لدعم سياسات أنظمة الحكم والحكام وتبرير مواقفهما وقراراتهما وإضفاء طابع القداسة والوجوب عليها، فإذا تحول الحاكم من عداء اليهود الصهاينة الغاصبين للأرض والمقدسات إلى مسالمتهم والصلح معهم سارع رجال الدين لمؤازرته بتأويل الآيات والأحاديث وإن ناقضوا أنفسهم وخالفوا تأويلاتهم السابقة، مقتدين بمن ساير المأمون في فتنة ومحنة خلق القرآن، وإن غرَّد بعضهم خارج السرب فلمصلحة تقتضيها السياسة أو الخلاف المذهبي، وهذا ينسحب أيضاً على العلاقة بين الأنظمة العربية فيما بينها، فالنظام الذي يتصالح مع النظام الذي يرتزقون منه ويقبعون تحت سوطه سيكون نظاماً إسلامياً لا يجافي الشريعة، لكن النظرة سرعان ما تتعثر فتتبدل أو تتحول إلى عداء، وحينها سينقلب هذا النظام إلى كافر ملحد ظالم وعلماني لا يمتُّ للإسلام بصلة، حتى لتجد أن "وعاظ السلاطين" وصفٌ لا يليق بكثيرٍ منهم حين تحولوا إلى أتباعٍ للسلاطين وموظفين في دكاكين سياساتهم، فالعراق وقادته كان في رأيهم قبل 2 آب 1990م موطن أبطال الإسلام والذائدين عن حماه، يفصحون بذلك من خلال مديحهم ومعلقات قصائدهم وخطبهم النارية، فهم رأس العرب وذاكرة التاريخ ومرتكز الحضارة، لكنهم تحولوا في ذلك اليوم في فقه بعض العلماء الأعلام إلى بلد الإلحاد والكفر والفجور، واستوجب لردعه جهاد العرب والمسلمين وتولي الكفر والكافرين من النصارى واليهود، فتسابقوا لأجل ذلك يتأولون الآيات والأحاديث ويؤولون معانيها ليثبتوا تكفير من كان قبل يومٍ واحدٍ حاملا لراية الإسلام والدين، وليس الدافع في ذلك دينياً أو صحوة ضمير على الإطلاق، بل كان تعصباً قبلياً يعتصر في خباء نفس المفتي لبَّ الجاهلية ومصلحة الحكام.
هذا الحال كان من أسباب الانهيار المدوي للصلة بين الأمة وكثير من علماء دينها مما عززَّ في نفوس البعض من العرب مبادئ وسلوك التطرف بكل أشكاله وألوانه وأخلى الساحة لرؤوس الأفعى كي تنفث بسمومها في الجسد العربي وتصوغ واقعه كيفما شاءت وبما يضمن مصالحها وأهدافها، ولذا فقد نجح الفرس في تسويق مجوسيتهم باسم التشيع بين العرب وأزداد الطلب عليها بعد أن كانت سلعة بائرة منذ قرون.
نبي الإسلام يرشدنا إلى الصواب فنتركه ونحن ندَّعي إنا أنصاره وأحباؤه، فيما الغرب الكافر الذي يكفر بربه ويكذِّب رسالته يأخذ من سنته وشريعة دينه كلَّ ما وجدوه مفيداً في إصلاح سلوك مجتمعاتهم، العربي السلم يحفظ من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان ولا يعمل به، بل يتعمد البعض وضع الأذى في الطريق حتى إن المزابل لا يحلو لها إلا اتخاذ الطرق مقرات، فيما نجد الغرب الكافر قد استوحى من هذا الحديث النبوي الشريف قوانين صارمة تضمن نظافة شوارعهم وأزقتهم وحتى براريهم، والأدهى أن نجد بعض حكام العرب يستنون قوانين وأعراف للمحافظة على نظافة الشوارع يستقيها من قوانين الغرب لا من شريعة الذي نقل عنه الغرب، والأدهى من الأدهى أن حافز هذه القوانين ليس اقتداء بمفردة حضارية صحيحة، إنما هو لأجل ضمان تدفق دولارات السياح الأجانب ليس إلا، ولا مكان لصحة الشعب ومصلحته في هذا القرار.
أمرنا الإسلام بالمحبة والمودة ونهانا عن الأنانية والتباغض، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ويقول صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: إِصْـلاَحُ ذَاتِ البَيْنِ؛ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْـلِقُ الشَّعْرَ وَلكِنْ تَحْـلِقُ الدِّينَ" وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: "لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حتَّى تَحَابُّوا..." لكن سرعان ما اعتَلَّت الأمة بأمراض الجفاء والتفريط حتى صار أبناؤها مثلا صارخا للأنانية ومعرضا لأعراضها خلال عهود الانحطاط، وتفشت الأحقاد والضغائن بينهم حتى قيل عن بعض العرب - وهي ليست من خواصهم ولا من أصل سلوكهم - إن لم يجد أحداً يحقد عليه تحول إلى نفسه يوسعها حقدا.
فيما اتخذ الغرب من هذه الخاصية أساساً ومنطلقاً اعتمدت عليه مجتمعاتهم في بناء حضارتهم رغم كفرهم، حتى صاروا بفضلها ملاذاً لملايين العرب والمسلمين الهاربين من الظلم والجوع والأحقاد لينعموا برعايتهم وحمايتهم حتى من الأمراض، فيما لا تجد مؤتمنا على الدواء في مؤسسات الطب العربية إلا وكان سارقا له إلا ما ندر، ولا عربيا يشغل عملا مهمته رعاية اجتماعية إلا جعلها باب ارتزاق. والطامة الكبرى أن مؤسسات الحكم العربي لم تجلب للعرب من حضارة الغرب ما تمثلوه في حضارتهم عن إرثنا وثقافتنا الاجتماعية، لكنهم راحوا يروجون لكل الخصال السيئة فيها دون عرضها على قيم العرب والإسلام فشيدوا أنظمتهم الاقتصادية والمالية والمصرفية على قواعد الربا وهم يعلمون أن الربا قاصمة الظهر، يخالط الرزق الحلال فيحرم كله، حتى نشأت أجيال تتغذى على الحرام دون أن تدري، ولم يكتفوا بهذا فقد غضوا الطرف عن كل مظاهر الفساد والإفساد وهي تغزو كياننا الاجتماعي فتمسخه، أما عُدد القتال والدفاع الحديثة فلم يأتوا بها لأجل الدفاع عن كيان الأمة ومقدراتها وخيراتها وتحرير المغتصب منها والمحافظة على ما في أيديهم، بل لأجل حماية كراسي حكمهم أو تقويض ممتلكات إخوانهم العرب الآخرين.
