سواء كانت التهديدات التي تطلقاها إسرائيل ضد سورية مجرد "حرب كلامية"
فارغة أو تمرينات سياسية لحرب فعلية، فان الوقوف الى جانب سورية حق
وواجب. حق لها وواجب على الجميع.
ضع هذا الحق والواجب في سياق ما يقترحه من أقدار، وسترى انه مكسب
تاريخي أيضا.
من حيث المبدأ، نحن نعرف إن إسرائيل أضعف كثيرا من أن تجرؤ على شن حرب
ضد سورية.
نعم، تملك إسرائيل أسلحة متفوقة.
نعم، تملك غطاء دوليا يجعلها تفلت من كل عمل عدواني تشنه ضد الجوار.
نعم، تملك فيتو اميركي جاهز لوقف أي إدانة.
نعم، تملك مجلس أمن لن يصدر قرارا بوقف إطلاق النار إلا عندما يشعر ان
إسرائيل بدأت تخسر.
نعم، تملك إسرائيل تضامنا عربيا مهلهلا لن يتحول الى طائرات وصواريخ
ومدافع.
نعم، تملك إسرائيل جامعة عربية، لو تغير النظام في دمشق (كما حدث في
بغداد) لاعترفت بالنظام الجديد ودعمت "عمليته السياسية".
ولكنها لا تملك القدرة على مواجهة مقاومة كالمقاومة التي يخوضها
العراقيون ضد الإحتلال، إذا اندلعت في سورية.
لقد دفعت المقاومة الوطنية العراقية الولايات المتحدة الى شفير
الإفلاس. وهي أذاقت الغزاة، وما تزال تذيقهم، مرارة الهزيمة كل يوم.
وسجل العمليات، الذي بلغ مستويات اسطورية، شاهدٌ كاف على ما يمكن ان
تعنيه إرادة الأحرار.
وسيكون من أسعد الأيام، ان يأتي الإسرائيليون الى دمشق. ستريهم دمشق من
هي. وسيرهم الدمشقيون كيف تكون إرادة الأحرار.
ولو جاء الإسرائيليون مع حلفائهم الاميركيين، فسيكون هذا أفضل مما لو
انهم جاءوا بمفردهم. فالهزيمة تكون أبلغ إذا أطاحت بهما معا.
إسرائيل تعرف هذا. وتعرف انها ورّطت الولايات المتحدة في حرب ضد العراق
من اجل الانتقام وتوسيع الأطماع، في غمرة الحرب ضد أفغانستان. فخسرت
الحربين معا.
وتعرف اسرائيل ان الولايات المتحدة لا تجني من تحولها الى قوة غزو
مباشر، إلا ما جنته هي نفسها على مر الأيام.
وإسرائيل تعرف ان الولايات المتحدة لا تملك الوسيلة ولا الإمكانيات
لتوسيع نطاق الفوضى "الخلاقة". لأن إفلاسها الراهن (12 تريليون دولار
ديون، و1.5 تريليون دولار عجز سنوي جاري) يعني انها لن تكون قادرة على
تمويل حرب جديدة.
وإسرائيل تعرف ان جيشها بات مهزوما، ليس لانه يملك أسلحة أقل، بل لانه
لم يعد يملك القدرة على إدامة احتلال.
لقد هُزم هذا الجيش في غزة، كما هزم في الضفة الغربية، هزيمته في جنوب
لبنان.
القدرة على الاحتلال هي ما صنع إسرائيل كوجود. لقد كانت هذه الدويلة
"الفصعونية" تستطيع ان تغزو وان تبقى لسنوات، مدعومة بإمبريالية قوية
وباقتصاد رأسمالي متفوق وقادر على تعويض خسائره بالنمو.
اليوم، هذا كله ينهار.
الاقتصاد مأزوم، والنمو حلم ليلة صيف، والديون ترتفع كجبال أعلى بكثير
من طاقة الانتاج، والنموذج القائم على الرفاهية يشيخ الى حد انه لم يعد
قادرا على تسديد كلفته الأساسية. (عشرات الملايين لم يعودوا يأمنون على
ضماناتهم التقاعدية. ونظام الضمانات نفسه يواجه عجزا كارثيا يضعه على
حافة الافلاس)، وثمة دول كانت تبدو قوية (اليونان، البرتغال، إسبانيا،
ايسلندا) لم تعد قادرة على تمويل ديونها.
