المألوف في القمم العربية انها مملة، وبالتأكيد فانها من دون
مفاجآت. ويكاد المرء لفرط ما يعرف نتائجها أن يُصدر بيانها الختامي قبل
أن تُعقد.
وعندما يقال ان القمة ستعقد "بمن حضر"، فالأمر على حقيقته لا يشكل فرقا
كبيرا. حتى انه ليمكن عقد القمة العربية من دون أن يحضر أي أحد. فطالما
ان الأمر يتعلق ببيان ختامي قرأناه عدة مرات من قبل، وبما انه يتضمن
الفقرات المألوفة أياها عن القضايا العربية إياها، فان أهون مهمة،
وربما أفضل لجنة، هي لجنة الصياغة. فهذه لديها من الصياغات الجاهزة ما
يغنيها عن التفكير بعبارات جديدة.
ولا شيء جديدا عادة. فعلى سبيل المثال، فلو قلنا ان الولايات المتحدة
قررت غزو واحتلال مصر أو موريتانيا، فلا توجد مشكلة: البيان الختامي
سيطالب باحترام سيادة واستقلال ووحدة مصر، ويدعو الولايات المتحدة الى
سحب قواتها ويحث الشعب المصري على إدارة شؤونه بنفسه ويعد بتقديم "كل
أشكال الدعم" له. و... خلصنا، الى السنة التالية، حيث تعيد القمة تشغيل
الاسطوانة نفسها. ولكن هذا الواقع، على هزاله، وعلى قلة حيلتنا فيه،
سوف يصبح طموحا قياسا بما قد يحصل في قمة طرابلس. فالزعيم الليبي الذي
نادرا ما ترك مناسبة من دون مفاجأة، ربما يعد من المفاجآت المروعة ما
يكفي ليجعلنا نترحم على كل أيام الملل.
أول المفاجآت كان تحويل مسار القمة لتعقد في مدينة سرت، بدلا من
العاصمة طرابلس.
ويقال، مع بعض الظن، إن العقيد القذافي يكره طرابلس. وهو أهملها لعقود
من السنوات حتى اهترأت. وكان من الطبيعي أن يختار عليها أي مدينة أخرى.
ولكن مع ذلك، فقد كان اختيار سرت مفاجأة، أهان بها القذافي عاصمة
بلاده، خاصة وأن القمة الحالية هي أول قمة عربية تستيضفها ليبيا. وكان
يليق بالعاصمة أن تستعد وتتزين لمناسبة تاريخية كهذه، كما فعلت عواصم
عربية غيرها من قبل.
ولا سبيل لحصر المفاجآت التي كان يقدمها الزعيم الليبي. وكان آخرها أنه
قاطع رئيس القمة العربية التي عقدت في قطر، بينما كان يلقي خطابه
الافتتاحي، لينكأ جرحا مع العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبد العزيز.
ولولا إن الرجل تعالى على الإحراج من أجل أن يبقى على عهده في الدفع
باتجاه تعزيز التضامن العربي، لكان "الزعل" صار هو القصة، ولكانت القمة
خربت، ولكنّا اصبحنا (على ما وشكنا) مضحكة للعالمين.
الآن، لو كان لدينا زعماء يتمتعون بالطرافة نفسها، لكان يجدر بأحدهم أن
يقاطعه وهو يدلي بخطابه الإفتتاحي، ليطرح موضوعا لا علاقة له بالخطاب
الافتتاحي وليس مدرجا على جدول أعمال القمة. على الأقل لكي نرى ماذا
ستكون ردة فعله.
ومع ذلك، فهذا هين للغاية حيال ما يمكن أن يأتي من مفاجآت. فالزعيم
الليبي يمكن ان يطرح قضايا، أنزل وما أنزل الله بها من سلطان. وقد يثير
دعوات يصعب التعامل معها، كما انه قد يطرح مشاريع لم يدرسها أحد ولم
يتم التشاور بشأنها ولا حتى مع الجن الأزرق.