إن الأفعى وسمومها لم تستثن جانباً من جوانب الحياة العربية الإسلامية، بل هي حرب شاملة استهدفت كل مناحي الحياة ومفرداتها، فالجهاد الذي كان أبرز عناوين الحياة وأشرف ما يمتهنه المؤمنون صار في واقع الانحراف تهمة كبرى، فالمجاهد الذي كان يجوب الأرض سيراً على الأقدام حتى تُدْمى من طول المسافات ومسالكها الوعرة وتتقرح الأشداق من شِدَّة الظمأ وقلة الزاد، لا يبغي إلا مرضاة الله واستجابة لأمره تعالى، يركض بروحه تسوق قدميه باحثاً عن الشهادة في سبيله وعزة دينه ونُصْرَة نبيه وإشاعة شريعته بين الناس، تفيض عيناه من الدمع إن لم يجد ما يتبلغ به مقصده، تسوَّد الدنيا أمام ناظريه إن حُرِمَ صولة جهاد وسبب شهادة، لا تعنيه الإمرة في شيء ولا يشغله إعجاب الأحبة ببطولاته ولا تستهويه المغانم.
تحول هذا المجاهد شيئاً فشيئاً إلى الدنيا يوم لم يجد من يقيه فتنتها ويمنعه هيمنتها حتى صار جهاده لها خالصاً، ولطول المُكث فيها راغباً، ولتوفير مستلزمات رغدها راغباً ومتفانياً، نسي الآخرة وما فيها وتوهم أن كنوز الدنيا وصياصيها مانعة عنه العذاب تاليها، فأذهب سطوة الروح واحتبسها في زنزانات عقله وغرائزه، وانصاع لوساوس الشيطان وهوى نفسه فولى هارباً إلى الدنيا وأطايبها وترك الأرض التي ركض إليها الشهداء من قبل بأرواحهم، طهروها وحرروا أهلها من دنس الغزاة. وكيف لا يهرب والدنيا من خلفه لا يملك سواها! فلو كان له في الآخرة طمعاً ونصيباً لما هرب مما هو خيرٌ له من الدنيا وما فيها؛ نصرٌ يُعِزُّه الله به أو شهادة يفوز بها على جنة الدنيا البالية بجنة لا تفنى ولا تبلى.
هوة عميقة صارت بين ذاك الجندي وتاريخه وبين جندي اليوم وواقعه البائس رغم النياشين و الأوسمة، ذاك أنفق لله مما أعطاه، وهذا يسرق عطايا الله ويكنزها لدنياه، فالعقول صارت لا تستوعب من الحال إلا ما وجدت عليها عقول الآباء والحكام كيف تفكر وبم تفكر ولِمن تفكر ومتى تفكر، فإن أراد عائد أن يعود وروح أن تتطهر فتسود وقلب وغرائز صغت فأذعنت، صاح الحكام والرعاع صيحة واحدة: إن هذا إلا إرهاب، وما علمناه من الإسلام، وما هكذا الجهاد.
وحق لهم صراخهم هذا، فالروح فيهم قد خوت وذلَّت، وأمر الله لا ينبع من عقلٍ ولا من غريزة، إن لم تنهض بهما الروح وتحملهما على فطرتها، فأيّ بلاءٍ ووباء هذا الذي عشعش في النفوس، طمس الروح ووسع لمفاوز الشيطان مكانا؟
مظهر آخر من مظاهر المسخ للثقافة الاجتماعية، يمس جانباً آخر من مفردات الحياة العربية وأثر الذين خرجوا من الأبواب وعادوا من الشبابيك إلى حيث كانوا.
كثيرا ما يحتدم الجدل العقيم بين معلم ومدرس، كل يدّعي أنه الأهم والأصل في العمل التربوي التعليمي في عالمنا العربي، فمعلم الابتدائية يرى أنَّ مفتاح الباب المفضي للتعلم والتربية بيده وحده، فهو الذي يسلح المتعلم بأداة التعلم، لا يتعلم اللغة إلا على يديه، أما مدرس الثانوية فهو يرى أنه الأهم والأجدر بالريادة والقيادة لأنه أعلى تحصيلاً، وما يعطيه للطالب من العلم أكثر بكثير من مبادئ العلم التي ينهض بها معلم الابتدائية، وانه يتعامل مع مراهقين، السيطرة عليهم لوحدها إنجاز، على العكس من أطفال الابتدائية حيث يقادون بيسر وسهولة، ثم يأتيهم الاستاذ الجامعي مسفها ومعترضا، يقول: هل أنتم إلا من ثمار جهدي وتعليمي كي تتطاولوا! ألستُ الذي جعلت منكم معلمين ومدرسين؟
ثم تعود الحلقة المفرغة من حيث بدأت فيردان عليه بالقول: لولانا لما أمكنك تعليم أحد، فأنت لستَ إلا قاطف لثمار أنضجناها، ولا تنسى أيضا الذين أوصلوك إلى ما أنت عليه، فقد بدأت تلميذ ابتدائية ثم صرت طالب ثانوية قبل أن تلج الجامعة.
وهكذا يستمر الجدل العقيم الذي أوجدت أسبابه رؤوس الأفعى وفرضتها على واقع العرب بكل هدوء وسكينة، حتى لكأن أحداً لا يصدق هذا.
ففي عصر النقاء لم يكن هناك سوى معلم ومتعلم، عالم وطالب علم، منذ أن يبدأ الطفل بنطق حروف الأبجدية وتعلم رسمها وتكوين الكلمات والجمل منها حتى أعلى مراحل الدرس والتحصيل، لكن الذين دخلوا من شبابيك العرب أوجدوا هذه المسميات والألقاب والأنانيات كجزء من عملية التمزيق والتفريق والاصطفاف المَرَضِي، فالنظام التعليمي العربي اليوم هو بكل تفاصيله ومفرداته مستورد من حضارة الغرب أو هو بشكل أدق ما أوهمنا الغرب أنه بعض ثمار حضارتهم، لكن الحقيقة غير هذا، فغالب مدارس الغرب إن لم تكن كلها شاملة لكل المراحل الدراسية، وليس في أعرافهم التعليمية هذه التقسيمات التي أوجدوها في واقعنا التعليمي أو سخروا من نقلها عنهم ممن تغذى بثقافتهم، ورضع من أثداء مكرهم، فيما أخذ الغرب الصحيح من منهجنا الأصيل، فكل القائمين على مهنة التعليم بكل مراحله يشار لهم بكلمةTeacher يتوحدون بها ولا يفترقون، فيما نقلوا إلينا أمراضاً شفوا هم منها بفعل تدقيقهم بمفردات حضارتنا، فصيرونا معلمين ومدرسين وأساتذة جامعات وبينها صفات ونعوت، وقد وجدنا في كثير من بلدان العالم الغربي من يحمل أعلى الشهادات العلمية يمارس بفخر واعتزاز تعليم أولى صفوف التعليم والمعرفة.
