الجزرة التي تتعامل بها أمريكا مع الأنظمة العربية وحكامها هي نفس
الجزرة, يتناوب الرؤساء الأمريكان على تقديمها الواحد تلو الآخر. جزرة
ذابلة, بلا لون ولا طعم ولا رائحة. ومع ذلك مازالت تثير شهيّة حكامنا
"الأشاوس" باعتبارها أفضل ما يمكن الحصول عليه من سيّدهم المتغطرس
المتجبّر. ومعلوم أن العبد, ونحن نعيش بطبيعة الحال عبودية من نوع آخر,
يرتضي بأي شيء يأتيه من صاحب النعمة وربّ البيت. بالرغم من أننا أصحاب
النِعم والثروات والخيرات. وكلّ ما ينقصنا, أو ينقص حكامنا العرب, هو
القليل من الشجاعة والقليل من الارادة والقليل من الشعور بالمسؤولية
أزاء الوطن والمواطن.
وعندما يبدي الحاكم أو المسؤول العربي شيئا من التردّد في تقبّل جزرة
أمريكا أو الاقتراب منها تلجأ دولة العم سام الى مخزنها المليء بالعصي,
وهي بالمئات والأحجام والأشكال وتناسب كل مرحلة وكلّ دولة, لكي تعيد
مَن يرفض جزرتها الذابلة الى رشده. وتتوزّع وتتنوّع وسائلها وسبلها في
إستخدام العصا من أجل إبقاء ذلك الحاكم أو المسؤول العربي توّاقا
ومتلهّفا دائما الى جزرتها. ويمكن القول إن ديمقراطية
أمريكا"النادرة"مبنية على مبدأ العصا لمن عصى. وهي تعرف أيضا إن الحكام
العرب, من صغيرهم الى كبيرهم, مغرمون حدّ الجنون بكل ما هو أمريكي بما
فيه العصا الغليضة. ويكفيهم نظرة عابرة أو إشارة أو فاكس أو غمزة من
مسؤول أمريكي حتى ينبطحوا على ظهورهم, مردّدين قول المتنبي:"إن القليلَ
من الحبيبِ كثيرُ".
وعليه, لم يعد يهمّ الحاكم العربي كون ثلث أو ثلثي أوطاننا تحوّلت الى
قواعد عسكرية أمريكية, طبعا ليس لحمايتنا ولا حتى, في أحيان كثيرة,
لحماية الحكام أنفسهم بل من أجل حماية الكيان الصهيوني الغاصب وإستمرار
تفوّقه في جميع المجالات وغض الطرف والدفاع عن كل جرائمه التي يرتكبها
بحق الشعب الفلسطيني الأعزل. ولم يعد يثير إهتمام الحاكم العربي, طالما
بقيت الجزرة الأمريكية الذابلة معلّقة أمام فمه, أن ثروات وخيرات الوطن
تُنهب ليل نهار وتتحوّل الى بضائع مختلفة وأسلحة حديثة يُعاد بيعها
علينا بأثمان باهضة جدا ولا يُسمح لنا بإستخدامها أبدا الا ضد بعضنا
البعض.
وإذا تفضّلت أمريكا وتكرّمت على نظام عربي, بعد أن تخلع عنه كل ثياب
العفّة والشرف والغيرة, فأنها تقدّم له وعدا, وهذه هي جزرتها الوحيدة,
باعادة سفيرها الى عاصمته بعد إنقطاع وجفاء أو ترفع إسم بلاده من لائحة
الدول الراعية للارهاب, رغم أن أمريكا نفسها هي أكبر راعي وحامي ومُنتج
لكلّ أنواع الارهاب. كما لا يهمّ الحاكم العربي, لأن جلّ إهتمامه منصبّ
على إطالة عمره السياسي والزمني في السلطة, إن أرضنا العربية تحوّلت
الى مسارح, وليس مسرحا واحدا, لمؤتمرات ولقاءات وإجتماعات دولة العم
سام. وما على أصحاب الجلالة والفخامة والسمو, حكّامنا الكرماء, الاّ
دفع تكاليف ومصاريف ونثريات ما تقوم به أمريكا من عمليات ترويج ودعاية
لسياستها المعادية للعرب والمسلمين.
ومن السذاجة والغباء على أي إنسان, سواءا كانا حاكما أو محكوما, أن
يتصوّر أن لدى أمريكا بديلا آخرا عن تلك "الجزرة" الباهتة التي تُقدّم
على طاولة قادتنا وزعمائنا كلّما إقتضت الضرورات الأمريكية. وتندرج في
هذا الاطار زيارات المسؤولين الأمريكان المتكررة الى المنطقة وخطابات
باراك أوباما المطليّة بالعسل والعطور, التي يبعثها عبر الأقمار
الصناعية الى المشاركين في المؤتمرات التي تعقد في عواصمنا. ولا يُخفى
إن الغاية والهدف من جميع المؤتمرات التي تُعقد على أرض عربية وبأموال
وجهود عربية, وتزمير وتطبيل ورقص من قبل الحكام العرب, هي تحقيق مصالح
ومطالب أمريكا التى لا ترى في هذا الكون أحدا سواها.
وإذا عجزت, وهو أمر نادر الحدوث, عن إخضاع أو تحييد حاكم عربي من
أتباعها, فأن أمريكا سرعان ما تلجأ الى الوسيلة الأكثر فائدة وربحا
لها, أي إشعال الفتن والتوترات والقلاقل في المنطقة لتضرب أكثر من
عصفور بحجر واحد. ولديها من العصي الغليضة ما يكفي للجميع. ولو توفّرت
ذرّة من الارادة والرجولة لدى الحكام العرب, وهو أمر مشكوك فيه كثيرا,
لتكسّرت جميع العصي التي تلوّح بها أمريكا في وجوهنا. وأولها كسر عصا
الحصار المفروض على قطاع غزة.
فليس من المعقول, الاّ في الزمن العربي الرديء, أن يغامر ويقامر
المواطن الأوروبي بحياته ويقطع المسافات الطويلة حاملا معه البسمة وما
ملكت يداه من مساعدات الى الشعب الفلسطيني المحاصر عربيا وأمريكيا
وصهيونيا في قطاع غزة,. في الوقت الذي يعجز الحاكم العربي, خوفا من
أمريكا والكيان الصهيوني اللقيط, بالتوجّه الى هناك والوقوف الى جانب
أبناء دينه ولغته وتاريخه وأرضه. لكن يجب القول إن ما يميّز الحكام
والمسؤولين العرب عن بقية البشر هو أنهم يرتجفون ويصابون بالرعب والهلع
من رؤية العصا الأمريكية ولو من بعيد, بينما سواهم لا يخاف ولا يهاب
الاّ من ضميره الانساني ومبادئه التي تربى عليها والتي هي بالنسبة له
أغلى وأهم من أي منصب أو سلطة أو جاه.
|