شهد القرن الماضي كغيره من القرون السابقة له انشغال العرب
بخلافاتهم الهامشية فيما بينهم، تاركين للأعداء حرية العمل بالتأمر على
مستقبلهم، فكان من بين ما انشغلوا فيه، خلافاتهم حول النظرة والموقف من
الغرب الامبريالي وحضارته، دون أن يتوحدوا على مواجهة النظرة والموقف
الغربي تجاههم، فكانوا بين مقتنع وراغب وبين رافض وبين خامل كأن الأمر
لا يعنيه بشيء، حيال سعي القوى الغربية لتجريد العرب والمسلمين من كل
مقومات المقاومة والبقاء؛ عسكرية واقتصادية وإرادة سياسية وهوية
ثقافية، حتى تحقق للغرب كل تلك المطالب فأقعدوا الأمة على عجزها
وخيبتها في العقد الأخير من القرن العشرين.
ذلك أن الفرصة قد تحققت لهم للمباشرة في هجومهم على الأمة العربية
وعقيدتها الإسلامية، بهدف إبادتهما، أو على أقل التقديرات إفراغ الوجود
العربي من مضمونه الإسلامي، لتتحول إلى أشتات لا قيمة ولا وزن ولا دور
لها، توحدت لأجل ذلك إرادة الغرب بكل مفاصله؛ الكنسية والفكرية
والإرادات السياسية والنشاطات الاقتصادية والهيمنة الإعلامية، تدعمها
وتبرر هجومها وعدوانها المنظومات السياسية الدولية، التي صيغت بطريقة
جديدة لتلبي طموحاتهم وأطماعهم بغطاء قانوني، أو ما يسمى بالشرعية
الدولية.
وقد كان غياب عامل الصراع الداخلي، باندحار الشيوعية وارتماء كياناتها
في أحضان الغرب الامبريالي وحضارته الرأسمالية، أفرز حاجة ملحة لإيجاد
عامل جديد للصراع، تتعزز به وحدة الغرب الجديدة ويدفع بها نحو التآزر
والانسجام، فكانت الأمة العربية وعقيدتها أجدر الخيارات المتاحة
وأفضلها استجابة لأن تشكل طرف الصراع الأخر، مع عدم امتلاكها لقدرة
التكافؤ، وكان لابدّ لأجل ذلك من تغيير في موقع الديانة المسيحية
ودورها في رسم سياسات الغرب في ضوء المتغيرات الجديدة، والتي كانت فيما
مضى، وعلى مدى ثلاثة قرون، قد تراجع دورها المركزي في رسم الأهداف
الكبرى للسياسات الغربية أمام العلمانية، وإن كانت الأخيرة لا تتعدى
تحريفاً آخر لكم التحريفات وعمليات التطويع للديانة المسيحية، تلبية
للأطماع الامبريالية ومناهجها السلوكية المنحرفة، ذلك لأن طبيعة الطرف
الذي اختاروه للصراع كبديل عن المعسكر الشيوعي مع بدايات انهياره في
عقد الثمانينات من القرن العشرين يرتكز بالدرجة الأساس على عقيدة
دينية، فالإسلام كان العامل الحاسم في خلق قدرة التمكين فيما مضى لدى
العرب لممارسة صراعهم الحضاري مع الغرب والشرق معاً، بكل قيمهما
البالية المنحرفة عن الفطرة وجوهر التكليف الإلهي.
وقد أثبت الحافز الديني فاعلية في تقويض المعسكر الشيوعي، كما حصل في
تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمانيا الشرقية، ونجاحه في تمزيق الاتحاد
اليوغسلافي، وكما أدى دوره الفاعل في القوقاز، وقد أثبت من قبل فاعليته
في حرف وجهة الانهيار الذي قادته قوى اليسار الإيراني المرتبطة
بالشيوعية ومعسكرها إلى اتجاه معاكس أبعد الاتحاد السوفييتي والخطر
الشيوعي عن منابع النفط الذي تهيمن عليه قوى الغرب وتعيش في كنفه، بفعل
العامل الديني أو المتستر به من خلال التسخير الناجح للخمينية في تحقيق
ذلك الهدف الكبير، فلو قدِّر للسوفييت حينها ضم إيران إلى حلفها
ومنهجها بما تملك من مصادر للطاقة النفطية وموقع تهديد مباشر لمصالح
الغرب في الخليج العربي لما تحقق انهيار المعسكر الشيوعي بتلك السرعة،
ولأمتلك قدرة كبيرة على تجديد الصراع مع الغرب وتحجيم دوره وفاعليته في
العبث بمقدرات الأمم والشعوب.