هذا نزر يسير من أوبئة وسموم أمرضت الواقع العربي مما نقله الأعداء إلينا من خلال كتائب احتلالية لا ترتدي البزة العسكرية ولا تحمل بنادق ولا أسلحة تدمير شامل، دون ممانعة أو رفض من العرب أو مواجهة كما تفعل البطولة العسكرية، لأنها لا تشكل في وعي العربي انتقاصاً للاستقلال أو انتصارات التحرير كما يتوهمون.
ولنا في واقع العراق اليوم وهو على أبواب الاستقلال الشكلي هذا، حيث ستبدأ جحافل الغزو العسكرية بالانسحاب خارج أرضه، أو الانكفاء في جحور القواعد العسكرية، أمثلة كثيرة جداً، ستجعل من استقلاله وتحرره كذبة وخدعة أخرى تضاف إلى ما عليه واقع الأمة كلها، وتترك فيه أمراضاً بدأت تمارس دورها في الواقع العراقي، ومنها ما صار جزءاً من منظومته السلوكية.
من الأساليب التي اعتمدها الغزاة في سعيهم لتفكيك البنية الاجتماعية، إغلاق كل منافذ الرزق الحلال وأسباب العيش التي لا تذهب بصاحبها خارج نطاق إنسانيته، بما يجعله مضطراً لتداول الحرام وتبرير إتيانه وتعاطيه بإلحاح الحاجة ومتطلباتها، فيخضع ويستجيب لِما أُريدَ له.
ولهذا لم يُفَعِّل الغزاة في الحياة العراقية إلا مهن التجسس لهم أو التطوع في التشكيلات البطشية العسكرية التي قاموا بتكوينها كبديل لا بدَّ منه بعدما أفرغوا البلد من مؤسساته الدفاعية والأمنية الوطنية العريقة وذات التاريخ المجيد، والتي استهدفها بالحلِّ والملاحقة والاجتثاث والقتل والتهجير والتغييب في المعتقلات، قاصداً بذلك تحقيق هذا الهدف بالدرجة الأساس، فصارت سبل العيش لا تفضي إلا لمسالك الغزاة المحتلين وغاياتهم، مع ما تحمله من إغراءات دنيوية كبيرة وحوافز مادية يسيل لها لعاب المتهافتين، فحين تصاغ أهداف الفرد في رحلة الحياة لتقتصر على المنافع المادية، سيكون من السهل جداً شيطنة سلوكه وحرفه عن فطرته الإنسانية، وحين صارت المادة هي الهاجس الأكبر في الحياة برزت الرأسمالية والشيوعية كاتجاهين متناقضين في ظاهرهما، لكنهما في الحقيقة منسجمين على شيطنة النفس البشرية وإفراغها من دواعي الحياة الأخرى، وذلك يحقق للمحتل أهدافاً متعددة في آن معاً:
أولها: إيجاد العيون المحلية التي تُبصر له ما لا يمكنه ولا يستطيع رؤيته، تسهيلاً لعمل أجهزته الاستخبارية التي يعتمد عليها أمن جيوشهم بالدرجة الأساس، وأوجدوا لتحقيق ذلك الهدف مسميات خادعة عدَّة، منها كمترجمين ومتعهدين ومقاولين، يديرون شبكات واسعة من الذين لا يتورعون في الاعتياش على أثمان بخسة مقابل ما يدلون به من معلومات أقلّ ما توصف بأنها دلائل للغدر والخيانة وتولي الكفر والكافرين.
وثانيها: تحويل هذه الزمر وأغلبها من الجهلة والرعاع وأرباب السوابق وذوي المكانة الاجتماعية الوضيعة، مع العينات المنبثقة أصلاً من هذه الخلفيات والتي تشكلت على عيون الأفعى في إيران وغيرها كعصابات للجريمة المنظمة، إلى أدوات للبطش بالشعب بحسب ما تُمليه عليهم إرادة الغزاة وحاجاتهم، الأمر الذي يحسِّن من صورة جنود الغزاة أمام وحشية هذه الأدوات المدفوعة والمندفعة إلى آخر مدياتها بالإجرام، تحقيقاً لكسب ثقة المحتل ولي النعمة وضمان عطفه وكرمه عليها، والشفاعة لها من عقاب الشعب والأمة.
وثالثها: إشعار الشعب العراقي والأمة العربية بأن للمحتل أعوان من بين صفوفهم يتحمسون لتحقيق أغراضه، لخلق حالة الانكسار النفسي وتعميقها أكثر فأكثر، من أجل أن يسود الشعور بالعجز والإحباط ويتراجع حماس أبناء الأمة ويموت الأمل في نفوسهم بالخلاص من واقع الاحتلال.
ورابعها: إشعار منتسبي هذه العصابات والتشكيلات الإجرامية بارتباط مصائرهم بوجود المحتل، كنتيجة طبيعية للهوة التي وسعها إجرام هذه الأجهزة ضد الأبرياء والرافضين للاحتلال البغيض، بينها وبين الشعب، فانسلخت منه وباتت تأوي إلى خندق الغزاة وتتمسك به وتبذل ما وسعها لاستمرار وجوده أو إطالة أمده.
خامسها: تمزيق أوصال المجتمع وإشغاله بحروب أهلية بين هؤلاء القتلة وذوي الضحايا بمجرد شعور القوات الغازية بأنها تقف على حافة الانهيار نتيجة تصاعد المقاومة المسلحة التي يخوضها الشعب ضدهم، والضربات الموجعة التي يلحقها بأدوات غزوهم، والتي كانت قوى الاحتلال قد أعدتهم إعداداً يمكنهم من إشعال فتيل حروبٍ أهلية ذات طابع طائفي، من خلال المساعدة السخية التي تقدمها دولة الشرّ الخميني الفارسية، متى تطلبت حاجات الاحتلال إليها.