وبدلا من ان تكون الولايات المتحدة سندا عسكريا واقتصاديا لغزوات
إسرائيل، فانها غارقة في مستنقع بلا قرار في العراق. وبرغم انها تحاول
ان تبدو وكأنها ما تزال قادرة على التحكم في مجريات اللعبة، فان حاصل
الجمع والطرح يُظهر بوضوح انها تلعب على خسارة، وتراهن على التعويض في
بيئة هشة وشديدة التقلب.
آلية التقلب الحادة، تكفي لوحدها لتقديم دلالة كافية على ان الربح نفسه
خسارة، فما بالك بالخسارة نفسها.
وثمة حرب أخرى لا تخسرها الولايات المتحدة في افغانستان وحدها، ولكنها
تخسرها في باكستان أيضا. فهذا البلد يُفلس أيضا. وميزان مدفوعاته يعاني
من فتق لم تستطع معونات صندوق النقد والبنك الدوليين من رتقه حتى الآن.
ومن إستراتيجية فاشلة الى اخرى أكثر فشلا، فان الشيء الوحيد الذي يمكن
انتظاره هناك هو إعلان الهزيمة.
أفي هذه الظروف تريد إسرائيل أن تغزو سورية وتهدد بأن تصل الى دمشق؟
أولى بهذا الكيان الفصعوني أن يضع ذيله بين قائمتيه، ويخرس.
وربما كان أولى بسورية أن تنتهز الفرصة لتحريض إسرائيل على شن العدوان.
فإذا كان الأمر اختبارا للأعصاب، فان طلقتين عبر الحدود ستكونان
كافيتين لهز الرُكب.
إسرائيل اليوم كيان ضائع كليا: فهي لا تعرف كيف تعيش من دون إحتلال،
ولكنها لم تعد قادرة على إدامة أي احتلال!
وهذه مفارقة تاريخية خطيرة. لم يلحظها الكثيرون بعد، ولكنها تصيب وجود
إسرائيل بعطب كلي وشامل.
فالهوة لا تقتصر على "الهوية" وحدها (إسرائيل، جيش له دولة)، ولكنها
تشمل العجز المادي والأيديولوجي على تغيير الاتجاه (أن تكون دولة لها
جيش).
والمغامرة ضد سورية عمل رائع، لو كانت إسرائيل تقدر عليه. ويجب تشجيعها
على القيام به.
ما سيحصل هو ان كل بؤر المقاومة ستنفجر هناك. وما تفرق منها، بين
العراق وفلسطين ولبنان، سيجتمع في مرجة الأحرار.
العراقيون يقاومون بمفردهم. وفي الكثير من الاحيان، فانهم يتلقون
الطعنات من سورية ومن "مقاوماتها" الموالية لآية الله جلال طالباني
(عظّم الله سرّه في دفتر الشيكات)، والموالية لآية الله خامنئي (أدام
الله ظله تحت سلطة العم سام في بغداد).
ولكن المحنة ستميّز الاحرار، وستجمع بينهم. وستكون ملحمة، من أعظم
ملاحم التاريخ، وأكثرها دويا. وهات من يمكنه أن يوقف مسلسل الإنهيارات،
ليس في المنطقة وحدها، بل في العالم بأسره.
عندما دخل الاسرائيليون بيروت عام 1982، هربوا منها بعد بضعة ايام
رافعين مكبرات الصوت لتقول: لا تطلقوا النار فنحن منسحبون.
اما في دمشق 2010 او 2011، فان مكبرات الصوت ستقول: لا تطلقوا النار،
فنحن مسافرون!
الأولى فعلها شارون. ويا ريت، يفعلها نتنياهو.
شارون ادرك، ابتداء من العام 1982 ان اسرائيل كيان غير قادر على
التوسع. هذا الدرس تأكد في جنوب لبنان عدة مرات.
جلبت اسرائيل اميركا الى المنطقة لتسند تطلعاتها التوسعية. البعبع
الصغير لم قادرا على إملاء إرادته، فجلب البعبع الكبير شخصيا. ولكن
الرهان أصيب بالإفلاس. وسيحتاج الأمر غزوا لعاصمة عربية أخرى لتدرك
إسرائيل النصف الآخر من الدرس: انها كيان غير قادر على البقاء.
وسيكتمل الإفلاس، في الولايات المتحدة، ومنها على مدار الكرة الأرضية.
أحرب إذن؟ يا ريت.
|