وعلى هذا الأساس فكان لابد من إظهار العرب والمسلمين بصورة توحي
بالأخطار المحدقة والتهديد الجدّي للغرب وحضارته ومعتقداته. ولعل
اختيار عام 1990م كفاتحة للهجوم الواسع النطاق على الأمة وعقيدتها، لم
يكن محض مصادفة مع تداعي الكيان الشيوعي، إنما هو خيار مرتبط بظروف
الصراع ومبرراته ومستجداته، بعد أن عجزت الخمينية الفارسية عن تحقيق أي
تقدم يخدم ذلك الهدف الكبير، حين تحالفت كل القوى ذات الإرث الصليبي
بأكثر من ثلاثين دولة على غزو العراق، بعد أن أوجدت لذلك الذرائع من
خلال أدواتهم الطيعة من أنظمة الخليج العربي، باعتبار أن العراق يشكل
قلعة العرب والإسلام المتقدمة، وما تحمله بغداد من دلالة واضحة في
الذاكرة الجمعية للأمة، كونها كانت عاصمة للدولة العربية الإسلامية في
عصرها الحضاري الزاهر، ولأنه تحول منذ عام 1968م إلى مشروع نهضة حضارية
متصل بجذوره الأصيلة ويفتح للمستقبل آفاقه الرحبة بعد أن وعت طلائعه
الواقع وشخصت أمراضه وامتلكت القدرة على علاجها، وباستهدافه والنجاح في
اجتياحه ستتداعى كل كيانات الأمة الأخرى.
ومن المؤكد أن اختيار العراق كهدف أول للهجوم الصليبي الصهيوني الشعوبي
كان مبنياً على أسس ومتطلبات التوجه الغربي الامبريالي الجديد في
انتقاء طرف جديد للصراع، أعدت فصوله وحيثياته على مدى زمن امتد مترافقا
مع طبيعة التدهور التدريجي لطرف الصراع القديم المتمثل بالمعسكر
الشيوعي على مدى أعوام عديدة، وليس لموضوعة الكويت فيه إلا توفير الحجة
والذريعة والغطاء الموهوم الذي أرادوه أن يكون هكذا، فلقد رسم الغرب
الامبريالي الصليبي بمعونة وإسناد من الصهيونية العالمية صورة واضحة
وجلية عن البعث وفكره ومدى مصداقيته في التعبير عن تطلعاته وسعيه
لتحقيق أهدافه على أرض الواقع العربي، وأمتلك بنتيجة ذلك قناعة أكيدة
أن تجربته الرائدة في وحدة مصر وسوريا عام 1958م ومشروع الوحدة
الثلاثية بين العراق ومصر وسوريا، ومحاولاته المستمرة وتضحياته السخية
في سبيل الوحدة والتآزر العربي، توجه جدي يشكل الخطر الرئيسي على
المخططات الغربية الرامية لتذويب الكيانات العربية القطرية في بوتقة
الاستحواذ الغربي، بتبنيها لفكره وسوكه اللذان ينفيان عنها عقيدتها
وأصالتها، وتحويلها إلى توابع ذليلة تندمج تدريجيا في المسار الغربي
الصليبي بدعاوى التطور الحضاري. خاصة بعد تجربة البعث في العراق منذ
ثورة تموز عام 1968م ووضوح أهدافها وجديتها وإصرارها على المضي في
مسيرة تحقيق أهدافها المركزية المرحلية في الوحدة والحرية والاشتراكية،
واعتمادها الأصيل والعلمي على مرتكزاتها الحضارية المستمدة من العقيدة
الإسلامية النقية من التشويهات والانحرافات، وقد كان تأميم الثروات
النفطية في حزيران عام 1972م تتويجا لولوج مرحلة جديدة من التحدى
والاقتدار والإصرار على مواصلة مسيرة النهوض العربي.
وللبعث وثورته في العراق كان الفضل الأكبر في وضع القوى الامبريالية
الصليبية الغربية أمام واقع ما كان بمقدورها مواجهته إلا بالكشف عن كل
حقائق الحقد الصليبي الصهيوني، والإفصاح عنه علانية وبلا تردد، وقد
ألجأهم إلى ذلك حين أيقنوا أن كل الأساليب الخبيثة التي اعتمدوها
كبدائل للعدوان الصليبي المسلح لم تحقق لهم ما كانوا يطمحون لتحقيقه من
سلخ العقيدة التي أعطت للعرب بعداً حضارياً جديداً وجعلت منهم قوة بناء
هائلة، أنجزت ما لم تقوى على إنجازه أية حضارة أخرى، بأصالتها و
انسجامها مع الفطرة السوية بكل قيمها النبيلة.
لكنّ أحداً من الصليبيين الجد لم يتوقف مرة ويتسائل مع نفسه: ماذا حققت
لهم الحروب الصليبية السابقة، كي تحقق لهم صليبيتهم الجديدة؟!!
فها هم ينحدرون بكل حلفهم الواسع المتعدد الأطراف والوجوه إلى الهاوية
السحيقة بفعل مقاومة رجال البعث والعروبة والإسلام وضرباتهم الماحقة
مرة أخرى، كما هوت بهم حروبهم السابقة بفعل مقاومة العرب المسلمين
بقيادة صلاح الدين الأيوبي، ويومها لم يكن حال العرب بأفضل من واقعهم
اليوم، من التشرذم والتمزق والاحتراب والتكالب على السلطة والملك، لكن
الخطر وحد إرادتهم وسدد رميهم فانتصروا على إرادة الشرّ والعدوان،
وسينتصرون بإذن الله وعونه في هذه المرّة.
|