سادسها: محاولة تشتيت جهود رجال المقاومة ولفت أنظارهم عن جنودهم، بالتوجه نحو العملاء والجواسيس والمتطوعين في التشكيلات ذات الصبغة الطائفية والعرقية، وإغرائهم بهم حماية لجنودهم، خاصة أن هؤلاء العملاء يسهل على المقاومة الاقتصاص منهم لوجودهم في مناطق سكناهم خلال العطل والإجازات ولعدم امتلاكهم أسلحة ومعدات ثقيلة كالتي يحملها المرتزقة الأمريكان، ومحدودية قدرتهم على المناورة لفقدانهم أي رصيد اجتماعي حقيقي.
سابعها: تمزيق أوصال المجتمع من خلال استفحال القتل بين أبنائه، فيتحول كل قصير نظر ليبحث عن ثأره في دماء أبناء جلدته ويترك المحتل ينفذ برامجه براحة تامة، بمشاكل قبلية وعشائرية وحتى عائلية تتسم بأعرافٍ جاهلية تعمق من واقع الفرقة والتناحر والاحتراب، وذلك يساهم كثيراً في صرف أنظار الشعب عن المحتل وجرائمه لزمن يتيح له إعادة ترتيب أوضاع قواته المسلحة وغير المسلحة.
فيما اعتمد الغزاة من جانب آخر على فئة محددة من الأعمار في التعامل والتوظيف، فقد حدد اختياره قدر الإمكان للفئات العمرية التي لا تتجاوز في وعيها مرحلتي الحصار والاحتلال، من أجل إشغال الوظائف والأعمال التي تمس وجود المحتل وأدواته والفاعلة في الواقع الاجتماعي، والداعي لهذا الخيار أن يستهدفوا من لم يعايشوا منجزات العهد الوطني، ولم يروا الواقع البائس الذي كان الشعب يعيشه قبل الثورة، وممن لم يعلق في أذهانهم من أيام البطولات شيئا، فتكون النتيجة أن يقع أغلب هؤلاء صرعى أمراض ازدواجية الشخصية وتناقض مفردات وعيها، فهم من جانب يراد بهم أن يتشبعوا بثقافة المحتل والاحتلال، فيما يتأثر سلوك العديد منهم بثقافة الأهل والبيئة الاجتماعية التي ترسخت فيها ثقافة المجتمع ما قبل الاحتلال بكل مفرداتها السليمة والمريضة، وهذا يكفي لمسخ حياة هؤلاء وشلِّ تفكيرهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات ممسوخة ومثقلة بعقد نفسية كثيرة.
الفصل الثاني من أسباب نجاح الغزو الأنظمة العربية وأدوارها التآمرية
منذ عام 1968م وأغلب الحكام العرب يعانون من عقدة العراق وقيادة العراق، فقد اعتقدوا، وهم ليسوا بواهمين، إن الوضع الجديد الذي بدأت معالمه تتضح بعد الثورة بأشهر قليلة في الواقع العراقي سيؤثر تأثيرا سلبيا على أنظمتهم واستقرارها، فرجاله لم يكونوا موضع اختبار وترقب، لأنهم جزء من حركة تاريخية قادت نضال وكفاح الجماهير العربية في أكثر من ساحة بنجاح متميز خلال العقود الثلاثة المنصرمة، خلال مرحلة كانت من أصعب المراحل وأدقها وأشدها خطورة وقسوة على الأمة، أظهروا خلالها كفاءة وقدرة كبيرة على تثوير الجماهير ووضعها على المسار الصحيح للتغيير الايجابي، وهم يعلمون أيضاً، وهذا هو الأهم، أن الثوار يحملون مشروعا حضاريا نهضويا قابل للحياة والتطور والاستمرار، لا يستهدف قطر عربي معين بل يشمل الأمة بكل كياناتها المستحدثة بإرادة الامبريالية وتحقيقا لأهدافها ومصالحها، ومما يعزز اعتقادهم ذاك أن هناك طلائع نضالية ثورية تنتشر على مساحة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج العربي، تشكل امتدادات لمنهجهم تتفاعل معها بايجابية، وان أي قطر أو جزء من كيان الأمة يتحول على يد هذه الحركة التاريخية إلى قاعدة رصينة للنهوض بأعباء المشروع الحضاري وتوفير مستلزماته الضرورية سيشكل خطرا لا يدانيه خطر أخر على أنظمتهم، لأن الجماهير العربية مهما كانت ضعيفة ومستلبة حين تجد من يضعها على مسار النهوض الصحيح فإنها ستكتسح كل هذه الأنظمة باعتبارها جزءاً هاماً من المعوقات وأسباب الوهن وتلقي بها في مزابل التاريخ مهما امتلكت من قوة ومارست من أساليب البطش والتنكيل عليها، ومهما تحالفت مع القوى الامبريالية المهيمنة على قرارها، ولطبيعة انتمائها الهامشي للعروبة والإسلام.
