من يتابع أخبار ما يُسمى بالعملية السياسية في العراق المحتل, وبالأخص
الجانب المتعلّق بالانتخابات التشريعية القادمة, يُصاب بصداع مزمن بسبب
تضارب وتناقض الأنباء والقرارات والتصريحات وما يلحقها بعد ساعات من
نفي أو تأكيد من قبل هذا المسؤول أو ذاك. والسبب دائما هو إن المادة
الدستورية الفلانية تمّ تفسيرها بشكل لا يتناسب مع أهداف وطموحات
ورغبات مَن يشعرون بأن عروشهم الخاوية في طريقها الى الانهيار فوق
رؤوسهم, وإن الفرص الذهبية التي وفّرتها لهم دولتا الاحتلال أمريكا
وإبران, بدأت تتلاشى وتتسرّب من بين أيديهم بعد أن عرّتهم سنوات
الاحتلال وكشفت كلّ ما فيهم من مساويء سياسية وأخلاقية ودينية.
ووجد عملاء جارة السوء إيران, حكام العراق المحتل, ضالتهم في موضوع
إجتثاث بعض الشخصيات والكيانات وحرمانها من المشاركة في الانتخابات
القادمة متذرّعين بدستورٍ هُم أعرف من سواهم بانه غير شرعي وناتج عن
عملية سياسية مشوّهة فرضتها أمريكا على العراقيين وعلى العالم. لكنه
تحوّل من دستور للجميع, كما يُفترض بأي دستور وفي أي مكان, الى سلاح
فتاك بيد قلّة حاكمة متنفّة, تبحث دائما في طياته وهوامشه عمّا يشفي
غليلها لمحاربة وإقصاء وتهميش الخصوم.
وبما أن العميل نوري المالكي مُصاب بالرعب المزمن من عودة حزب البعث,
ولو عبر أنصار أو مؤدّين أو مجرّد ناس بسطاء, وأن نتائج الانتخابات
القادمة كما تشير الكثير من المصادر المطّلعة, ليست في صالحه, فلا بأس
بالنسبة له من تأجيل الانتخابات أو حتى إلغائها بأمر من عمائم الشر في
طهران. لأن الدُمى التي يحركونها على هواهم, كالمالكي والحكيم والصدر,
وبشكل من الأشكال الثنائي الغير مرح البرزاني والطلباني, فَقدت بريقها
الزائف أصلا وإتّسعت هوّة الجفاء والعزلة بينها وبين غالبية الشعب
العراقي.
ولا نستبعد, إذا لم يحقّق العميل المالكي هدفه في إخلاء الساحة من
خصومه ومنافسيه, أن تتحوّل ميادين بغداد والمدن الأخرى الى ساحات حرب
وحمامات دم. بدليل إن ماكينة الاغتيالات, وجميعها إغتيالات سياسية
وضحاياها خصوم للمالكي وللأحزاب الطائفية الملتفّة حوله وتقوم بها
ميلشيات تابعة للحكومة العميلة ولفرق الموت المجوسية, بدأت في الدوران
أكثر من المعتاد. فالديمقراطية بمفهوم أناس صنعتهم وكالات المخابرات
الأجنبية, أمريكية وإنكليزية وإسرايلية وإيرانية وكويتية, وربّتهم على
كره العراق وشعبه, لا تعني الاّ القضاء على الآخر وحجره ومنعه من تنفّس
هواء ديمقراطيتهم المزعومة حتى وإن كان مشاركا في عمليتهم السياسية
الكوميدية.
ولا شك إن الحراك والعراك والصراع الدائر هذه الأيام بين حكّام بغداد
المحتلّة ومَن إنخرط معهم, ربما بحسن نيّة, في لعبة"الديمقراطية"
القاتلة التي كلّفت العراق ملايين الشهداء والمهجّرين والمعتقلين
والعاطلين عن العمل وخراب لا يُصف في إقتصاد وثروات البلاد, هو في
الواقع صراع "داخلي" أي داخل المنطقة الخضراء. ولا يعني غالبية الشعب
العراقي الذي له من المشاكل والهموم والمآسي ما يجعله يكفّر ويلعن أية
ديمقراطية في العالم.
ومهما يكن طعم ولون ورائحة الديمقراطية والتطبيل والتزميرلها, خصوصا في
ظل إحتلالين أمريكي عسكري مباشر وإيراني ملتف بعباءة التشيّع وعبر
وكلاء وأحزاب طائفية وعراقيّة بالأسم فقط, فأنها ستبقى, أي الديمقراطية
أعجز من أن تُشبع جائعا, على الأقل بمكونات الحصّة التموينية كاملة
وغير منقوصة أو مسروقة أو تروي ضمآنا, من الماء الصالح للشرب طبعا, أو
تبدّد ظلام البيت والحارة والشارع. والمواطن العراقي يعرف أكثر من غيره
أنه ليس بالديمقراطية وحدها يحيا الانسان.
وكان أولى بحكّام العراق الجديد أن يوفّروا, لو لم يكونوا لصوصا
وفسّادا وعملاءا للأجنبي, بعض الخدمات الضرورية للمواطنين حتى ينالوا
ثقتهم ودعمه وأصواتهم الانتخابية مستقبلا, بدلا من أن يتصارعوا
ويتعاركوا فيما بينهم على السلطة الوهمية والجاه الزائف والمال الحرام.
وحتى لو قدّر لما يُسمى بالعملية السياسية أن تتحرّك بضعة أمتار الى
الأمام فان المواطن العراقي, وبعد تجرية مريرة ومؤلمة جدا مع نفس
الكيانات والكتل السياسية والوجوه القبيحة, لم يعد يوليها إهتماما
يُذكر.
وقد لا يعنيه كثيرا مَن سيفوز أو يخسر في الانتخابات التشريعية
القادمة. فكلّهم في مركب واحد تتقاذفه أمواج الفساد والسرقة والرشوة
والاثراء الفاحش اللاشرعي. ولا يبدو أن ثمة إمكانية
لمركبهم"السكران"بخمرة السلطة والدولارات الملوّثة بدم آلاف الأبرياء,
للوصول الى شاطيءٍ ما. وما على العراقيين الشرفاء, بمختلاف إنتماءاتهم
القومية والعرقية والسياسية والدينية, غير تكثيف جهودهم وتوحيد كلمتهم
وفعلهم المقاوم من أجل إغراق مركب العملاء والخونة, حكام بغداد
المحتلّلة, وسط بحرالفوضى"الخلاّقة" التي حملتهم الى أرض الرافدين.
وفي رأيي المتواضع, على الذين شملّهم الاجتثاث والابعاد والحرمان من
المشاركة في الانتخابات القادممة أن بيتهجوا ويفرحوا ويحمدوا الله
ويشكرونه بدل أن يقدّموا طعونا أو إعترااضات على قرار"هيئة المساءلة
والعدالة" التي شطبت أسماءهم بقلمها "الديمقراطي" العريض. ومن الأشرف
للانسان أن يكون مواطنا عاديا لا يعرفه أحد من أن يكون عضوا في برلمان
طائفي فاقد للشرعية ومسلوب الارادة والقرار, وفوق كل هذا وذاك يحكمه
ويشرف عليه ويتدخّل في شؤونه بشكل فض السفير الأمريكي في بغداد, أو
شريكه في الاحتلال والغزو والهيمنة, سفير جارة السوء إيرا،ن.
|