والشهادة لله، فالزعيم القذافي سيدلي بكلام يخطف الأنفاس (من وجهة نظر
شعبوية) في إدانة الإمبريالية وجرائمها واعمالها. ولكن لو كانت ليبيا
لا تستثمر مئات المليارات من أموالها في بنوك ومشاريع الإمبريالية
وأسهم بورصاتها، لكانت مصيبتنا أهون. على الأقل، فاننا لن نخرج من مغطس
الشيزوفرينيا ونحن نردد: "أسمع كلامك يعجبني،....".
ولكن الكلام الشعبوي نفسه سيكون إعرابا في غير محله أيضا. فمعظم
الزعماء العرب يأتون من طرف أفعاله أكثر مما يأتون من طرف أقواله. فاذا
فاجأهم بالأقوال، كانت مصيبة، وإذا فاجأهم بالأفعال، كانت المصيبةُ
أعظمُ.
المرءُ، على أي حال، يجب أن يكون "عالما بالغيب والشهادة" لكي يكون
قادرا على توقع ما يمكن أن يُقال أو يحصل.
فالزعيم الليبي يمكن، على سبيل المثال، أن يطرح مشروعا لإلغاء الأمة
العربية. سيقول، مثلا، انه لم يعد لها لزوم.
ومثلما عرض على القارة الافريقية أن توّسع مشروعها الوحدي ليشمل دول
الكاريبي، فانه يمكن أن يعرض على الدول العربية مشروعا للوحدة مع
أوكرانيا.
ومن دون أن يسأل الأتراك رأيهم، فهناك امكانية فعلية ليطرح فكرة عودة
السلطنة العثمانية، مستشهدا بحسن العلاقات العربية مع تركيا.
وما المانع، فانه ربما كان سيطالب العرب بتعلم اللغة التركية لكي
يوفروا على أنفسهم عناء دبلجة المسلسلات التركية.
وبدلا من الدعوة لتحرير فلسطين، فانه يمكن أن يدعو لتحرير إسراطين،
وإيجاد تسوية تقبل بها حماس لانتخاب رئيس هندي، بدلا من إعادة إنتخاب
محمود عباس.
وفي الواقع، فانه برغم دعواته المخلصة لتحقيق الوحدة الأفريقية، فانه
سيجدد تأييده لتقسيم السودان ويدعم نشوء دولة جديدة في الجنوب، وأخرى
في كردفان. وسيترك لذوي النوايا السيئة أن يفهموا القصد كما يشاءون.
فوحدها قلوبهم التي فيها مرض هي التي ستمنعهم من رؤية الحقيقة وهي انه
ماذا سيبقى من المشروع الوحدوي إذا كانت الدول غير مقسمة؟ وماذا ستفيد
وحدة السودان إذا لم تكن هناك أسباب لتداول نظرية الوحدة؟
ومع انه انقلب على ملك مسكين (لم يستثمر أموال بلاده في إيطاليا) ليقيم
جماهيرية على أنقاض مملكة فتية، فليس من المستبعد أن يُذّكر القادة
العرب بانه "ملك ملوك افريقيا"، وأن يطلب تسجيل هذا المنصب في السجل
الرسمي للجامعة العربية.
ونكاية بالوحدويين العرب، فانه سيعلن تأييده لتقسيم العراق أيضا، سيبرر
الأمر بالقول: لكي يضمن السنة والشيعة الفرصة لانتخاب عربي من جلدهم.
أما إذا تناحروا فيما بينهم، فانه سيحلها بطرح نظريته الفاطمية للتقريب
بين المذاهب.
أما كيف ستكون الاجتماعات، فالله وحده أعلم. فالبروتوكول شيء غير مألوف
في ليبيا. والقمة قد تعقد في خيمة، أما جلساتها السرية فتجرى خلف قطيع
من النوق. فاذا ما هبّت ريح، فان أصحاب الجلالة وحدهم سيعرفون كيف
يتدبرون الأمر، تاركين أصحاب الفخامة يبحثون عن مأوى من الرمال.