وقد تعززت هذه القناعات من خلال الانجازات التاريخية التي نهضت بها قيادة العراق، والتي كانت أبرزها تطهير العراق من أوكار التجسس والعمالة وحل المسألة الكردية ببيان الحادي عشر من آذار 1970م وترصين الوحدة الوطنية بالجبهة الوطنية والقومية التقدمية، والتي جعلت من شعب العراق كتلة موحدة باتجاه أهدافها الوطنية والقومية معاً، ثم عززتها بالقرار التاريخي المقتدر في الأول من حزيران عام 1972م بتأميم مصالح الشركات النفطية الاحتكارية، الذراع الطويلة للامبريالية التي كانت تستحوذ على مقدرات العراق والأمة، وتتصرف بها وفقا لمتطلبات مصالحها وسياساتها، فتفرض من خلالها على الأنظمة نوع السياسات التي تريد أن تنتهجها، ذلك القرار الذي تخوفت منه وشككت في إمكانية نجاحه إحدى القوتين اللتين كانتا ترهبان الكرة الأرضية بأسرها، فكان نجاحه نقلة نوعية تاريخية وضعت العراق على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة، فيما وضعت الأنظمة الرجعية المرتبطة كلياً أو جزئياً بالسياسات والمصالح الخارجية أمام مصيرها المحتوم على يد الجماهير العربية التي راحت تشرئب بأعناقها نحو العراق وقيادته، وتتطلع يوما بعد أخر لساعة خلاصها، بعد أن انبعث فيها الأمل من جديد، حين ارتبطت صور الأنظمة العربية بكل النكبات والنكسات التي أحاقت بالأمة وأفقدت الجماهير أي بارقة أمل بالخلاص والنهوض مجددا، ومع ازدياد قدرة العراق وتعاظم تأثيره على الساحتين العربية والدولية ازدادت معها حماسة المواطن العربي وأخذ نضاله يتسم بالثورية والصلابة وتحدي الأنظمة وسياساتها في كل أقطار الأمة بلا استثناء، ومع هذا وذاك كانت الأنظمة تتحصن في جحورها بالمزيد من الارتباط المصيري مع القوى الامبريالية وتعمق من تبعيتها لها بشتى فروض الطاعة والولاء، وان كانت مواقفها العلنية خلال معركة قادسية صدام المجيدة لصد الهجمة الخمينية الشعوبية الفارسية عن الأمة وعقيدتها خلال الأعوام 1980-1988م توحي بأنها كانت صفا مع العراق في ظاهرها، لكنها في الحقيقة كانت غير ذلك تماماً، فسياساتها كانت عبارة عن تفاعل سلبي مع الوثبة الجماهيرية في كل أرجاء الأمة والتي حاولت من خلالها امتصاص غضبها وتفويت الفرصة عليها، فيما كانت في الخفاء تدفع باتجاه استمرار الحرب بشتى الوسائل والسبل التي تتوافق مع مصالح أسيادها، وتعمل من جانب أخر على تعزيز مواقعها بانشغال العراق وقيادته وجيشه برد العدوان وتحطيم الهجمة المغولية الجديدة على الأمة، ولعل مجلس التعاون الخليجي الذي أُسس مطلع عام 1981م كان رد الفعل الأبرز فيها، فهو لم يكن من أجل العروبة وأمن الخليج العربي مطلقاً، بل وسيلة لتعزيز الحماية للأنظمة المرتبطة بمصالح الغرب وأهداف سياساته، وإلا لكانت أولى مهامه المطالبة بالجزر العربية أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى والتي احتلتها إيران عام 1971م وسلختها من جسد الأمة ودولة الإمارات، ولكان العراق أول المدعوين للانضمام إليه، وهو دولة خليجية مهمة ومؤثرة ويملك اقتصادا وجيشا قادرا على حماية كل الخليج من أي أطماع خارجية، بل كان هذا المجلس في حقيقته من متطلبات التحوط والاستعداد لمواجهة الآثار التي سيتركها انتصار العراق على طبيعة نضال الشعب العربي ضد أنظمته العليلة الذليلة وعمالتها والنفوذ الأجنبي عليها، وما تطلبه من توحيد لجهود الحكام لخلق قدرة الوقوف بوجهها جمعا موحدا، وهو الأمر الذي كانت قيادة العراق تدرك خلفياته ودوافعه وأهدافه، وتملك من الأدلة والوثائق ما يؤكد تآمر هذه الأنظمة واندماجها في المشروع الامبريالي الصهيوني الفارسي المعادي للعراق وقيادته وحركته التاريخية، تأكدت كليا بعد خروجه منتصرا قويا وقادرا على مواصلة مشروعه النهضوي الحضاري بهمة وإصرار اكبر وثقة بالمستقبل أعلى من ذي قبل، مع قناعات كبيرة بدأت تتكون في وعي المواطن العربي بقدرة الأمة على النهوض واستعادة دورها التاريخي. ولعل الإشارة إلى دور بندر بن سلطان بن عبدالعزيز في فضيحة إيران كونترا ومساهمته بدفع مبلغ خمسة وثلاثين مليون دولار لتمويل تلك الصفقة التي شاركت فيها المخابرات المركزية الأمريكية والكيان الصهيوني لدعم العدوان الإيراني ضد العراق، كما وثقها "وود وارد" مؤلف "كتاب القادة" تؤكد ذلك بما لا يقبل الشك.
وكانت اغلب الأنظمة قد كشفت عن مكنوناتها وجاهرت بحقيقتها العدائية للأمة وتطلعاتها خلال تلك الفترة، لأنها توقعت أن يهزم العراق وتفشل تجربته أمام ترسانة خامس جيش في العالم يحض بحجم كبير من الدعم الامبريالي الصهيوني له، فالنظام السوري كشف عن وجهه النصيري القبيح وأوقف مرور نفط العراق عبر أراضيه وفتح أجواءه للطيران الفارسي لضرب القواعد الجوية القربية من حدود سوريا، والتي أنشأها العراق أصلاً من أجل حماية الأرض السورية من الهجمات الصهيونية، وذهب نظام أخر ليحول الصواريخ التي كان يوهم شعبه بأنها معدة لضرب الكيان الصهيوني إلى الفرس ليسقطوها على أطفال العراق وشيوخه، ونظام أخر يختلق الأكاذيب لقطع العلاقات مع العراق بحجة مقتل شخص عراقي على أرض بلده، بالوقت الذي كان شعبه ينزف دماً غزيراً هو والشعب الفلسطيني المشرد من أرضه بفعل إيران المباشر وغير المباشر مدعوما من النظام السوري فلا يجرؤ على قطع العلاقات معهما، وآخرون جندوا أجهزة مخابراتهم لجمع المعلومات التي تمس أمن العراق والأمة كلها وتقديمها للصهيونية المجرمة ومن يقف خلفها ولا يبذلون جهدا مكافئا لمنع المخابرات الصهيونية من العبث بمقدرات شعوبهم ودولهم، بل تركوها حرة طليقة تصول وتجول، وأخر كان قد أفشل جهود العراق في تشكيل فيلق عربي للمساهمة في وضع حد لمعاناة الشعب العربي الفلسطيني عهدا منه ووعدا للإدارة الامبريالية والكيان الصهيوني بإفشاله، تُرِك ليكون الوسيط المخادع الذي يؤجج نار الفتنة التي أشعلها حكام الكويت، فتنجح المؤامرة الامبريالية الصهيونية على العراق عام 1990م بفعل أدوارهم التآمرية التدميرية، وقد كان أكثرهم تحمساً وخداعاً لأنه كان يلمس الأرضية الواحدة التي وقف عليها الشعب المصري مع شقيقه العراقي وتطلعه للحاق به في مسار النهوض الحضاري، واستعادة دوره الطليعي الذي لا يمكن له أن يتحقق بأي شكل من الأشكال في ظل نظامه الضالع في العمالة والتبعية إلى أبعد الحدود.
وهذا الأمر كان في حقيقته خارج عن إرادة العراق وحركته، فجسور الصلة مع الأمة لا بد من تحقيقها لكي لا يبدأ المشروع الذي يستهدف بنتيجته النهائية كل الأمة بعيداً عن محيطة الصحي والسليم، فيما لا يمكن إبعاد أبناء الأمة عن معايشة إرهاصات التجربة وممارسات الإعداد لها، لأنها لا يمكن أن تكتمل وتأخذ مداها الأرحب إلا ببعدها القومي، وتمنع عليها السقوط في مهاوي القطرية فتفقد كل أسباب شرعيتها، مع كل هذا كان يمكن بالتحسب الشديد تسنده الأرضية الواضحة لحقيقة واقع الحكام ومناهجهم المكشوفة، أن يتجنب العراق بعضاً من دسائسهم، أو على الأقل يخفف من آثارها.
التآمر السياسي
مارست العديد من الكيانات والأحزاب السياسية في الوطن العربي أدواراً تآمرية ترتكز على محاولات تشويه صورة البعث وثورة العراق وقيادته التاريخية، من خلال وصمه بالعلمانية الإلحادية، كوسيلة رخيصة ووضيعة تستهدف إبعاد الجماهير عن تجربته الرائدة، وهي بذلك كانت تساهم مع القوى الامبريالية والصهيونية والشعوبية والرجعية العربية بقسط وافر من عمليات تضليل أبناء الأمة، وتزييف وعيهم، عن طريق قلب الحقائق.
فالعلمانية، كما هو معلوم، نشأت في أوربا خلال القرن الثامن عشر كنتيجة للتناقض الحاصل بين الكنيسة المسيحية وبين حركة المجتمعات، التي شهدت تطوراً متسارعاً من خلال الاكتشافات العلمية، التي أثرت بدورها في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي للشعوب الأوربية، ولأن المسيحية ديانة جاءت لتعالج واقع محدد بالزمان والمكان، فإنها لم تكن قادرة بأي حال من الأحوال على مواكبة التطور اللاحق والاستجابة لمتطلباته، الأمر الذي أدى إلى ضرورة فك هذا التناقض المعرقل لحركة المجتمعات والرادع لتطورها، فكان لابد من تقاسم السلطات والنفوذ بين الكنيسة والقوى السياسية الحاكمة، لذلك ظهرت النظريات الفلسفية المتعددة، التي تتمحور في أساسها على فصل الدين عن السياسة، واعتماد العقل كأساس لقياس معطيات التغيير التي حدثت في الواقع، وتحديد مدى شرعيتها بعيدا عن القيود الدينية للكنيسة، وبذلك تمكنت أوربا من إيقاف الصراع الدامي والطويل بين الكنيسة المسيحية وبين القوى السياسية الناشئة.
وحتى هذه العلمانية لا تعني الإلحاد في كل أحوالها، فهي في أحد اتجاهاتها لم تكن تستهدف الدين بقدر ما استهدفت تحجيم دور الكنيسة السياسي والقاصر عن تلبية احتياجات التطور الحديث ومواكبته، فيما اتخذت اتجاهات أخرى من العلمانية وسيلة لمنع إقحام الدين في الخلافات السياسية وتحويلها إلى خلافات دينية مع تمسكهم بالإيمان، فيما ذهبت أخرى إلى اعتبار الدين حالة متخلفة تقف في وجه التطور، يجب تجاوزها.
وهذا لا ينطبق على الإسلام في شيء، فلقد أثبتت الحقائق أن كل مفردات التطور، والتي استحدثت في الحياة خلال القرون الثلاثة الماضية إنما كانت مستقاة في جوهرها من العقيدة الإسلامية، وكانت تجد لها سنداً وتفسيراً فيها، من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية، والخلاف فقط في طبيعة استثمارها والغايات المتناقضة التي تقف خلف اعتمادها كوسائل في الحياة البشرية.
وهذا لا يتعلق بخواص الاكتشافات العلمية التي أشارت إليها مصادر العقيدة الإسلامية قبل أكثر من 1400 عام، فقد قال الله تعالى:{ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(1) لكنه يتعلق بأهداف الاستثمار والاستخدام لها، والتي يمكن علاجها وفقاً للعقيدة الإسلامية وشريعتها على خلاف كل الأديان الأخرى التي كانت محدودة في أزمنة وأمكنة محددة ولا تتجاوز واقعها كثيرا، لذا فهي غير دائمة ولا تلبي احتياجات التطور، أما الإسلام فهو عقيدة شاملة للحياة والبشرية جمعاء ومستمرة أبد الدهر حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولو عُرِضت هذه الاكتشافات العلمية على الشريعة الإسلامية لما تحولت من وسائل لتسهيل سبل العيش وإسعاد البشرية إلى أسباب لدمارها وشقائها وانحرافها عن فطرتها، فالتلوث والتغيير المناخي السلبي لم يكن ناتج لهذه الاكتشافات بقدر ما هو ناتج لروح الجشع والطمع غير المشروع لدى المستثمرين الذين لا يتورعون عن تدمير حياة الأمم والشعوب في سبيل زيادة مكاسبهم المادية، وهؤلاء لو أُخْضِعوا لمنطق الإسلام لما تمكنوا من تحويل وسائل التطور إلى وسائل للدمار.
وقد استعيرت هذه الاستخدامات المنحرفة للمكتشفات دون استثمار المكتشفات ذاتها بالصيغ السليمة التي تنسجم مع العقيدة الإسلامية ، كنتيجة للعجز الفكري الذي انتاب بعض العاملين في السياسات العربية عن قدرة الاستيعاب للعقيدة وقدرتها على مواكبة التطور في الحياة، نتيجة لنظرتهم القاصرة للإسلام من خلال الجمود الذي تسببت به المفاهيم الضيقة التي تبنتها بعض المذاهب كرد فعل على تجاوزات الفرق الضالة المضلة، والتي سعت إلى حرف الإسلام عن حقيقته، مما جعل النظرة التقدمية للإسلام تُحاصر في أضيق الحدود وترجم في أغلب الأحيان بدعوى التبديع والضلال، لذلك أبعدت الإسلام عن كل الميادين التي كان يمكن أن يكون فاعلاً من خلالها ويوجد الحلول المنطقية لتناقضاتها.