الحريصون على التضامن العربي سيذهبون الى ليبيا، مهما كلف الأمر.
وبعضهم سيذهب وهو يقول: يا رب سترك.
البعض سيقول ان هذا الزعيم يفعل ما يفعل لانه يسخر من حال لم تعد تنفع
معه إلا السخرية.
والبعض الآخر سيقول انه "جاد" وجديته أسوأ من سخريته، لان ليبيا تهترئ
من كثرة ... "السخرية" بها وبجوارها.
ولكن ما لا جدال فيه هو انه بات من النرجسية بحيث انه اختار مسقط رأسه
لعقد القمة ليزيد طينتها بلة.
طبعا لن يسأله أحد: نرجسية، على أيش؟ على دولة الخراب والفوضى؟ أم على
الفساد؟ ام على الاستثمارات في الخارج التي لا يعلم بمصيرها أحد؟ أم
على خراب البنية التحتية وفشل أنظمة الخدمات الأساسية؟
صدفة الأبجدية التي ساقت القمة الى ليبيا يجب ألا تحول دون استدراك
الواقع. فهذا بلدٌ منكوبٌ حقا. وهو أولى بمجيء فرق إغاثة من عقد قمة
عربية فيه.
وكل شيء في القمة يمكن ان يكون عنوانا لمفاجأة. من شعارها الى الملابس
التي يرتديها رئيس القمة. وذلك لكي يجبر الزعماء العرب على النظر الى
الصور والخرائط التي يحملها، بينما هو يقرأ بيانا افتتاحيا او ختاميا
عن موضوع آخر. وقد يخطر له ان يجبر الجميع على انتظاره، متذرعا بانه
كان يُصلي، ليقول لنظرائه انهم ليسوا أهم من الله. بل وقد لا يأتي
أصلا. ولا أحد، على الإطلاق، سيكون قادرا على التحكم بتداعيات ما قد
يقول أو يفعل.
وعلى أي حال، فمن دون مفاجآت، فان الأمر سيكون بمثابة حفلة فاسدة
بالنسبة له.
ومن عمل استعراضي الى آخر، فكلُّ شيء يمكن أن يتحول من مهزلة الى
مأساة، وبالعكس.
وحيال مغامرة غير محمودة العواقب، فان السؤال المنطقي الذي سيواجه
الزعماء العرب هو: هل ستفرق كثيرا، ذهبنا أم لم نذهب؟
البيان الختامي يمكن أن يكون جاهزا، ولجنة الصياغة ستضع بيانين سابقين
أو ثلاثة في "الخلاط" ليطلع بيان رابع يشبه البيان الخامس الذي ستصدره
القمة ما بعد المقبلة.
فاذا كانت القمم العربية بكل رتابتها ليست مما تحمد عواقبه بسبب وجود
الزعيم الليبي، فكيف ستكون إذا كان هو رئيسها؟ وبأي حال ستكون إذا عقدت
وفقا لبروتوكولاته العشوائية؟
وإذا كان أولها سرت، فما الذي يضمن ألا تكون آخرتها سبها؟
وحيث انه سبق وان اقترح أن يكون لاسرائيل مقعد في الجامعة العربية، فمن
ذا الذي يضمن أن يذهب الى ليبيا فلا يجد شيمون بيريز جالسا في مقعد
عمرو موسى؟
إذا كان لي أقدم نصيحة للزعماء العرب، فنصيحتي هي: لا تذهبوا. أولا: مش
ناقصة. وثانيا، مش مستاهلة. وثالثا، حفظا لكرامة طرابلس، واحتراما
لأهلها، فقد كانوا أولى بكم في أول قمة عربية تعقد في ليبيا.
|