على إن المفهوم الذي اعتمده البعث في مشروعه الحضاري في العراق لم يكن علمانياً بأي شكل من أشكال العلمانية الغربية، بل كان يعتمد صيغة التجاوز لأمراض الواقع العربي بهدف تغييرها، وهي مرحلة تاريخية يتطلبها النهوض، ومنها التعددية المذهبية والطائفية، والتي تقف اليوم - كما كانت من قبل - حائلاً أمام جهود توحيد كلمة الأمة وفعلها للنهوض بأعباء رسالتها الخالدة مجدداً، المرحلة التي تحتم إنضاج قاعدة متكاملة للنهوض الحضاري، والتي تتطلب قبل كل شيء وحدة الأمة وتكاملها في كافة المجالات؛ الجغرافية والاقتصادية والاجتماعية والإرادة السياسية، فهي إذن صيغة مرحلية تتطلبها ضرورات الانتقال بالأمة من واقعها المتسم بالتجزئة والفرقة والتناحر إلى مرحلة استعادة تكوين عرى التوحد والتآزر، كأساس لمعاودة النهوض، من خلال تجاوز واقع الخلافات المذهبية والطائفية المفتعلة، والانطلاق اعتمادا على جوهر العقيدة الإسلامية، والتي يمكن بها توحيد جهود الأمة وتحقيق كامل أهدافها، وإن كان هذا لا يلغي مواجهة هذه الخلافات والمعوقات المفتعلة في المراحل اللاحقة بالكشف عن أسبابها ودوافعها الحقيقية والأهداف التي توختها، ومن ثم نفيها عن العقيدة الواحدة، لذلك يقول الشهيد صدام حسين رحمه الله:" عندما نقول إن الإسلام ثورة فلا نعني في ذلك ما يتصل بالعلاقات الإنسانية على الأرض، وما ينبغي من تصحيح لمسارها المنحرف فحسب، وإنما نعني كذلك تصحيح المسار المنحرف أو الكافر فيما يتصل بالعلاقة بين الإنسان والله الواحد الأحد، ولذلك فإن الدين الإسلامي وهكذا الديانات السماوية الأخرى لم تتعاقب كحالة من حالات تجديد الديانات وممارسة معانيها، وطقوسها عن طريق الديانة الجديدة المتناسبة مع ما أحرزته البشرية من تطور في السلوك، والعقل فحسب، وإنما هي ثورة لأنها كانت تضع الأمور في نصابها، فيما يتعلق بالعلاقة بين الإنسان والله الواحد الأحد أيضا"(2) لذلك لم يهتم الأعداء كثيرا بالعقائد والأفكار التي تبنتها الحركات والأحزاب والأنظمة السياسية العربية الأخرى، لأنهم يعلمون من خلال التجربة أنها مجرد ذرائع تتمسك بها بهدف الوصول إلى السلطة أو المحافظة عليها والتمتع بمكاسبها، فيما تركز اهتمامهم على العراق ومشروعه الحضاري لأنهم أدركوا بالتجربة أيضا إن الأهداف التي نادى بها البعث لم تكن مجرد ذرائع للوصول إلى السلطة، إنما كانت السلطة إحدى وسائل تحقيقها، فقد بدأت بتفاعلها مع الواقع العراقي والعربي بهدف تغييره وتحقيق الأهداف تشكل مخاطر حقيقية على الوجود الإمبريالي الصهيوني والشعوبي الفارسي بكل أشكاله في أوساط الأمة، فيما تشكل تهديداً جدياً على مستقبل الأنظمة الضالعة بالعمالة والتخلف.
فالبعث كفكر وتنظيم يستهدف تغيير واقع الأمة تغييراً جذرياً وأصيلا، يعتمد الموروث التاريخي مع معطيات الواقع، وليس انقلاباً يستهدف تغيير السلطة ونظامها السياسي وإصلاح أجهزتها، لأنه يعتمد صيغة بناء النموذج من خلال المجتمع المصغر المتمثل بالتنظيم الحزبي، والذي يسعى لأن يحقق انقلاباً في التفكير والأخلاق والفضائل وأساليب العمل، والنظرة الموضوعية للحياة، والتطهر من كل أدران الواقع الفاسد، بما يجعله نموذجاً حياً وبديلاً لإنسان الواقع المريض، قادراً على إنجاز فعل التغيير بصيغة التأثير الإيجابي الطوعي لا القسري.
أما أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية فهي أهداف نظرية تتطلبها المرحلة التاريخية للنهوض الحضاري، ولدت من خلال المعاناة، وتعبيراً عن إرادة التغيير لواقع الأمة المزيف، فهي ليست وسيلة إغراء بهدف التسلق للسلطة، إنما هي تتخذ من السلطة عاملاً مساعداً في سبيل تحققها، فالوحدة العربية تضمن الأمن والاستقرار لكيان الأمة وتجنبه تأثير التهديدات والتحديات الخارجية والداخلية، وتضمن نموا اقتصادياً متكاملاً، يحقق سعادة ورفاه جميع أبناء الأمة من خلال الاستثمار الأمثل للموارد البشرية والطبيعية المختلفة بما يحقق تكاملاً فاعلاً وإنتاجا وفيرا، الأمر الذي يجعل من الاقتصاد عامل تحرر كامل من الهيمنة الامبريالية، كما تضمن الوحدة صيانة الثقافة السلوكية للمجتمع العربي من الانحرافات، وتضمن أيضاً القضاء على مظاهر الاستقطاب الخارجي الذي يستهدف تدمير كيان الأمة من خلال استغلال خصائص التجزئة وتحويلها إلى عوامل تدمير للمجتمعات العربية، مثل النزعات العرقية والطائفية والقبلية.
أما الحرية فهي تعني تحرر الأمة من كل أشكال النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي، وهي أيضاً تعني حرية الفرد من خلال تحرره السياسي بالرأي والمشاركة الفاعلة في رسم معالم الحياة العامة، والاقتصادي من قيود الفقر والعوز، والثقافي من قيود الأمية والتخلف والجهل.
والاشتراكية أيضاً هي هدف نابع من واقع الأمة ومستنداً إلى إرثها الحضاري، وليس نقلاً أو تقليداً لأي فكر آخر نشأ وترعرع خارج محيط الأمة، فهو يستهدف توزيعاً عادلاً للموارد والثروات بين أبناء الأمة، بعد أن تجاوزت الفوارق بين اقتصاديات أقطارها الحدّ المعقول، فيما تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بين أبناء الأمة دون تمييز، ومنع أي مظهر من مظاهر الاستغلال غير المشروع لطاقة الإنسان العربي وجهده وثمار أتعابه، وذلك يعني وضع المجتمع العربي على أعتاب مرحلة جديدة تتسم بالحياة الحرة الكريمة، فهي إذن ليست توزيعاً للفقر بينهم بالتساوي كما تهدف المفاهيم الاشتراكية الأخرى.
ولم يكن فكر البعث وتنظيمه الوحيد بين صفوف الأمة، لكنه الوحيد من بينها الذي استهدفته القوى الإمبريالية والصهيونية وحلفائهم من الفرس الشعوبيين والرجعية العربية، لأنه كما قلنا يحمل مشروعاً حضارياً يتسم بالأصالة لكونه منبثق من معاناة الأمة من أمراض واقعها المنحرف عن حقيقة دورها، ويملك قدرة التحقق لأنه يعتمد كلياً على قدرات الأمة وخصائصها المتميزة. فحزب الإخوان المسلمين الذي أسسه الشيخ حسن البنا كان متواجداً على الساحة العربية منذ النصف الأول من القرن العشرين، اتخذ من السلفية بوجهيها المحافظ والإصلاحي منهجاً كرد فعل على واقع الاحتلال البريطاني لمصر بالدرجة الأساس، فكان معارضاً للوجود الاستعماري واستمر في معارضته بعد الاستقلال والتغيير الذي حصل عام 1952م وحتى يومنا هذا ولم يقدّم للأمة شيء يذكر عبر قرن من الزمن، ورغم اعتماده العقيدة الإسلامية فإنّ المطاف كان قد انتهى به مستهل القرن الجديد في العراق تحت مسمى الحزب الإسلامي العراقي كأداة ذليلة تنفذ مخططات الاحتلال، وتدافع عنها بكل الوسائل والسبل، فهل كانت العقيدة التي حرَّمت الاحتلال من قبل في مصر هي نفسها التي أباحته وحبذته ووهبت وجودها كأداة من أدواته في العراق منذ عام 2003م، أم أن الذي حرَّم وحلل هي مصالح الفئات المتنفذة في هذه الأحزاب ومطامعها التي اتخذت من العقيدة الإسلامية وقواعدها الحزبية المغرر بها كوسائل وأدوات لتحقيقها؟
وقد سبقت الحركة الوهابية السعودية في الجزيرة العربية هؤلاء الإخوان في هذا، فقد اتخذوا من العقيدة الإسلامية وسيلة لالتهام الإمارات العديدة المتنازعة فيما بينها على حكم أرض الجزيرة، وقد تحققت بنتيجتها المملكة السعودية الوراثية، ولم تتحقق الخلافة الإسلامية المبنية على الشورى كما أعلنوا، وكما تقتضي السلفية المحافظة في ظاهرها، واعتمدت كلياً في نشوئها وتكوينها واستمرارها على القوى الامبريالية من المغضوب عليهم والضالين، واستمرت في تبعيتها لها تنفذ مخططاتها العدوانية ضد الأمة ومصالحها وقضاياها المركزية في فلسطين والعراق.
والنظام السوري يستند في ظاهره إلى فكر البعث، الذي يضع للوحدة العربية أولوية في مقدمة أهدافه، لكن مصالح الحكام اقتضت سعيهم لتعويق أي محاولة للوحدة، وبأي شكل من أشكالها، في حين ذهب هذا النظام باتجاه التنسيق والتحالف مع الشعوبية الفارسية الخمينية بهدف إلحاق المزيد من الضرر بالأمة العربية، فتآمروا على العراق العربي بدلاً من السعي للتوحد معه أو إسناده في دفاعه عن نفسه.
وكذلك فعل الفرس خلال نظام محمد رضا بهلوي العلماني الملحد، فقد وظفوا كل طاقات بلادهم لإلحاق الضرر بالعرب وعقيدتهم الإسلامية، ودعم التمرد الكردي في شمال العراق بكل الوسائل والسبل، وحين جاء الخميني المعمم بعقيدة مناقضة، ظاهرها إسلامي عام 1979م لم يتغير حال العداء والتآمر، بل زادت حدته تجاه العرب والإسلام، وتحولت أعراف الخميني قبل أن يستلم السلطة، والتي كانت تتستر بالإسلام، إلى نقائضها حال استلامها والمباشرة بالتمتع والتلذذ بمكاسبها.
ولن نتحدث عن الحزب الشيوعي الذي رفع شعار العداء للإمبريالية والرأسمالية عدوة البرولتاريا خلال القرن العشرين ثم تحول في القرن الجديد ليكون أداة حقيرة بيد أعداء الأمس، كما حدث خلال احتلال العراق وبعده، فذاك أمر قد وعته الأمة منذ زمن بعيد، فهم في الحقيقة نشئوا أتباع لقوى خارجية وظلوا كذلك وسيبقون لأنهم انقطعوا عن جذورهم ولم يعد لهم من ملاذٍ غير الرأسمالية بعد غياب شمس الاتحاد السوفيتي. وكثير منهم كانوا قد توصلوا لهذه الحقائق، فتراجعوا عن مسلك الغي هذا، وعادوا عوداً حميداً إلى أحضان أمتهم أبناء بررة، وفي أصعب ظروف الامتحان؛ خلال الغزو الهمجي على موطنهم.
وهذا في الحقيقة هو السبب الذي دعا أعداء الأمة ليتوحدوا على هدف إيذاء العراق وتدميره دون سواه من الأقطار والأنظمة والأحزاب الأخرى، ذلك أن في العراق رُسِمَت أهداف، وجدت طريقها إلى النور بثورة 17-30 تموز 1968م، فقد باشر الثوار من طلائع الحركة التاريخية العمل على تحقيقها دون أي تسويف أو تراجع، فهذا مكمن الخطر الذي لا يمكن للقوى الامبريالية والصهيونية وأحلافهما السكوت عنه أو التهاون في ردعه، فكان التآمر والتأليب والعدوان متواصلاً حتى تحقق الغزو عام 2003م، فصُعِقت الأمة العربية لأن قيادة العراق وتجربته ومشروعه الحضاري كان كالعافية لا يُعرف فضلها إلاّ حين فقدها.
(1) سورة النمل، الآية:93. (2) صدام حسين، مجلة ألف باء، العدد972 في 13/5/1087 بغداد.
* طبع هذا الكتاب بنسخ محدودة في دار السلام بغداد عام 2009م تحدياً للغزاة وأذنابهم الذين لم يسلم من همجيتهم ووحشيتهم وحقدهم حتى الكتاب والقلم. |
||||||
. | ||||||
|
||||||